سلمى قاسم جودة
سلمى قاسم جودة


لحظة وعى

سلمى قاسم جودة تكتب : جامعة القاهرة.. وغواية النوستالجيا

آخر ساعة

الأحد، 31 أكتوبر 2021 - 11:39 ص

رهبة‭ ‬الحرية‭ ‬المربكة‭.. ‬الغربة‭ ‬الزاحفة‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬الصخب‭ ‬والزحام‭.. ‬سحر‭ ‬البدايات‭ ‬الحائرة‭ ‬بين‭ ‬البهجة‭ ‬والخوف،‭ ‬فالحلم‭ ‬المنشود‭ ‬تحقق‭ ‬والدخول‭ ‬إلى‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬العريقة‭ ‬صار‭ ‬حقيقة‭ ‬جميلة،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬اختلاط‭ ‬المشاعر‭ ‬فها‭ ‬هو‭ ‬التيه‭ ‬فى‭ ‬خضم‭ ‬التنوع‭ ‬الشاهق‭ ‬والاختلاف،‭ ‬ثقل‭ ‬إرهاصات‭ ‬المسئولية،‭ ‬فنحن‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬الوعى،‭ ‬ووداعا‭ ‬لخفة‭ ‬الوجود‭ ‬المدرسية،‭ ‬الكل‭ ‬مسكون‭ ‬بشغف‭ ‬الفضول‭ ‬والمعرفة،‭ ‬الزهو‭ ‬بفعل‭ ‬اقتفاء‭ ‬أثر‭ ‬الخطوات‭ ‬المهيبة‭ ‬لعميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربى‭ ‬د‭. ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬الذى‭ ‬قال‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭: "‬فلنبتهل‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬فى‭ ‬أن‭ ‬يبرئنا‭ ‬من‭ ‬علة‭ ‬الكلام‭ ‬الكثير،‭ ‬فلعلنا‭ ‬إن‭ ‬برئنا‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العلة‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬العزاء‭ ‬عن‭ ‬آلامنا‭ ‬وكوارثنا‭ ‬فى‭ ‬العمل‭ ‬الذى‭ ‬يزيل‭ ‬الآلام،‭ ‬ويمحو‭ ‬الكوارث‭ ‬ويجلى‭ ‬الغمرات‭".‬

 

‭ ‬أعشق‭ ‬الخريف،‭ ‬أتأمله‭ ‬دوما،‭ ‬فهو‭ ‬يزهر‭ ‬ويغدق‭ ‬بطزاجة‭ ‬البدايات‭.. ‬المدرسة،‭ ‬الجامعة‭ ‬والحب‭ ‬هو‭ ‬فصل‭ ‬محمل‭ ‬بارتعاشة‭ ‬الاكتشافات،‭ ‬يزف‭ ‬النوستالجيا،‭ ‬وهى‭ ‬كلمة‭ ‬فى‭ ‬الأصل‭ ‬إغريقية‭ ‬تعنى‭ ‬الرجوع‭ ‬والألم،‭ ‬فالحنين‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الشجن،‭ ‬وهو‭ ‬الحزن‭ ‬فى‭ ‬أعذب‭ ‬حالاته‭ ‬الممزوج‭ ‬بالشوق،‭ ‬وكلنا‭ ‬نشتاق‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬الجامعة‭.. ‬تكتنز‭ ‬ذاكرتى‭ ‬التمثال‭ ‬الوردى‭ ‬الخلاب‭ "‬نهضة‭ ‬مصر‭" ‬للرائع‭ ‬محمود‭ ‬مختار،‭ ‬أكاد‭ ‬أسترجع‭ ‬ذات‭ ‬الخطوات‭ ‬المرتعشة‭ ‬وأنا‭ ‬أدلف‭ ‬إلى‭ ‬المبنى‭ ‬العريق‭ ‬أرى‭ ‬الوجوه‭ ‬المألوفة‭ ‬من‭ ‬مدرستى‭ ‬ليسيه‭ ‬الحرية‭ ‬بباب‭ ‬اللوق،‭ ‬ووجوه‭ ‬لا‭ ‬أعرفها،‭ ‬هاهو‭ ‬قسم‭ ‬الآداب‭ ‬الفرنسي،‭ ‬أساتذة‭ ‬من‭ ‬فرنسا‭ ‬ومن‭ ‬مصر،‭ ‬أسماء‭ ‬تضوى‭ ‬وتؤنس‭ ‬خزائن‭ ‬ذاكرتي‭.. ‬د‭.‬آمال‭ ‬فريد،‭ ‬د‭.‬منى‭ ‬حسن،‭ ‬د‭. ‬أمينة‭ ‬رشيد‭ ‬حفيدة‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬مصر‭ ‬إسماعيل‭ ‬باشا‭ ‬صدقي،‭ ‬د‭.‬كريستين،‭ ‬د‭.‬ليلى‭ ‬عنان،‭ ‬ود‭. ‬روبير‭ ‬ألبير،‭ ‬د‭. ‬بوريللي،‭ ‬د‭. ‬دونى‭  ‬لوش،‭ ‬الذى‭ ‬صار‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬الملحق‭ ‬الثقافى‭ ‬الفرنسي،‭ ‬د‭. ‬أحمد‭ ‬مرسى‭ ‬أستاذ‭ ‬الأدب‭ ‬الشعبي،‭ ‬أذكر‭ ‬أنه‭ ‬فى‭ ‬بداية‭  ‬محاضرته‭ ‬حكى‭ ‬لنا‭ ‬واقعة‭ ‬شديدة‭ ‬الطرافة،‭ ‬فبينما‭ ‬كانت‭ ‬د‭.‬سهير‭ ‬القلماوى‭ ‬تمتحنه‭ ‬سألته‭: "‬وأين‭ ‬ياأستاذ‭ ‬أغانى‭ ‬المتسولين،‭ ‬فأجاب‭:" ‬المتسولون‭ ‬لا‭ ‬يغنون‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬علمي‭."‬،‭ ‬أستعيد‭ ‬المخرج‭ ‬النابع‭ ‬شادى‭ ‬عبدالسلام‭ ‬مبدع‭ ‬فيلم‭ "‬المومياء‭"‬،‭ ‬كان‭ ‬يأتى‭ ‬لإلقاء‭ ‬المحاضرات‭.. ‬أحيانا‭ ‬أستاذ‭ ‬الجامعة‭ ‬البارع‭ ‬لديه‭ ‬ذات‭ ‬المقومات‭ ‬الخاصة‭ ‬بممثل‭ ‬المسرح‭ ‬الموهوب‭ ‬يتمتع‭ ‬بالحضور‭ ‬الطاغى‭ ‬وعنفوان‭ ‬الصوت‭ ‬أى‭ ‬الكاريزما،‭ ‬توغلت‭ ‬آنذاك‭ ‬فى‭ ‬عوالم‭ ‬شائقة‭ ‬لجان‭ ‬بول‭ ‬سارتر،‭ ‬كامو،‭ ‬روسو،‭ ‬أندريه‭ ‬جيد،‭ ‬فلوبير،‭ ‬رامبو،‭ ‬فُتنت‭ ‬بفولتير،‭ ‬هو‭ ‬الأب‭ ‬الروحى‭  ‬للتنوير،‭ ‬التسامح،‭ ‬قبول‭  ‬الآخر،‭ ‬أسلوبه‭ ‬الساخر‭ ‬العامر‭ ‬بالذكاء‭ ‬والنفاذ‭ ‬إلى‭ ‬ذهن‭ ‬القارئ‭ ‬بسرعة‭ ‬وعمق‭ ‬كالسهم‭ ‬الثاقب،‭ ‬كانت‭ ‬قصته‭ ‬البديعة‭ ‬الفلسفية‭ "‬كانديد‭" ‬أو‭ ‬التفاؤل‭ ‬التى‭ ‬ترجمها‭ ‬د‭.‬طه‭ ‬حسين‭ ‬تسخر‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬الوردية‭ ‬المطلقة‭ ‬للوجود،‭ ‬فتتكرر‭ ‬عبارة‭ "‬نحن‭ ‬فى‭ ‬أفضل‭ ‬عالم‭ ‬ممكن،‭ ‬ليس‭ ‬فى‭ ‬الإمكان‭ ‬أبدع‭ ‬مما‭ ‬كان‭" ‬ويظل‭ ‬البطل‭ ‬المُرجِّع‭ ‬لتلك‭ ‬العبارات‭ ‬يتلقى‭ ‬كل‭ ‬شرور‭ ‬البشر،‭ ‬الصدمات‭ ‬والمحن،‭ ‬فى‭ ‬الأمسيات‭ ‬الشتائية‭ ‬توحدت‭ ‬مع‭ ‬بلزاك،‭ ‬تلذذت‭ ‬بالخلوة‭ ‬مع‭ "‬امرأة‭ ‬فى‭ ‬الثلاثين‭"‬،‭ "‬بهاء‭ ‬وبؤس‭ ‬الغانيات‭"‬،‭ ‬فالقصة‭ ‬أيضا‭ ‬الفلسفية‭ ‬التى‭ ‬قرأتها‭ ‬ربما‭ ‬عشر‭ ‬مرات‭ "‬جلد‭ ‬الأسي‭" ‬هى‭ ‬مرصعة‭ ‬بعطر‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة،‭ ‬أستمتع‭ ‬بذائقة‭ ‬السعى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬ترياق‭ ‬الثقافة‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬المجالات،‭ ‬ومن‭ ‬يسع‭ ‬ويجتهد‭ ‬يحصد‭ ‬وينعم‭ ‬بالثمار،‭ ‬كانت‭ ‬منحة‭ ‬التفوق‭ ‬التى‭ ‬حظيت‭ ‬بها‭ ‬ذات‭ ‬معنى‭ ‬مجوهر‭ ‬ومكلل‭ ‬بالرموز‭ ‬المعنوية‭ ‬الآسرة،‭ ‬أستعيد‭ ‬ما‭ ‬سطره‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬فى‭ "‬حضرة‭ ‬المحترم‭":‬

‭"‬ورفع‭ ‬عينيه‭ ‬إلى‭ ‬السماء‭ ‬فرأى‭ ‬النجوم‭ ‬الساهرة‭ ‬مستقرة‭ ‬فيما‭ ‬يبدو،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬جامد‭ ‬فى‭ ‬الكون،‭ ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬خلق‭ ‬النجوم‭ ‬الجميلة‭ ‬ليحرِّضنا‭ ‬على‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬أعلي‭.. ‬وأن‭ ‬المأساة‭ ‬أنها‭ ‬ستطل‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬عليائها‭ ‬فلا‭ ‬تجد‭  ‬لنا‭ ‬من‭ ‬أثر،‭ ‬ولا‭ ‬يتحقق‭ ‬معنى‭ ‬لوجودنا‭ ‬إلا‭ ‬بالعرق‭ ‬والدم‭".‬

مدام‭ ‬رجاء‭ ‬هكذا‭ ‬كنا‭ ‬نناديها،‭ ‬ربما‭ ‬هى‭ ‬كانت‭ ‬أربعينية،‭ ‬لها‭ ‬عيون‭ ‬عسلية‭ ‬ترتدى‭ ‬النظارة‭ ‬الطبية،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تحجب‭ ‬هذا‭ ‬النهم‭ ‬المعرفى‭ ‬والحلم‭ ‬المعتق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬الآداب‭ ‬الفرنسية‭ ‬بجامعة‭ ‬القاهرة،‭ ‬تنويعة‭ ‬على‭ ‬لحن‭ (‬هى‭ ‬والمستحيل‭) ‬للثالوث‭ ‬الذهبى‭ ‬فتحية‭ ‬العسال‭ ‬صفاء‭ ‬أبوالسعود‭ ‬وأنعام‭ ‬محمد‭ ‬علي،‭ ‬أتأمل‭ ‬آنذاك‭ ‬اشتعالها‭ ‬بالعلم،‭ ‬روعة‭ ‬عزيمتها‭ ‬وإصرارها‭.. ‬مسيو‭ ‬إليبر‭ ‬أستاذ‭ ‬مادة‭ ‬الحضارة‭ ‬قامة‭ ‬نابهة‭ ‬وثقافة‭ ‬موسوعية‭ ‬شاهقة،‭ ‬له‭ ‬كتاب‭ ‬مهم‭ ‬عن‭ (‬مصر‭ ‬الجديدة‭ ‬هليوبوليس‭)‬،‭ ‬هو‭ ‬يجسد‭ ‬الولع‭ ‬بمصر‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لمسته‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬أساتذتى،‭ ‬فهم‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬حضروا‭ ‬إلى‭ ‬المحروسة‭ ‬لا‭ ‬يرغبون‭ ‬فى‭ ‬الرحيل،‭ ‬فمصر‭ ‬بوتقة‭ ‬التراكم‭ ‬الحضارى‭ ‬والثراء‭ ‬الثقافي‭.. ‬شارع‭ ‬قصر‭ ‬النيل‭ ‬مكتبة‭ (‬الكتاب‭ ‬الفرنسي‭) ‬أوlivres de france،‭ ‬هنا‭ ‬أغلب‭ ‬الكتب‭ ‬الخاصة‭ ‬بالمنهج،‭ ‬أدلف‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬هى‭ ‬تحاكى‭ ‬مغارة‭ ‬على‭ ‬بابا‭ ‬العامرة‭ ‬بالكنوز،‭ ‬أنهل‭ ‬من‭ ‬الدفء‭ ‬الذى‭ ‬يغمر‭ ‬المكان،‭ ‬وأتنفس‭ ‬رائحة‭ ‬الكتب‭ ‬فى‭ ‬الصباحات‭ ‬الخريفية‭ ‬ذات‭ ‬اللسعة‭ ‬الباردة،‭ ‬أتحدث‭ ‬مع‭ ‬مالكة‭ ‬المكان‭ ‬مدام‭ ‬إيفيت‭ ‬وزينة،‭ ‬وأبتهج‭ ‬لرؤية‭ ‬القط‭ ‬مينو‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كتاب‭ ‬نيتشه،‭ ‬يفترش‭ ‬روائع‭ ‬الفكر‭ ‬الإنسانى‭ ‬بتثاؤب‭ ‬وخمول،‭ ‬وتراودنى‭ ‬أبيات‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭: ‬اللخوف‭ ‬رائحة‭ ‬القرنفل‭ ‬فى‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬الربيع‭ ‬إلى‭ ‬الخريف‭.. ‬ونحن‭ ‬نمشى‭ ‬فى‭ ‬هواجسنا‭ ‬عن‭ ‬الغد‭.. ‬ربما‭ ‬يصل‭ ‬المسافر‭ ‬كامل‭ ‬الأعضاء‭.. ‬لكن‭ ‬الربيع‭ ‬وراءه‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬متر‭ ‬من‭ ‬خطاه‭ ‬وداع‭..‬‭ ‬شىء‭ ‬ما‭ ‬يلاحقه‭ ‬كرائحة‭ ‬القرنفل‭ ‬غامضا‭ ‬ويخاف‭ ‬ألا‭ ‬يستعيده‭".‬

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة