محمود الوردانى
كتابة
محمود الوردانى يكتب .. خمارة القط الأسود ( 1 – 2 )
السبت، 27 نوفمبر 2021 - 02:17 م
من بين خطاياى وحماقاتى الكبرى علاقتى بأعمال نجيب محفوظ، فقد ظللت حتى عام 1977 عندما صدرت الحرافيش، أقرأه على مضض، وأتجنب بعض أعماله دون سبب واضح، وكانت قد تلبّستنى فكرة أنه كاتب تقليدى يُعنى بالفواجع الميلودرامية، كما أنه عالى الصوت وحواره ثقيل.
الحرافيش أذهلتنى. أدارت رأسى بقوة، وفتحتْ عينيّ على عالمه المترامى، وعكفتُ على مافاتنى من أعماله، وفتنتنى الثلاثية على سبيل المثال، وكنت أظن أننى التهمت كل أعماله، حتى وقعت فى يدى أخيرا مجموعته القصصية «خمارة القط الأسود» 1969 ولم أكن قرأتها أصلا.
لعلى أذكّر القارئ باللغط الذى كان قد أثير منذ شهور قليلة حول تحوّل محفوظ إلى صَنَمْ مهيمن على الرواية التى تُكتب اليوم، وضرورة تجاوزه، سواء من جانب النقاد الذين لايكفون عن تناول أعماله وإعادة اكتشافها حتى اليوم، أو من جانب الكتاب الذين يرى البعض أنهم ينسجون على منواله. وقد كتبتُ فى حينها، هنا فى المكان نفسه، مؤكدا أن محفوظ قد تم تجاوزه، وكان يجب أن يتم تجاوزه، ونظرة واحدة على الرواية التى كتبت بعده، والرواية التى تُكتب اليوم، تؤكد بوضوح المدى الذى تم تجاوزه، وفى الأسبوع الماضى فقط كتبتُ هنا أيضا عن رواية بديعة هي» مساكن الأمريكان» للكاتبة هبة خميس وهى من مواليد عام 1987 تؤكد هذا التجاوز.
محفوظ مؤسس وأسطى كبير. معلّم كبير بتشديد اللام وليس بضم الميم. ترك لنا تراثا لن يبلوه الزمن، ويتشكل من سبعة وخمسين رواية ومجموعة قصصية. كدح متواصل متواصل لم يتوقف قبل وبعد حصوله على جائزة نوبل.
تراثه هذا موجود وحاضر ومازال مقروئا، وهناك أجيال جديدة تنضم لقرائه، ومازالت كتبه التى مضى على كتابتها عدة عقود، تشكّل أرقاما فى التوزيع، لكنه لايحول دون التجديد والتجاوز والانقلاب على كتابته، وعلى كتابة أى كاتب. فعل الكتابة نفسه يتضمن التجاوز ثم المزيد من التجاوز. ومحفوظ لم يتجاوز الكتابة السابقة عليه فقط، بل تجاوز نفسه، فأين هى» القاهرة الجديدة» 1945 من « أصداء السيرة الذاتية»1995 مثلا؟
طالت مقدمة هذه السطور قليلا، والسبب المباشر لكتابتها هو اكتشافى لمجموعة محفوظ» خمارة القط الأسود» التى فاتنى قراءتها. وأظن أنهامن بين مجموعاته الأكثر تميزا، فهى على سبيل المثال مجموعة قصصها قريبة الصلة ببعضها البعض، ويربط بينها قدر وفير من التجانس والهارمونى، فأغلب القصص التسعة عشرة التى تضمها المجموعة تحفل بغموض الأحداث والوقائع، وتقوم على افتقاد اليقين.
أود أن أشير أولا إلى تمهيدها لمجموعته القصصية التالية» تحت المظلة» الصادرة فى العام نفسه 1969 الذى صدرت فيه خمارة القط الأسود، وتحت المظلة هى الأكثر انفلاتا وتجاوزا وجنونا، وفيها كانت بدايات التحرر التام من تراثه الواقعى والكلاسيكى إلى آفاق أرحب تأكدت بعد ذلك فى أعماله التالية.
وباستثناء قصته «جنة الأطفال» فى خمارة القط الأسود، فهى قصة تربوية ساذجة لاتليق بمحفوظ، باستثنائها، فالقارئ أمام ثمانى عشرة لوحة تحتفل بالزمن الذى يمضى، ويغيّب الحقائق، لكن الزمن نفسه، هو الذى يعيد ماكان مطمورا ويكشف عنه. هنا يتخلى محفوظ عن حذره، ويفسح المجال للغموض. لايقين لديه بل لايبحث هو عن اليقين، ولم يكن البحث عن يقين من بين مساعيه أصلا.
إذا امتد الأجل، سأحاول قراءة قصص المجموعة الفاتنة، فى الأسبوع القادم..
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة