شيرين هلال
شيرين هلال


في المسألة الجاهينية

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 29 ديسمبر 2021 - 01:51 ص

بقلم: شيرين هلال

صلاح جاهين صاحب الضحكة في الموال والخفة مع السؤال من فين بيجيب كل الجمال؟
دخلت يا عمنا محرابك أخبط على باب ذكرياتك، معرفش إن كان مسموح لي ولا فلا
لكني فتحت ودخلت وكان مستنيني ريشة وقلم وورقة ومنقلة!
أجمعهم بالمسطرة ميمشوش واصورهم بالكاميرا ميرضوش
حكاياتك يا ابو التفانين عايزة سحر العارفين وانا يا سيدي بنت الطيبين
مملكش من خيالي الإ نقطة من عند المجانين
ما باليد حيلة وما بالإقدام بد
هحكي الحكاية وربك معايا يعيني عليك وينور وشوش الصبايا
بضحكة حلوة من بطن الحقيقة اللي مغلفها في بونبوناية
ويرجلش مخ الجدع اللي فاكر الحمشنة كلمة قاسية ووجع
هحكي عنك واقول واللي اقوله عليك مهما كان ميكفيش ولو فضلت احكي اد الزمان بزمان ميوفيش!
 
صلاح جاهين رائد الزجل الخفيف و أشهر شعراء جيله الموهبين . اتولد في القاهرة سنة 1930 لأب يعمل بالسلك القضائي وكيل للنائب العام , بسبب عمل والده اتنقلت الأسرة لعدة محافظات ويمكن دا يكون سبب في ثراء مخزون صلاح جاهين الشعبي. وبسبب مكتبة جده السياسي المعروف أحمد حلمي رفيق الزعيم مصطفى كامل واللي أشهر شوارع حي شبرا العريق بيحمل أسمه عشق جاهين القراءة، فكان قارئ نهم في سن صغيرة، أتاحت له مكتبة جده التعرف على مجموعة من أمهات الكتب اللي اثرت لغته و حببته في الكتابة والشعر من سن المراهقة. بدأ عمنا صلاح ينظم الشعر بالفصحى أولًا وبعدها غلبت عليه العامية بعد قراءته لقصائد زميله وتوأمه واستاذه الشاعر فؤاد حداد وبالتحديد ديوان: "أحرار وراء القضبان".
 تم نشر أول ديوانٍ له في 1955 تحت عنوان "كلمة سلام"، وكان في الفترة دي بيشتغل في جريدة "بنت النيل" و منها إلى جريدة "التحرير". ومن أهم دواوينه الشعرية "موال عشان القنال" اللي صدر في 1957، و"الرباعيات" في 1963 واللي اتعرفت بإسم "رباعيات صلاح جاهين". وهي عبارة عن مجموعاتٍ شعرية قدمها صلاح باللهجة العامية، وتُعتبر أهم وأشهر ما قدمه الراحل.
 . بعدها اشتغل كرسام في روزا اليوسف وزامل فيها يوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي ولويس جريس وكامل زهيري ورسامي الكاريكاتير الكبار أمثال أحمد حجازي وصلاح الليثي ونبيل السلمي ورؤوف عياد وبهجت عثمان ومحيي اللباد. اشتغل  كمان مع أحمد بهاء الدين في مجلة "صباح الخير" وقت تأسيسها وصنع منها شهرته العظيمة كرسام وشاعر وقدر من خلال الصفحات اللي أشرف على تحريرها اكتشاف عدد كبير من المواهب سواء في الكتابة الشعرية أو في الرسم، فقدم عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وتولى نشر أعمالهم الأولى في دار نشر "بن عروس" اللي أسسها لنشر شعر العامية.

صحيح أن عمنا صلاح جاهين اشتهر باشعاره العامية وأعماله الفنية المبهرة إلا إنه كان من الكتاب والمفكرين اللي حمل على عاتقه الدفاع عن مبادئ ثورة 1952. بطبيعة الحال كان توجهه السياسي يساري اشتراكي. معروف عنه ميله للضحك والابتسام وطبيعته الخفيفة واحساسه المرهف. مكنش بس كاتب أشعار، صلاح جاهين كان كاتب مقالات سياسية ومفكر اجتماعي عميق، دا غير طبعا انه كان رسام كاريكاتير غزير الإنتاج جدا. مكانش في حد في بر مصر ممكن يلهب المشاعر الثورية في أغاني العندليب الأسمر أد صلاح جاهين. ومن أهم ما قدمه صلاح جاهين خلال فترة الستينات، أشعارٍ خلدها كأغاني بصوت "عبد الحليم حافظ".  ومن أهم الأغاني دي: ناصر يا حرية، و يا أهلا بالمعارك، وبستان الاشتراكية، وبالأحضان، وأحنا الشعب.
 
كتب كمان أعمال فنية حققت شهرة لم يسبقه لها أحد في فترة السبعينات، من أهمها  فيلم "خلي بالك من زوزو" سنة 1972، ومسرحية "حب وفركشة" وفيلم "أميرة حبي أنا" في سنة 1974، وفيلم "عودة الابن الضال" 1976، وفيلم "شفيقة ومتولي" سنة 1978، وفيلم "المتوحشة" 1979. واستمر عطاءه للثمانينات فكتب  فوازير "الخاطبة" و"عروستي" في 1981 و1980 على التوالي. فيلم "اللعنة" سنة 1984، ومسلسل "حكايات هو وهي" سنة 1985.
. في مجالات المسرح، والأوبريت وأدب الرحلات: "الليلة الكبيرة" 1960، "صياغة مصرية لمسرحيتي إنسان ستشوان الطيب" 1967، "دائرة الطباشير القوقازية" 1969 لبرخت، "قاهر الأباليس"، "زهرة من موسكو". منحته  مصر وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى سنة 1965، شارك عضوا في لجنة تحكيم مهرجان أثينا الدولي للأغنية عام 1970.
 صلاح جاهين كان موهوب في فن لا يتقنه إلا أصحاب النفوس النقية والأيادي البيضاء. الفن دا هو إكتشاف المواهب وزي ما ذكرنا الأماء اللامعة في الكتابة و الكاريكاتير لازم مننساش النجوم الجميلة اللي إكتشفهم في التمثيل والغناء زي شريف منير، وعلي الحجار، وأحمد زكي..
لكن صاحب الخفة والاحساس البرئ مقدرش يتحمل نكسة بلاده في 1967 ووقع فريسة للإكتئاب فترة مش قليلة، لكنه فضل يقاوم هذا المرض اللعين لحد وفاته في 1986. و صمم يقاتل المرض جنب قتاله للهزيمة. صحيح مكنش بيقاتل على الجبهة، لكنه كان في أوائل صفوف الدفاع في معركة اسمها "الحرب النفسية"، قِدر بقلمه يرسم طريق النصر بالحماس ورفض الاستسلام للهزيمة. وعشان كان صادق في فنه مقدرش يلجم قلمه وكتب مقالات تنتقد أخطاء الماضي وتوجه أصابع اتهام للمتسببن في النكسة ودا طبعا حطه تحت مقصلة النقاد وخلا عليه ضغط نفسي كبير جدا وهو كان مكتفي ضغوط بسبب مرضه. مقدروش ساعتها النقاد يفرقو بين صدقه في الرغبة في الاصلاح و بين تحول قلمه للدفاع عن مصالح مصر بالنقد البناء، واعتبروه صاحب قلم متلون وهاتك يا تشريح واهلا يا تجريح وعمنا مبيردش!

لا طلع ركب التريند بأزمته و لا حاول يتاجر بمشاكله النفسية، لأن الفنان اللي جواه تمنعه عزة نفسه عن عرض آلامه على الجمهور لأنه بيحترمهم. 

صلاح جاهيين مكانش ممكن يرد لأن مصر كانت شغلاه عن نفسه، لدرجة انه كان عيان بيها، ومكنش ممكن يتعالج إلا لما يطمن عليها، ولإن ثقافة النقد عندنا معرفتش الرحمة ولأن نقاده كان هدفهم التحطيم، اتعرضوا لمرضه وربطوه بالإكتئاب و حطو خلطة عجب من الإكتئاب على الفكر اليساري وطلعت معاهم إلحاد مباشر. وغذي الفكرة دي تأليفه لأفلام زي "خلي بالك من زوزو" و "أميرة حبي أنا" اللي كسروا الدنيا بنجاحهم في توقيت كان مثير جدا للجدل . أعمال فنية لسة قادرة تكسر الملل لحد النهاردة وكسرت الارقام القياسية في ايرادات شباك التذاكر. وبالرغم من النجاح فضل النقد ملازمه وتُهم الإلحاد بتجري وراه! الأمر موصلش بالاكتئاب ان الفنان ياخد جلستين من معالج ومعاهم قرصين منوم أو ينقطع عن الإبداع، لأ الموضوع اطور لدرجة إنه إحتاج بسببه العلاج في مستشفيات روسيا.

وفي محطة أخرى تكشف صلابة وتحرر قلم جاهين؛ في سنة 1962، كان بيشتغل على قوة جريدة الأهرام، انعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر، وشارك فيه الإمام محمد الغزالي اللي فاجئ الحضور بمطالبته بـ"تحرير القانون المصري من التبعية الأجنبية، وتوحيد زي المصريين، وضرورة احتشام المرأة"، وطبعا ثارت الأوساط الثقافية  وشافت في مطالبة الشيخ نوع من التزمت ودعوة للتراجع وفرض الرأي.

تاني يوم رسم صلاح جاهين صورة الإمام الغزالي يلقي خطبته ووقعت عمامته على الأرض من الإنفعال، وتحت الرسم سخر كاتبا "يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الغرب كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية"، وغضب الشيخ الغزالي، وفي جلسات المؤتمر هاجم صلاح جاهين ، عمنا جاهين رد بكاريكاتير أكثر سخونة يسخر تاني من آراء الشيخ في المرأة والزي اللي بيحاول فرضه.

وعلق الشيخ الغزالي بأنه مش قابل سخرية جاهين من عمته الأزهرية، وأكد إنه في كلمته مركزش على الأزياء لكن جات ضمن سياق عام اتكلم فيه عن حاجات كتير كان موضوع الزي من بينها، وختم الشيخ الغزالي كلمته بقوله: "إن هذا المؤتمر يعطي الحق لكل فرد أن يقول الكلمة الأمينة الحرة التي يجب ألا يُرد عليها بمواويل الأطفال في صحف سيارة ينبغي أن تحترم نفسها"

واشتعلت المعركة بهذه الكلمات التي استثارت محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتها و نشر كاريكاتير تاني لجاهين يصور أطفال بؤساء رافعين لافتة مكتوب عليها "أين الكساء يا مشرع الأزياء، لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟!"  والغزالي في الرسم بيصرخ فيهم: "مابتكلمش عنكم يا جهلاء لأنكم ذكور وما ظهر من جسمكم ليس عورة".
وتاني يوم الصبح فوجئ القراء بعدد غير مسبوق من رسومات جاهين، ست صور بعنوان "تأملات كاريكاتيرية في المسألة الغزالية"، صور في واحدة منهم الغزالي وهو راكب فرس كأنه أبو زيد الهلالي وشه متجه لذيل الفرس وشايل رمح مكتوب عليه "الإرهاب باسم الدين".

الشيخ الغزالي نقل المعركة للمنبر وألقى خطبة عصماء خلت المصليين وأغلبهم من طلبة الأزهر يشلوه بعدها على الأعناق  لحد مبنى الأهرام متظاهرين غاضبين مدافعين عن هيبة الدين معتبرين صلاح جاهين عدوً الإسلام في معركة حطين، وهاتك يا تكسير لواجهات المبنى بالطوب ، فغضب هيكل واتهم الغزالي بتحريض المتظاهرين.

وفي نفس العدد نشرت الأهرام كاريكاتير تاني لجاهين يصور فيه نفسه مع الغزالي في المحكمة والشيخ الغزالي بيطعنه بخنجر مكتوب عليه "الإرهاب". تدخل المسئولين بعدها بشكل فوري وحاسم لفض المعركة اللي بقت بتهدد الأمن العام، واتصل نائب الرئيس السيد كمال الدين حسين بـ«هيكل» يطلب منه تجاوز الخلاف والتأكيد على احترام الدين وهيبة رجاله، وطلب حسين وديًا إجراء مصالحة بين الغزالي وجاهين وفعلا تم الصلح.

بس زي ما قُدر المفكرين والمبدعين الإصتدام بالنقد الهدام، قدرهم كمان العدل والإنصاف بقلمهم ومن عملهم. واللي بيحترم قلمه ، زي عمنا صلاح، قلمه كمان بيرد له الجميل. مهما طال الزمان سواء مات المبدع ولا عاش، عمله بينطق عنه. كتب الشاعر قصيدة في أواخر أيامه وسماها "ربنا"، أول لما قريتها إفتكرت مبدأ شهير بيقر إن ربنا بيدافع عن الذين آمنوا به. قصة القصيدة لما كان في اواخر ايامه و بنته صاحبة ال5 سنين بتساله يعني أيه ربنا؟ ألهمته الصغيرة يكتب قصيدة تكون هى الدليل على إيمان أبوها وتضرب بكف الطفولة تنطع ورزالة بعض الرجولة اللي شايفين حقهم في النقد ممكن يجرد البني أدم من دينه ويحرمه من شوية احساس صادق يمارسه في مجتمعه بشكل مهني بحت، ويزيد عذابه بكتمانه نظرا لعزة نفسه وترفعه عن الرد على الهدامين. واسيبكم مع كلام عمنا واتوكل أنا على ربنا.
 
قال صلاح جاهين في قصيدته "ربنا"
مين اللي كوّر الكرة الأرضية
مين اللي دوّرها كده بحنية
مين اللي في الفضا الكبير علّقها
ما تقعش منها أي نقطة ميه
مين اللي عمل البنى آدمين
مفكرين ومبدعين
مين اللي إدانا عقول وقلوب
وشفايف تسأل هو مين؟
مين اللى دايمًا صاحي واخد باله
وكلنا بنحبه جلّ جلاله
ربنا
احنا بنحب ربنا.. وربنا بيحبنا
و يحبنا أكتر كمان.. لما نحب بعضنا
عمل الفراشة بأجنحة وزوقها
وكل فكرة مدهشة حققها
البحر حط له ملح لأجل يعوِّم
وما سابش حاجة إلا لما خلقها
ربنا
مين اللي لما بنطلبه يسمعنا
وف وقت الحزن يشجعنا
ولما نفرح نشكر مين
على إنه بسطنا ومتعنا
مين اللى قلبه علينا واحد واحد
وكلنا بنحبه.. هو الواحد
ربنا
احنا بنحب ربنا.. وربنا بيحبنا
و يحبنا أكتر كمان.. لما نحب بعضنا
سألتني طفلة قلت: هوّ ما بيننا
موجود فى كل مكان وبيبصّ لنا
بيشوف بنسعد بعض ولا لأه
وم الخطر يحرسنا ويحوش عنّا
في كل مكان ربنا موجود
جنب الضعف وجنب المجهود
يا ربنا.. إنت جميل ومفيش في مثلك في الوجود
مين الصديق اللى مفيش غِنى عنه
وكلنا بنحبه ونخاف منه؟
يا ربنا.. إنت جميل ومفيش في مثلك في الوجود
يا ربنا.. إنت جميل ومفيش في مثلك في الوجود
«ربنا»..
أخر قصيدة كتبها «الضاحك الباكي» صلاح جاهين
 

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة