حكاية سياسة - طارق عبيد
حكاية سياسة - طارق عبيد


على هامش EDEX21.. التقاطع الحرج بين السياسة والسلاح

بوابة أخبار اليوم

الأربعاء، 29 ديسمبر 2021 - 02:55 م

في نهاية شهر سبتمبرعام 1955 كانت مصر على موعد مع خريف ساخن طغت تقلباته السياسة على طقسه المضطرب، استيقظت القاهرة على عناوين صحفها القومية تعلن عن صفقة تسليح كبرى عقدتها مصر مع تشيكوسلوفاكيا والتي عرفت تاريخيا بصفقة الاسلحة التشيكية، لم تكن هناك اي اشارات مسبقة عن تلك الصفقة المبهمة لكن طريقة الاعلان عنها و الزخم الذي صاحبها  كانت تنبئ بغيوم سياسية استبقت موسم شتاء لم يحن آونه بعد. صفقة سوف يكون  لها تبعاتها العميقة على السياسة المصرية و توازنات القوى في الإقليم.


بدأت مصر بعد ثورة يوليو في صياغة علاقاتها الدولية في آتون حرب باردة تعصف بالشرق والغرب وتعيد ترتيب التحالفات و تقسم العالم شرقا وغربا إلى معسكرات تتمترس خلف الايدولوجيا تارة و خلف المصالح تارة اخرى، سباق عنيف بين امريكا والاتحاد السوفيتي على توسيع دوائر النفوذ ورسم الخرائط الجيوسياسة.

حاولت مصر الاستفادة من هذا التناقض في توثيق علاقاتها شرقا وغربا لكنها اصطدمت بتعنت واستخفاف امريكي بالتطلعات المصرية في ملفات اعادة هيكلة الجيش وبناء السد العالي واصرارها على تحييد قدرة مصر لضمان التفوق الاسرائيلي في المنطقة وهو ما دفعها لحسم انحيازها  الى معسكر الشرق والذي بدأته بالاعتراف بالصين الشعبية ثم الرهان على رغبة الاتحاد السوفيتي في خلق موطئ قدم له في الشرق.


كان العنوان الابرز في هذا السياق هو صفقة اسلحة سوفيتية كبرى عرفت بصفقة الاسلحة التشيكية والذي استخدم فيها الاتحاد السوفيتي تشيكوسلوفاكيا كغطاء لتصدير السلاح لمصر، عشرات القاذفات و المقاتلات و السفن والغواصات و المركبات القتالية سببت صدمة دولية عنيفة و اعادت التوازن التسليحي في المنطقة و وضعت مصر في مصاف الدول الاقليمية الفاعلة، على وقع القوة العسكرية الوليدة تحركت القاهرة بقوة في المنطقة وتدخلت في ملفاتها الاقليمية و اصبحت لها اليد الطولى في صياغة الواقع السياسي للمنطقة مدفوعة بموجة ثورية طاغية اسقطتها في افخاخ كبرى، تحالفات مبتسرة في سوريا و تدخل عسكري في اليمن تحول إلى عملية استنزاف كبرى للقدرات المصرية ووضعها في مرمى خصوم تلاقت مصالحهم على ضرورة انهاء التجربة الناصرية.


سقط السلاح المصري بين مطرقة تمدد اقليمي غير محسوب وسندان ترهل داخلي طالت تبعاته قلب الدولة الصلب فكان السقوط حتمي في 67، لم نتعلم درس تجربة محمد على في التمدد وتحولت هزيمة يوينو الى نسخة قاسية من معاهدة لندن عام 1840 والتي قضت على التجربة المصرية  للمرة الثانية واعادتها إلى نقطة الصفر. خسرت مصر 80 بالمائة من قدرتها العسكرية و خسرت نفوذها الاقليمي و خسرت جزء من ارضها في تجربة عملية على وقع السياسة على السلاح.


انكفأت القاهرة على نفسها لتعيد ترتيب اوراقها و تعيد بناء قوتها العسكرية من أجل الاستعداد لمعركة استرداد الارض في ظروف بالغة القسوة داخليا وخارجيا، طرقت ابواب الاتحاد السوفيتي مجددا لتعويض خسائر حرب الأيام الستة لكنها هذة المرة واجهت تعنت سوفيتي في امدادات السلاح بعد ان شعر بإهانة بالغة من هزيمة السلاح السوفيتي في مواجهة سلاح امريكي في معركة لم يكن بها قتال، لم تفقد القاهرة الامل واستخدمت كل نفوذها القديم في التأثير على مراكز صنع القرار السوفيتي واستطاعت بالفعل الحصول على بعض الصفقات التي حيدت القدرات الاسرائيلية في انتهاك العمق المصري لكنها لم تكن كافية لرد العدوان وتحرير الارض.وجهت مصر كل مواردها للمجهود الحربي، اعادت هيكلة قواتها المسلحة ونفضت عنها تراب الاهمال حتى حانت لحظة النصر في اكتوبر 73 والتي كانت نموذجا للتوازن بين السياسة والسلاح.


خرجت مصر من اكتوبر بدروس مهمة ترسم توجهات الدولة الاستراتيجية وتنظم العلاقة بين السياسة والسلاح كان اهمها:
-ضرورة تنويع مصادر التسليح وعدم الاعتماد على مصدر وحيد مهما كانت الظروف
-بناء قاعدة صناعية عسكرية مصرية تم صياغتها لاحقا في مشروع عربي للصناعات العسكرية باسم الهيئة العربية للتصنيع
- الحفاظ على القدر الكافي من الردع دون التورط في سباق تسلح يقضي على مقدرات الدولة ويعوق التنمية كما حدث مع الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة والتي انتهت بسقوطه فيما عرفبالفخ السوفيتي.

 

الترهل السياسي وأثرة على الامن القومي:

لكن  مرة اخرى كان للسياسة رأي اخر، توقف مشروع التصنيع العربي المشترك بعد معاهد السلام المصرية الاسرائيلية وتباطئت معدلات تطوير الجيش واجهضت تجربة المشير ابو غزالة في امتلاك تكنولوجيا صناعة السلاح بعد ضغط غربي واستجابة سياسة مصرية.


اصيبت مصر بحالة من الترهل في عهد الرئيس الاسبق مبارك وتراجع دورها لصالح قوى اقليمية اخرى وتراجعت قدراتها على التعاطي مع التحديات والمخاطر التي بدأت تلوح في الافق وانعكس ذلك على قدراتنا على حماية مصالحنا الحيوية في ظل غياب رؤية سياسية لتطوير القوات المسلحة بما يواكب المخاطر المحتملة فعلى سبيل المثال:


كان سلاح البحرية المصري الاقدم والاكبر في المنطقة لكنه فقد مكانته لصالح قوى اقليمية اخرى بعد ان تباطئت عملية تطويره، فمن غير المعقول ان تكتفي مصر بغواصات الروميوالتي  صنعت في خمسينات القرن الماضي والاكتفاء بالفرقاطات الامريكية محدودة التسليح من طرازات بيري ونوكس والزوارق الخفيفة، قوة لا تناسب دولة تطل على بحرين في قلب منطقة مضطربة  وممر ملاحي هو الاهم في العالم .


-في القوات الجوية اكتفت مصر بالاعتماد على طائرات F16 بطرازتها المختلفة وبعض طرازات الميج 23 القديمة الى جانب الميراج ، قدرات جوية متوسطة لا تناسب دولة يمتد مجالها الحيوي من اثيوبيا جنوبا الى جنوب المتوسط شمالا و الشام شرقا.


-اعتمدت مصر على منظومات دفاع جوي متوسطة المدى مثل البيتشورا والتور ام و الكروتال دون الاهتمام بامتلاك نظام دفاع جوي بعيد المدى يؤمن السماء المصرية ويحيَد قدرات الخصوم قبل الدخول في المجال الجوي المصري.


في هذا التوقيت بذلت القوات المسلحة جهود جبارة للحفاظ على كفاءتها القتالية و عدم الاخلال بمبدأ الردع وتعويض التباطؤ السياسي في تطوير القدرات المصرية برفع كفاءة منظومات التسليح بما يضمن جاهزيتها القتالية.


هذا التباطؤ الذي جرأ علينا الخصوم وفتح شهية الطامعين في تحييد قدرة مصر و السيطرة على مقدرتها في المتوسط و مياة النيل وقلص دورها الاقليمي و همش وجودها في كل ملفات المنطقة الحيوية انتهى بالسقوط في فوضى الربيع العربي، لتجد القوات المسلحة نفسها مسؤولة عن الدولة في قلب وضع ملتهب داخليا وخارجيا  ، خاضت فيه معارك عنيفة لتثبيت الدولة وامتصاص موجات فوضى الربيع العربي واحدة تلو الاخرى في نموذج جديد لتقاطع السياسة مع السلاح.


 -30 يوينو..السياسة والسلاح في خدمة الامن القومي


في الوقت الذي ظن فيه الجميع ان مصر لن تنجو من فخ الربيع العربي وانها اصبحت مستباحة جاءت 30 يوينو لتقلب موازين المنطقة رأسا على عقب.


رؤية شاملة لمصر والمنطقة تعييد صياغة التحالفات وفق فقه المصالح المشتركة  دون التورط في صراعات او الوقوع في فخاخ نصبت لها على طول الطريق بداية من اليمن ومرورا بلبيا و اثيوبيا، ناورت بقدراتها العسكرية للحد الأقصى واستخدمت سلاح الردع والتلويح بالقوة على اروع ما يكون دون ان تضطر الى ان تطلق رصاصة واحدة ،كسرت عزلتها الدولية بعد 30 يوينو، استثمرت في الطاقة و الامن ولعبت على التناقضات الاقليمية ولوحت لاوروبا من بعيد بأنها قادرة على ضبط ايقاع المنطقة و تأمين امداتها من الطاقة ووقف الهجرة غير الشرعية ففتحت لها خزائن السلاح. 


استطاعت مصر ان تقنع الجميع انها الضامن لأمن الممنطقة واخرجت من جعبتها قائمة بطلباتها من السلاح بما يخدم مصالحها ويحافظ على امنها القومي في ابعد نقاطه شرقا وغربا وجنوبا ،واكب ذلك عملية تطوير شاملة طالت جميع افرع القوات المسلحة في خطة تطوير ممتدة ومستمرة.


اعادت مصر تشكيل قوتها البحرية لتحولها لقوة ضاربة بامتلاكها احدث الفرقاطات المسحلة بحزمة متنوعة من الاسلحة التي وفرت لمصر القدرة على رسم مناطق تحريم بحري لا يمكن الاقتراب منها ، تنوعت بين الفريم باصدراتها المتنوعة و الجويند والميكو وغوصات ال Type  209 وحاملات الطائرات الميسترال  واعادت تأهيل ترسانة الاسكندرية البحرية لتكون قاعدة للتصنيغ العسكري فأنتجت نسخة مصرية من الجويند وفي طريقها لإنتاج فرقاطات الميكو.


اعادت مصر هيكلة قوتها الجوية تعاقدت على طائرات الرافال المسلحة بحزمة تسليح ضاربة لتكون ذراع مصرية طويلة مكنتها من الوصول الى اقصى نقاط الامن القومي المصري وواتاحت لها خيار التدخل الجراحي اذا فشلت السياسة في حسم الصراعات، واستبدلت طائرات الميج 23 القديمة باسراب من الميج 29 بموصفات مصرية خاصة في تقنيات الطيران وحزمة التسليح وتعاقدت على الافعى السوبر فلانكر ال SU35 درة تاج الصناعات العسكرية الروسية واصبحت القوة الجوية الوحيدة التي تجمع ما بين الأباتشي و وال كا 52 الروسية.


استكملت بناء منظومة الدفاع الجوي بالحصول على اعقد الرادارات السلبية والايجابية و التي تغطي كامل المحيط الحيوي المصري ، في حماية شبكة معقدة من منظومات الدفاع الجوي القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى من كافة مدارس التسليح الشرقية والغربية وعلى رأسها S300  الروسي وال IRIS-T الالماني لتصنع واحدة من اعقد شبكات الدفاع الجوي في العالم وفق اي تقييم عسكري منصف.


اعادت هيكلة المصانع الحربية ودخلت في مشروعات تصنيع مشترك ونقل تكنولوجيا لسد الفجوة التسليحية و توفير بدائل وخيارات امام القوات المسلحة ظهر بعضها في معرض إيدكس الاخير ،ظهرت الدرونز المصرية ومنظومات الحرب الالكترونية المعقدة و العربات المجنزرة من طراز سينا2000 و عربات الMRAPالمتعددة الاستخدام والردارات ثنائية وثلاثية الابعاد ومنظومات التسليح الفردي والذخائر المختلفة.


كانت هذة النسخة من معرض الصناعت الدفاعية ايدكس قمة جبل الثلج لجهد دءوب ومخلص لتعويض  سنوات الفرص الضائعة وتتويج للتنسيق والتناغم بين السياسة والسلاح ، أصبحت مصر تمتلك قوة عسكرية هائلة لكنها قوة عاقلة رشيدة وعت دروس الماضي القريب والبعيد، تخدم اهداف الدولة الشاملة في الردع من جهة و التنمية من جهة اخرى و تطبق المفهوم الواسع للأمن القومي.ربما يأتي الوقت مستقبلا لإعلان الكثير من التفاصيل عن جهود عظيمة بذلها رجال ظل  طبقوا مقولة العظيم جمال حمدان  "مصر اليوم إما القوة او الانقراض، إما القوة و إما الموت، إن لم تحقق مصر قوة عظمى تسود المنطقة فسوف يتداعى عليها الجميع اعداء و اشقاء!" و أدركوا ان أبعد نقطه لقدراتك الدبلوماسية هي عند اخر مدى تصل إليه مدافعك.


 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة