يحيى وجدى
يحيى وجدى


يحيى وجدى يكتب .. تاريخ مع المتأسلمين الاستثمار فى الكراهية

أخبار النجوم

الأحد، 13 فبراير 2022 - 04:30 م

قبل مباراة المنتخب المصري مع السنغال في نهائي كأس الأمم الأفريقية، راحت صفحات إسلاموية، وأقصد بها تلك الصفحات التابعة لليمين الديني الرجعي، تنشر بكثافة عن سفر مجموعة من الفنانين لتشجيع المنتخب في مباراته المهمة والحاسمة، بمقدمات مليئة بالسخرية والتحقير لهؤلاء، وعن هذه الصفحات امتلأت أرجاء وزوايا السوشيال ميديا بالخبر المكذوب.. كانت الصور المنشورة تنضح بكراهية واضحة لا مضمرة، وأوصاف تحقر من الفنانين عموما، وليست أسماء معينة، وتجعلهم مثلا للنحس وتميمة للحظ السيء و”النجاسة”، ورغم أن المباراة بعد ذلك شاهدها الملايين، واتضح لكل ذي عينين أن أحدا ممن نُشر عنهم لم يسافر إلى الكاميرون لتشجيع المنتخب، راحت نفس الصفحات تنشر بكثافة بعد هزيمة المنتخب أن السبب في النحس هو تواجد هؤلاء (الذين لم يسافروا) في المدرجات!


دون خجل، وبلا أي تأنيب ضمير، أو أخلاقيات من تلك التي يدعون إليها  مثل حرمة الكذب وعدم جواز التشهير، واصلت تلك الأصوات رسالتها في استثمار أي حدث وأي موقف، ودس الفن والفنانين في جملة بارزة، تحوله وتحولهم إلى شياطين، وهذه الشيطنة لا ترتبط باسم محدد، ولا بموقف من هذه القضية أو القضية أو تلك، الكل سواء.. مارقون، مضلون، منحلون، متهتكون وفسدة، وفي الواقع وبالتاريخ، فإن استهداف الإسلامويون للحقل الفني والإبداعي قديم قدم فن السينما، وظهور التلفزيون ومن قبله الإذاعة، ومن بعده الكاسيت، استهداف لا يرتبط بصعود الإسلامويون أو هزيمتهم.. انتصارهم سياسيا أو تواريهم عن المشهد، نجاحهم أو سقوطهم، ففي عقود سابقة حينما نجحوا في الاستحواذ على مقاعد في البرلمان، لم يجد نوابهم قضية سوى الهجوم على رواية أو فيلم أو المطالبة بمنع كتاب أو حظر أغنية، وحينما غابو عن تلك المؤسسات، استثمروا دعايتهم أيضا في تحميل الفن والفنانين مسئولية ما يصفوه بتفكك المجتمع، وبعد الناس عن الدين، وانهيار الأخلاق.. هناك دائما “شماعة” ورقبة صنم يعلقون عليه فؤوسهم، وفي الحقيقة فكل هذا قش على ماء، وفي قلب هذا الغبار الذي يثيرونه، ثمة موقفا صلبا من الإبداع والفن، قوامه الخوف والارتعاب من الجمال ومن المتعة.. المتشدد يرى في الفن نهاية لحضوره وسطوته، كيف يقنع مجتمعا يحب الفن بالكراهية والقبح الذي يدعوا إليه؟ كيف يستطيع وهو مسطح وأحادي أن يسيطر على من يستمع إلى غناء جميل أو يحب الشعر أو يستمتع بالسينما والمسرح.. المتطرف يضع نفسه بديلا للفنان إما أنا أو هو!


هذا الصراع قديم في المجتمع المصري الحديث، وجذوره في المجموعات الإسلاموية زرعها حسن البنا بخبث شديد منذ منتصف الثلاثينيات، إذا لم يجرؤ المؤسس في بداية دعوته على تكفير الفنانين وتحريم الفن كما حدث في مراحل تالية، بالعكس، هو ادعى أن الفن مهما ولكن من أجل الدعوة، ورسالة لكن إذا ما كانت لها أبعادا أخلاقية وإطارا دينيا، وكانت هذه أبرز وسائل نقض الفن بضرب أبرز أسسه.. حرية الإبداع، وتقديم وجهين له.. فن نظيف ومحترم، وآخر متهتك، فن شرعي وفن حرام، والفن الحلال هو ما يخضع لتصوراتنا ويخدم خطابنا ويردده الجمهور كنشيد حماسي، وبالمناسبة لم يكن هذا مسلك جماعة الإخوان المسلمين وحدها، بل هو فلسفة كل الشموليين والأنظمة الفاشية، نزع الجمال والحرية عن الإبداع وتحويله إلى عصا ودبابة، وتحقير كل فنان حقيقي يتبع روحه وتحركه حريته.


 هكذا استهدف حسن البنا الفن استهدافا رئيسيا، يكتب فيما يسمى بالرسائل: “الفن ليس سبيلا لإصلاح أخلاق الأمة، وإنما الدين هو السبيل” كما جاء في رسالة “هل نحن قوم عمليون” وبهذا وضع الفن في مواجهة الدين وجعله قاصدا نقيضا له، وبانتهازيته المعروفة كان يدعي في الوقت نفسه إلى أنه يطالب الإخوان بتأسيس الفرق المسرحية لما للفن من أهمية! ثم يعود في رسالة أخرى وهي رسالة يعتبرها الإخوان من أهم أدبياتهم بعنوان “مهمتنا” ويكتب: “تقدم الفن لم يجلب سعادة النفوس وهدوءها وطمأنيتها” والجملة السابقة وهي مبتورة كما أراد البنا لها أن تكون، تكررت في كثير مما كتب، كرسائل مبثوثة وملحة تبعد جمهوره المستهدف عن الفنون التي كانت ناهضة آنذاك، سواء مع ظهور السينما ونهضة الأغنية المصرية والتفاف الناس حول الفنانين الذين كانوا قد لعبوا دوار مهما وعظيما في ثورة 1919، كان البنا يعرف أن حضوره وسيطرته على المجال العام وفي أوساط الجماهير لن تحدث إلا باختفاء المبدعين، وكل الداعين إلى الحرية والجمال.


في واحدة من هجماته تلك، لجأ البنا إلى حيلة رخيصة، بأن ترك فرقة تابعة للإخوان المسلمين تقدم عرضا مسرحيا في طنطا بعنوان “الذبيح” عن قصة النبي إسماعيل، ثم أوقف هذه المسرحية بدعوى أن كتابا صدر يحرم التمثيل هو كتاب “إقامة الدليل حرمة التمثيل” للشيخ المغربي الأصل أحمد الصديق الغماري، الذي كان على علاقة قوية بحسن البنا، وهكذا استطاع الأخير أن يسن سنة سيئة بإخضاع الفن لفتوى شيخ ورأي داعية، أما ما جاء في هذا الكتاب نفسه فهو مجرد تأويلات لأحكام فقهية عامة لا علاقة لها بالتمثيل على التمثيل! مثل أن التمثيل يعد كذبا لأن الممثلون ينتحلون شخصيات ليست لهم إلى آخر هذه التأويلات المفرطة لما ليس له علاقة بالموضوع!


ذهب حسن البنا، لكن أدبيات جماعته في تحريم الفن الذي ليس إخوانيا بقيت، وجاءت الخمسينيات والستينيات بنهضة فنية وثقافية في كل المجالات، صحيح أنها كانت تحت سيطرة الدولة وكان أمام الإبداع العديد من الخطوط الحمراء، غير أن الإنتاج الإبداعي والفكري كان كثيفا ومميزا ولا يخضع للرقابة الدينية ولا لفتاوى المتشددين، الذين كانو أيضا يهاجمون تلك الفترة ليس على أرضية سياسية فقط وإنما بشكل أساسي باعتبارها فترة ازدهار فني، وعندما وصلت مصر إلى السبعينيات التي تزامنت مع ما يسمى فترة “الصحوة” شحذ المتطرفون أسلحتهم المدعمة بميزانية مالية هائلة مع عودة قيادات الإخوان من الخليج، وعرفت المنابر في المساجد التي يسيطر عليها الإسلامويون لأول مرة سبا وقذفا صريحا للفن والفنانين بأسماءهم، وكان الشيخ عبد الحميد كشك هو أبرز الأصوات في ذلك، فكان يسب أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ويسخر من كلمات الأغاني ويخلط عامدا بين النص والشخص، وصدرت عشرات الكتب والكتيبات تحرم السينما والمسرح والتلفزيون، وتكفر كل مبدع أيا ما كان مجاله، وكان خطاب الكراهية يصدح في كل مكان بلا رادع، والمثير للسخرية أن هؤلاء الدعاة المتطرفون كانو في خطابهم التحريضي ضد الفن يستبطنون نجوم التمثيل، فيؤدون فقرتهم هذه بشكل مسرحي هزلي وكأنهم ممثلين ولكن على مسرح الكراهية!


دخلت “الصحوة” بيوتا كثيرة واستوطنت أسرا أكثر، قاطعت التلفزيون ومنعت موجات إذاعات الأغاني وأدمنت شرائط الكاسيت لدعاة الزعيق والسب، وكلها بين جملة وجملة لا تقول رأيا فقهيا ولا تبشر بجمال، فقط تهاجم الفنون وتسمي الغناء معازف الشيطان، والمسرح منزلا من منازل جهنم، وفي المقابل ارتبك الكثيرون أمام الأموال الطائلة وظهر فيما بعد ما يسمى بالفنانات المعتزلات، وتراجع المثقفون خطوات إلى الوراء أمام هذا المد الجارف من الكراهية والتحريض!


أستطيع أن أقول ومن واقع شواهد كثيرة أن الوضع تغير، وأن الوصم الذي ساد في السبعينات والثمانينات لم يعد كذلك الآن، لكن خطاب الكراهية مازال موجودا.. خطابا يحفر لنفسه مسارا جديدا عبر السوشيال ميديا، وللأسف هذ الخطاب الآن، لم يعد يرتدي جلبابا قصيرا ويطلق لحيته، لكنه ومع ذلك يسير على خطى الإخوان والجماعات السلفية بالاستثمار في الكراهية.

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة