نزار قبانى
نزار قبانى


كنوز | ولدت فى هذا البيت

عاطف النمر

الأربعاء، 23 مارس 2022 - 05:45 م

بقلم: نزار قبانى

تتوافق ذكرى ميلاد الشاعر الكبير نزار قبانى مع الاحتفال بعيد الأم، فهو من مواليد 21 مارس 1923، وبذلك يكون قد مضى على ميلاده 99 عاما، وفى ذكرى ميلاده نقدم لقراء «كنوز» مقالاً كتبه عن البيت الذى ولد به.. يقول فيه: 


هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان فى قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة، إننى لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ، ولكن ثقوا أننى بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا، والذين سكنوا دمشق وتغلغلوا فى حاراتها، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون.

بوابة صغيرة من الخشب تنفتح، ويبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر، وتبدأ سيمفونية الضوء والظل والرخام، شجرة النارنج تحتضن ثمارها، والياسمينة ولدت ألف قمر أبيض وعلقتهم على قضبان النوافذ، وأسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء وتنفخه، وتستمر اللعبة المائية ليلاً ونهاراً، لا النوافير تتعب ولا ماء دمشق ينتهى، الورد البلدى سجاد أحمر ممدود تحت أقدامك.

وألوف النباتات الدمشقية التى أتذكر ألوانها ولا أتذكر أسماءها، لاتزال تتسلق على أصابعى كلما أردت أن أكتب، والقطط الشامية الممتلئة صحةً تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها بحرية مطلقة، وحين تعود ومعها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها ويطعمها، والأدراج الرخامية تصعد على كيفها.

والحمائم تهاجر وترجع على كيفها، وعشرون فسيلة فى صحن الدار هى كل ثروة أمى، كل زر فلٍ عندها يساوى صبياً من أولادها لذاك كلما غافلناها وسرقنا ولداً من أولادها، بكت، وشكتنا إلى الله، وضمن نطاق هذا الحزام الأخضر، ولدت، وحبوت، ونطقت كلماتى الأولى، وكان اصطدامى بالجمال قدراً يومياً، كنت إذا تعثرت أتعثر بجناح حمامة.

وإذا سقطت أسقط على حضن وردة، هذا البيت الدمشقى الجميل استحوذ على كل مشاعرى وأفقدنى شهية الخروج إلى الزقاق، ومن هنا نشأ عندى هذا الحس «البيتوتى» الذى رافقنى فى كل مراحل حياتى، إننى أشعر حتى بنوع من الاكتفاء الذاتى، يجعل التسكع على أرصفة الشوارع، واصطياد الذباب فى المقاهى المكتظة بالرجال، عملاً ترفضه طبيعتى، وإذا كان نصف أدباء العالم قد تخرج فى أكاديمية المقاهى.

فإننى لم أكن من متخرجيها، لقد كنت أؤمن أن العمل الأدبى عمل من أعمال العبادة، له طقوسه ومراسمه وطهارته، وكان من الصعب على أن أفهم كيف يمكن أن يخرج الأدب من نرابيش النراجيل، وطقطقة أحجار النرد.


طفولتى قضيتها فى بيتنا العتيق، كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندى، كان الصديق والواحة والمشتى والمصيف، وأستطيع الآن أن أغمض عينى وأعد مسامير أبوابه وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته، وأستطيع أن أعد بلاطاته، وأسماك بركته، وسلالمه الرخامية.

وأستطيع أن استعيد مجلس أبى فى صحن الدار، وأمامه قهوته وعلبة تبغه وجريدته، التى تتساقط على صفحاتها كل خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء كأنها رسالة حب قادمة من السماء، وعلى السجادة الفارسية الممدودة على بلاط الدار ذاكرت دروسى وحفظت قصائد عمر بن كلثوم.

وزهير، والنابغة الذبيانى، وطرفة بن العبد، امتلأت طفولتى ودفاترى وأبجديتى رطوبة، وهذه اللغة الشامية التى تتغلغل فى مفاصل كلماتى، تعلمتها فى البيت الذى حدثتكم عنه، وسافرت كثيراً بعد ذلك.

وابتعدت عن دمشق موظفاً فى السلك الدبلوماسى وتعلمت لغاتً كثيرة أخرى، إلا أن أبجديتى الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعى وحنجرتى وثيابى، وظللت ذلك الطفل الذى يحمل فى حقيبته كل ما فى أحواض دمشق من نعناعٍ وفل وورد بلدى، إلى كل فنادق العالم، حملت معى دمشق، ونمت معها على سريرٍ واحد.


من «الأعمال الكاملة لنزار قبانى»

إقرأ أيضاً|في ذكرى وفاته| نزار قبانى.. أيقونة الحب والرومانسية في التاريخ المعاصر

 

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة