د. مبروك عطية
د. مبروك عطية


يوميات الأخبار

رمضان فى ظل الظروف الصعبة

الأخبار

الخميس، 24 مارس 2022 - 09:18 م

وإذا سئل عَالِم الدين عن الإسراف فى رمضان نحا نحو المزاج الشعبى وقال لا بأس، وكم جلبت علينا لا بأس هذه كثيرًا من الويلات

السبت: التقشف بين الضرورة والاختيار


فرق كبير بين أن تدعو الناس إلى التقشف وبين أن تُعينهم عليه، فإن دعوتهم إلى التقشف كرهوك، لأن الناس بطبعهم لا يُحبون التقشف، ولا مَنْ يدعوهم إليه، إنهم يحبون العيش فى رغدٍ وسعةٍ، فإذا جاءهم التقشف جبرًا كان عليهم أن يعيشوه، قال الشاعر:


إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها


وقد قام منهج الإسلام على الوسط؛ قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا). 


وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)، و«خير الأمور أوسطها» وهذا التوجيه الربانى والإرشاد النبوى فى زمن الرخاء، فما بالنا بزمان الشدة!


لا شك أنه فى زمان الشدة أولى وأوجب، وإنما كان ذلك فى زمان الرخاء استعدادًا لوقت الشدة، فدوام الحال من المحال، والدهر يومان؛ صفو وعكر، والعيش عيشان؛ حلو ومر، فمن عاش الحلو، عمل حسابه لليوم المر، فتستقيم حياته.


وفى شرح الزرقانى لموطأ الإمام مالك؛ يقول: كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يدخر أسهمًا لنوائب الدهر، وهو صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إلى الله الذى يحميه من نوائب الدهر، وإنما كان يدخر ليُعلمنا الادخار: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا).
إن العالم كله هذه الأيام يمر بظروف عصيبة، فرضتها طبيعة الأيام من كورونا، ومن حرب روسيا، وقد عشنا زمانًا نحلم بالعولمة، وطرنا فرحًا وابتهاجًا بعبارة العالم أصبح قرية صغيرة؛ تلك العبارة التى ابتهجنا بها زمنًا ناظرين إلى سرعة الاتصال، ومعرفة الأخبار، وما حسبنا حساب هذا اليوم الذى نعانى فيه سرعة التأثر الاقتصادى، فما من كارثة تحل بديار قومٍ إلا حلت بنا جميعًا فى ذات الوقت غير متمهلةٍ ببلد إلا ببلد يُغطيه اقتصاده زمنًا طويلًا، أما الدول الفقيرة  فهى أسرع تأثراً من البلد الذى حلت به الكارثة، لكن صدق الله العظيم حيث يقول: (إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)، فعسانا نرجو من الله ما لا يرجون، وعسى أن يُحقق الله رجاءنا لا سيما ونحن مقبلون على شهر رمضان المبارك، الذى جعل الله لكل صائم فيه دعوة مستجابة، وإذا كان العبد يتقرَّب إلى الله بالصوم، فلا ينبغى أن يغضبه فى ذات الوقت، فيكون كالذى أراد أن يُرضى الله فيغضبه، والله تعالى لا يحب المسرفين، نص على ذلك فى الكتاب الكريم، وقد نص رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم-، حيث مر على أحد الصحابة وهو يتوضأ، فيغسل كل عضو من أعضاء الوضوء أربع مرات، فقال له: لقد أسرفت. قال الصحابى: أفى الماء سرف يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم؛ ولو كنت على نهرٍ جارٍ. ولو استثمرنا هذا الحديث الشريف فى حياتنا؛ لقلنا إن الإسراف حرامٌ ولو كنت مليونيرًا، قياسًا على النهر الجارى الذى حرَّم الإسلام الإسراف فيه ولو بجزءٍ يسير هو مرة واحدة زيادة على المرات الثلاث التى تتم الوضوء على أكمل وجه له، ونحن ندخل على رمضان فى كل عام دخول المسافرين الذين سينقطعون عن العالم والأسواق، ونأتى بما يسمى حاجات رمضان، وهى تتكلف الكثير، ونعد العدة لفطور كل يوم كأننا صائمون من شهر فى كل يوم، وما نفطر به اليوم لا نفطر به غدًا، ناهيك بما نعده من مشروبات وفواكه، وحلويات وعصائر.


وقد سكت الخطاب الدينى منا غير قليل، لا يرد فيه نهىٌّ عن الإسراف فى رمضان حتى بلغت العادة مداها واستشرت، وإذا دعا داعٍ إلى الاقتصاد، واجهته أصوات العوام؛ قائلة: «الدنيا صيام يا عم»، فيسكت العم والخال، ويرتفع صوت الموال على صوت الحكمة الدينية، وإذا سئل عَالِم الدين عن الإسراف فى رمضان نحا نحو المزاج الشعبى وقال لا بأس، وكم جلبت علينا لا بأس هذه كثيرًا من الويلات.


الأحد: رمضان أيام كنا نزرع القمح


 كان أبى - رحمه الله - يزرع القمح، وكان يوم ضم الغلة يوم عيد فى قريتنا، كنا ندرسه، ونُخزنه، ونبيع للتاجر ما زاد عن حاجتنا، وكانت أمى - رحمة الله عليها - تُخرج من المدخر فى دارنا شيئًا فشيئًا وتغسله فى الترعة قبل أن تتحول إلى مجرى للصرف الصحى، وتجففه، وتذهب إلى ماكينة الطحين تطحنه، وتعود فتخبز لنا العيش والفطير، ما كنا نشترى رغيفًا من الفرن، وما كنا نسمع عن استيراد القمح من روسيا ولا من غيرها، وكان رغيف الخبز بتعريفة وهو نصف القرش؛ أى أن الجنيه المصرى الواحد يُشترى به ٢٠٠ رغيف، ومع ذلك لم يكن أحد يشتريه إلا القليل من المرفهين أو الذين لا يزرعون، وقد سطونا على الأراضى الزراعية وزرعناها بالمسلحات وشيدنا عليها البيوت والعمارات، فقلَّت المساحات، وتغيَّر وجه الكون، حيث كنت تمشى فى طول البلاد وعرضها بين خضرة متصلة ممتدة، لا ترى عينك من مبنى سوى زرايب المواشى بالطوب اللبن، وكنت تفسح الطريق للمواشى السارحة أول النهار، والعائدة إلى دور أصحابها آخر النهار، تشاهدها وتفسح لها الطريق وأنت تصلى على النبى - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: اللهم بارك، اللهم بارك، أما وقد صرنا نمشى لا نرى إلا نتفًا من الخضرة لا يقال فيها إلا من باب الذكريات العزيزة لما كنا عليه، ويقول لك الذين لا يعلمون:


الصحارى واسعة فليزرعوا الصحارى وهم لا يعلمون أن زراعة الصحارى لا تقوم فى يوم وليلة، وتتكلف الكثير، بينما طمسنا أعين الأراضى الزراعية، وشوَّهنا جمالها، وكانت تنتج لنا من كل الثمرات فى يوم وليلة. أما وقد كنا السبب فيما آل إليه أمرنا، فلابد أن نتحمل دفع الثمن مُقرين بما كان منا، عسى الله أن يرحمنا «قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». 


وقد مدح النبى - صلى الله عليه وسلم - خلقًا للأشاعرة ومنهم الصحابى الجليل أبو موسى الأشعرى - رضى الله عنه-، وقال الأشاعرة: أرق الناس قلوبًا كانوا إذا أرملوا - أى إذا اشتدت بالناس الحاجة جاء كلٌّ بما عنده ثم قسَّموه بينهم  بالتساوى، وما مدحه سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحن فى حاجة إليه ولو على مستوى أقل مما كان عليه الأشاعرة، نحن فى حاجة إلى التراحم والتعاون على البر والتقوى، نحن فى حاجة إلى أن يتطوع الأغنياء فيزيدوا على زكاة الفطر رحمةً بالفقراء والمساكين وتقربًا لله رب العالمين القائل: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَ  أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)، ‬والتواصى بالصبر من مقتضاياته الاقتصاد فى الشكوى، قال العلماء: الصبر الجميل هو حبس النفس عن الشكوى لغير الله - عز وجل -؛ ذلك لأن الغالب أن الشكوى تزيد المر مرارة، والعكر عكارة، والشكوى متنها المبالغة، فالكثير الغالب فى الشاكى أنه يعلمك أنه على الحديدة بينما يكون عنده، لكن ما سمعنا شاكيًا يقول عندى ما لا يكفينى، فيهون الخطب على نفسه وعلينا، وإنما نسمعه دائمًا يقول: لا أجد الهواء مع أن الهواء يتنفسه ويشكو بصوتٍ يتنفس جيدًا، يرتفع صوته، ويصرخ فى كل مسمع: لا أجد لا أجد، فيشوه الأفق كما شوهنا الأراضى الزراعية، والتواصى بالمرحمة شاملٌ للمصدر الذى هو الرحمة، وشامل للزمان وريبه وتقلباته، وشامل للمكان وتغيراته، فالدين أساسه الرحمة، ومن رحم مَنْ فى الأرض رحمه مَنْ فى السماء، هكذا قال سيد الأنبياء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم.


الاثنين: نعمة وجود البديل


على رطب أو تمر أو لبن أو ماء على الترتيب كان فطوره صلى الله عليه وسلم فى رمضان، وفى غيره إذا كان صائمًا، وهو ينتقل من صنفٍ إلى صنفٍ إذا لم يجد ما يشهى، ونعمة وجود البديل من كبرى النعم، وقد عرفنا الناس فى أيام صبانا يحمدون الله على نعمة وجود البديل، ويقولون: أحسن من عدمه، وكان الواحد منهم يسأل عن الشىء الذى  يريده فإن لم يجده أو وجد ثمنه غاليًا سأل عن غيره واشتراه، وحمد الله - عز وجل -، وكان يقل لأهله: سألت لكم عن كذا فلم أجده أو وجدته غاليًا فاشتريت لكم كذا، فيضحكون ويتلقفونه؛ وهم يقولون: نعمة ورضا، عاشوا حامدين شاكرين، ومعروف أن حمد الله - عز وجل - يكون على كل حالٍ فى السراء والضراء، فى الخير والشر، بخلاف شكره - عز وجل-  الذى يكون إثر نعمة من نعم الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ  كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ  بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، فأمرهم الله بشكره بعد أن أمرهم بالأكل من رزقه، والله - عز وجل-يبشر الحامدين قال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). وقوله تعالى وبشر المؤمنين يفتح باب الأمل فى خضم اليأس، وإذا أراد الله - عز وجل - أمرًا قال له كن فيكون، ولى عبارة من قديم: إذا تدخل الله فى أمر - ولله الأمر جميعًا - فلا زمن، وهذا يجعلنا لا نستبعد رحمة الله ورزق الله متى كنا متقين؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقد خاطب مريم - عليها السلام - وهى فى المخاض ضعيفة القوى، أن تهز بجذع النخلة كى تساقط عليها رطبًا جنيًا؛ فتأكل وتشرب وتقر عينًا، فلابد أن نأخذ بالسبب، ورمضان خير معين على الأخذ بالسبب، وهو الاقتصاد، فكيف يتحول الاقتصاد إلى الإسراف، وقد قيل «ما افتقر من اقتصد»، فالاقتصاد أمان من الفقر والحاجة، وسبيل إلى الغنى والرخاء، والاقتصاد مشروع فى رمضان، وقد ورد فى الصحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم- قوله: «تسحروا فإن فى السحور بركة»، والعلماء على أن للبركة تفسيرين، الأول أنها سرٌ من أسرار السحور، والثانى أن فى السحور عونًا ماديًا للصائم على الصوم، وعندى أن المعنيين مرادان، وقد قال الفقهاء: يحسن أن يتسحر الصائم ولو على كوب ماء، لينال بركة السحور، وما أيسر الماء، وما أيسر الحياة برمتها لو فقهنا ديننا.
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة