إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

الطقوس الغائبة!

إيهاب الحضري

الخميس، 14 أبريل 2022 - 09:45 م

لازلتُ أذكر مشاعر ليلة الرؤية المليئة بالترقب لثبوت رؤية الهلال، ولسعات الفانوس الصاج ذي الشمعة المتهافتة، ورائحة تراب الأرض التي تُنعشني كلما تذكّرتُها.
 

بركات الزينى بركات!


السبت:


أهبط أمام مبنى «موسى صبرى» استعدادا ليوم عمل رمضاني، الاعتياد جعل عملية الانتقال من السيارة إلى المبنى تتم تلقائيا. اليوم فقط وقفتُ دون مبرر أتأمل الواجهة الزجاجية وأتذكر تفاصيل قديمة.

فى عام 1995 تزامن رمضان مع شهر مارس على ما أتذكر، لسنوات قبلها ظللتُ ضيفا على زملاء يستقبلوننى فى «الأخبار» بترحاب أو جفاء وفْق مساحات وقت فراغهم. غير أننى دخلتُ المبنى نفسه فى ذلك الصباح البعيد، كى أفتح لنفسى باب الانضمام بشكل رسمى إلى المؤسسة العريقة، بعد سنوات من الترحال بين صحف عربية عديدة.

القصة ذات ملامح غرائبية وسبق أن حكيتُها مرارا، لكن المهم أننى قابلتُ الروائى الكبير جمال الغيطانى فى ذلك اليوم، وافق على أن أكون ضمن فريق «أخبار الأدب»، ولاحظتُ أن موافقته حيادية، تخلو من الحماس أو الفتور على السواء. توقعتُ أننى لن أستمر طويلا، غالبا سيقوم بالاعتذار لى بعد أسبوعين أو شهر على الأكثر، لأن ظروف الجريدة لا تحتمل وجودي، بسبب النقص الشديد فى الإمكانيات، وطابور طويل من مُنتظرى التعيين. لكن بركة رمضان حلّت فجأة.. وبمحض الصدفة.


فى روايته «الزينى بركات» اقتنص الغيطانى سطورا قليلة أوردها المؤرخ المصرى ابن إياس، عن الرجل الغامض الذى ظهر فجأة، واقترب من السُلطة حتى أصبح مُحركا أساسيا للأحداث. صاغ الروائى الكبير من هذه السطور عالما روائيا حافلا بالإثارة والإبداع، قرأتُ الرواية عند صدورها وأعتقد أننى كنتُ وقتها فى المرحلة الثانوية، ففتحتْ لى الباب أمام عالم جديد من الأدب، واجتذبتْنى إلى إبداعات الغيطانى قبل أن ألتقيه بسنوات. فى رمضان 1995 تحوّلت الرواية إلى مُسلسل متميز، كتب السيناريو الخاص به المُبدع محمد السيد عيد. حرصتُ على متابعته منذ الحلقة الأولى، دون أن أعرف أنه سيؤثر فى مجرى حياتى بعد ذلك، خاصة أننى لم أتوقع أساسا أننى سأنضم لأخبار الأدب فى نهاية الشهر الكريم.


نظّمت نقابة الصحفيين ندوة لمناقشة المُسلسل، واعتذر الزميل المُكلف بتغطيتها فتمت إحالة المهمة إلىّ، اتجهتُ إلى النقابة يصاحبنى قلق بالغ، فالغيطانى هو من حدّد اسم الزميل المُعتذر، وقد يشعر بالغضب حين يرانى أتقمص دور البديل. بعد لحظات رحلتْ مخاوفى أمام استقبال لطيف من الروائى الراحل، وانطلقت الندوة التى لم أتابعها كصحفى يؤدى دوره فقط، بل كعاشق للرواية والمسلسل، ساعدنى الهوى فى الإلمام بتفاصيل العملين، وهو ما أثّر بالإيجاب على استعراضى لفعاليات الندوة، وقضيتُ الليلة أكتبها لأضعها على مكتب الغيطانى فى الصباح وأخرج مُسرعا.


بعد نحو نصف الساعة، لاحظتُ أن كل من يخرج من مكتب الأديب الكبير ينظر لى ثم يمضى فانتابنى القلق، ولمن لا يعرفنى أود توضيح أن القلق شعور مُزمن ورفيق دائم. أتساءل عن سبب النظرات ولا أنتبه من فرط التوتر أن بعضها تأتى مصحوبة بابتسامات. عرفتُ السبب بعد نشر الموضوع، فقد انقلب حياد الغيطانى تجاهى إلى حماس، وأشاد بما كتبتُه وأخبرنى أنه تلقى مكالمات عديدة ممن شاركوا فى العمل، أبدوا إعجابهم بالتغطية غير التقليدية.


عاش الزينى بركات فى العصر المملوكي، وكان طاغية كغيره من أمراء المماليك، شكا الكثيرون من ظلمه وجبروته، لكن بركاته أحاطت بى بعد قرون، وكانت سببا أساسيا فى استمرارى فى المؤسسة العريقة.


بهجة الطقوس


الأحد:


تتوالى الصور على الشاشة، وقد منحها التطور التكنولوجى إبهارا غير محدود. أتذكر أياما كنا نشعر فيها بالانبهار وعيوننا تلتهم مسلسلا رمضانيا وحيدا، لكنه كفيل بأن يمد طفولتنا بطاقة لا نهائية من الخيال.

وقتها كان التليفزيون قناة اتصال سحرية تربطنا بعالم غامض، يتكشّف أمامنا تدريجيا، لنكتشف أن الدنيا أكثر اتساعا من أمتار قليلة مسموح لنا بالحركة فيها.

يُمكن لأبناء جيلى أن يؤرّخوا حياتهم بمسلسلات ساهمتْ فى توسيع مداركهم، وفوازير أشعلت غريزة الفوز بجوائز ثمينة، عبر الإجابة عن قليل من الأسئلة الساذجة، ودعم الكثير من الحظ.

كل شيء تغير حتى الإحساس بالمُتعة، ربما يكون للشاشات المزدحمة بالدراما والإعلانات دور فى ذلك، وقد يكون السبب هو الزمن الذى صقلنا بخبرات أفقدت كل جديد نكهته، فدراما الحياة تفوق خيال المؤلفين فى كثير من الأحيان، حتى إن إحساسنا ببهجة طقوس رمضان تراجع بدوره، وظلت الذكريات الراسخة بداخلنا تربح دائما.


المؤكد أن ذلك لا يرتبط بطبيعة العصر فقط، فكثيرا ما كنتُ أشعر بالحنين إلى الماضى بمختلف مراحل عمري. سنتان فقط من طفولتى قضيتهما بالقرية، فرحتُنا بالشهر الكريم ارتبطت بمفردات فقيرة لكنها قادرة على ضخ المتعة. لازلتُ أذكر مشاعر ليلة الرؤية المليئة بالترقب لثبوت رؤية الهلال، ولسعات الفانوس الصاج ذى الشمعة المتهافتة، ورائحة تراب الأرض التى تُنعشنى كلما تذكّرتُها. انتقلت بعدها إلى الجزائر لأنزعج من غياب الطقوس، أحاول مع غيرى من الأطفال المصريين أن نجترّها باستدعاء ما نستطيع منها، حاول الكبار دعمنا بجلب ما تيسّر من فوانيس قبل حلول رمضان، مع أى قادم من القاهرة. يتعجب أقراننا الجزائريون مما نفعله، لأنهم لا يمارسون عاداتنا. الماضى كان يكسب دائما فى المقارنة، رغم أن الفارق الزمنى الذى يفصله عن الحاضر فى ذلك الوقت لا يتجاوز عامين أو ثلاثة.

عند عودتنا إلى القاهرة اختلفت الأمور نسبيا، على الأقل أصبحنا نشم روائح شهر ننتظره كل عام، غير أن الفوانيس القديمة بدأت تتراجع لصالح أخرى تعمل بالبطاريات، أقبلنا عليها فى البداية بنهم الانجذاب لكل ما هو حديث، وبعد أن مللناها عادت الذكريات، لتواصل ليالى القرية الفوز فى أية مقارنة.


رمضان أكتوبر


الإثنين:


قبل نحو نصف قرن، عشتُ ذلك العام الفريد، الذى اجتمع فيه التاريخان الهجرى والميلادى على حدث ألهب مشاعرنا الهشة، قبل أن يُفرق الزمن بينهما بحُكم اختلاف التقويم، إنه العاشر من رمضان الموافق السادس من أكتوبر عام 1973. تكسب ذاكرة الأطفال فى هذه الحالة أحاسيس مُبهجة، ربما بفعل حالة الضبابية التى سيطرت على مداركنا. من الذى يهتم بالتفاصيل فى هذه السن الصغيرة؟

المهم أننا انتصرنا على عدو نشأنا على كراهيته، بعد أن حصد أرواح أقارب لنا، ومن بينهم أطفال فى مثل أعمارنا بمدرسة بحر البقر الابتدائية، لهذا لا يزال جسدى ينتفض كلما سمعتُ أغنية «الله أكبر باسم الله» حتى الآن.


أكتشف أن شريط ذكريات طويل سرقنى من الشاشة شديدة الجاذبية، حتى بإعلاناتها التى تُبهرنا فى أول الشهر، وسرعان ما نشعر بالملل منها، بعد جرعات مُكثفة تضرب تركيزنا فى مقتل، وتسلبنا القدرة على متابعة أحداث الدراما، حتى بعد أن ابتكر الكثيرون تكنيكا لتفادى القصف المتتابع للدعاية، بمساعدة الريموت كنترول، ذلك الاختراع السحرى الذى منحنا حرية الحركة، بعد سنوات طويلة قضيناها فى الاعتماد على بكرة مُثبتة فى الجهاز، تستدعى تناوب أفراد الأسرة على تحريكها للانتقال بين قناتين وحيدتين. الآن ننتقل بسلاسة بين عشرات الفضائيات، ونُشاهد مسلسلين أو ثلاثة فى وقت واحد، لأكتشف فى لحظة ما أن الأحداث تداخلتْ وأنتجت عملا فنيا جديدا يمزج بين سياقات مختلفة إلى حد التعارض! 


غلطة عمرها 20 عاما


الأربعاء:


 وسط طوفان الأعمال الدرامية، يقودنى الريموت كنترول إلى قناة تعرض مسلسلا قديما، أبتسم بعد أن تذكرتُ كيف قضينا سنوات طويلة دون أن ننتبه إلى هفوة درامية واضحة فى مسلسل «عائلة الحاج متولي» الذى أذاعته الفضائيات لأول مرة فى رمضان عام 2001.


كان المسلسل الأكثر جذبا فى ذلك العام، تاريخه محفور بداخلي، ليس لأننى قوى الذاكرة، بل لأنه ارتبط بمولد ابنى الوحيد سيف الدين يوم السابع من رمضان.

تقضى زوجتى مرحلة ما بعد الولادة فى بيت عائلتها، أتناول طعام الإفطار عندهم وبعد بعض الوقت أمضى وحيدا إلى منزلي، عبر الدقائق الفاصلة بين المكانين، تظل موسيقى»التتر» متصلة، لأن المحلات كلها ثبّتتْ مؤشرات تليفزيوناتها على القناة التى تذيعه.

لم لا وقد داعب الحاج متولى غرائز الرجال، باستحضار صورة عصرية لساحر النساء، الذى يجمع بين العديد من الزوجات ويتمتع بمحبتهن، وفى الوقت نفسه يواجه تناقضاتهن بمهارة غير عادية؟ من المنطقى أن يلفت هذا الأداء «السوبر» انتباه بنى آدم، لكنى حتى الآن لا أستطيع تحديد سبب إعجاب بنات حواء بهذا العمل، الذى قيل إن تدخلا عالى المستوى حدث لتغيير نهايته، كى لا يتسبب فى إقبال الرجال على تعدد الزوجات، استجابة لتأثير نور الشريف الطاغي. المهم أن إحدى العُقد الأساسية بالعمل، تمثّلت فى حب سعيد ابن الحاج متولى لإحدى زميلاته فى الجامعة.

أوهمها أنه مجرّد عامل بسيط، لأنه أخفى عن والده أنه يستكمل دراسته الجامعية، واقتنعت الفتاة بذلك رغم أنها سارعت فى أحد الأعوام بالاستعلام عن نتيجته، وبشّرته بالنجاح دون أن تنتبه إلى أن اسمه الكامل يؤكد أنه ابن التاجر الثري، الذى زارت متجره وشاهدت اللافتة الضخمة المُثبتة عليه وتضم اسمه، والغريب أننا لم ننتبه وقتها إلى غياب المنطق، حتى مع استمرار الإعادات المتكرّرة للمسلسل فى سنوات تالية. قبل عامين فقط انتبه المتفرجون الذين ولدوا خلال الإذاعة الأولى للمفارقة، فقد أصبحوا شبابا وأطلقوا مدافع سخريتهم فى وجه سذاجتنا!
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة