علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

دعانى لبيته.. ساعياً لـ «بيته»

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 19 أبريل 2022 - 07:25 م

طفنا، دعونا، سعدنا بأشواط السعى، لم تشغلنا مشاعر التعب، بل كنا نردد عند عودتنا للفندق، وفى صوت واحد: ما أجملها من مشقة.

الجمعة:


كانت عقارب الساعة تقترب من رسم زاوية قائمة، لتشير إلى تمام التاسعة مساءً.


اللحن المميز لمحمول شريكة العمر يلح، بينما كانت تقرأ فى المصحف الشريف، توقفت، طالعت الشاشة، وسارعت بالرد، وبعد ثوان تهلل وجهها، وأشرقت ملامحها.


بكلمات سريعة زفت لى البشرى:

سوف تسافر لأداء عمرة.


بدأت فى متابعة الحوار الهاتفى، ولم يكن صعباً استنتاج الطرف الآخر؛ كبرى بناتنا قرأت على موقع النقابة عرضاً لزيارة بيت الله الحرام، وشرف زيارة حبيبه المصطفى.


يفصلنا عن إتمام تقديم الأوراق المطلوبة 72 ساعة فقط.


المطلوبات متعددة، متنوعة، بعضها يحتاج مراجعة أكثر من جهة.


قوة وحماسة دبت فى العروق والأوصال، ولسان حالنا:


لابد أن نلبى الدعوة، فهذا التيسير يشير يقيناً إلى عون إلهى على أدائها، مادمنا قاصدين بإخلاص وجهه الكريم.


وفقنا العلى القدير فى إنجاز ما هو مطلوب منا، وأصبحنا وأمسينا بانتظار أن ينجز المنظمون ما يخصهم من إجراءات، عليهم الإنتهاء منها فى زمن قياسى.
ترقب، قلق، طمأنينة،...،....، مشاعر متضاربة، لكن فى كل الأحوال ثمة يقين بأننا عما قريب بإذنه تعالى سوف نلبى فى الحرم المكى إجابة واستجابة لدعوة الكريم جل شأنه، ولزوما لطاعته. فلبيك اللهم لبيك.


وأخيراً.. تنفسنا الصعداء، وتم إبلاغنا بالموعد النهائى للتجمع بالمطار.


الثلاثاء: جمال المشقة


مبكراً استيقظنا، أتممنا كل مايجب استعداداً للرحلة المباركة، وما أجملها من لحظة حين ارتدينا ملابس الإحرام وصلينا سنته. والقلب واللسان معاً يلهجان بالنية.


ولم تنقطع التلبية فى المنزل، فى الطريق للمطار، فى صالة الانتظار، فى الطائرة حتى حطت بنا فى مطار جدة، ثم فى الرحلة الطويلة إلى مكة المكرمة.
أمسينا على مشارف مكة، حينها تذكرت قول أبلغ خلق الله عليه أفضل الصلاة والسلام: «انك لخير بلاد الله عزوجل، وأحب بلاد الله تعالى. ولولا أننى أخرجت منك لما خرجت»


ما أروعه من درس فى حب الوطن، بل وتقديسه، وهل من قول بعد قوله عليه السلام.


تذكرت قوله أيضاً: أنى لم أر السماء بمكان قط أقرب إلى الأرض منها بمكة.


بالفعل كانت السماء تعانق الجبال والتلال المحيطة بالمدينة المقدسة.


نبهتنى زوجتى كى أفيق من استغراقى متأملاً روعة المشهد وجلاله:


عليك الآن بدعاء دخول مكة.


أومأت برأسى مبتسماً، ورددت: «اللهم أجعل لى بها قراراً، وأرزقنى فيها رزقاً حلالاً....،......، اسألك مسألة المضطرين إليك، المشفقين من عذابك، ان تستقبلنى بمحض عفوك،.....


بالكاد أتممت الدعاء، وانتبهت على تهئنة مشرف الرحلة بسلامة الوصول لأقدس بقاع الأرض، مذكراً بأننا سوف نتوجه أولاً للفندق لاستلام غرفنا، ووضع أمتعتنا، ثم نتوجه إلى غايتنا من الرحلة: الطواف بالكعبة، والسعى بين الصفا والمروة.


لم نستطع السيطرة على مشاعرنا عند رؤية الكعبة،مهللين، مكبرين، موحدين، وقد بلل الدمع وجهينا، واللسان لم ينقطع عن دعاء الرؤية.


رغم عناء الرحلة الطويلة ومشقتها، منذ الصباح الباكر، وقد أرخى الليل سدوله، إلا أن للمشقة هنا جمالها، وللتعب حلاوة لاتضارعها إلا ما جادت به الذاكرة عند زيارتنا الأولى حجيجاً قبل أكثر من عشرين عاماً.


طفنا، وسعينا، ودعونا عند الملتزم. ومقام ابراهيم، ومتعنا البصر بالنظر للحجر الأسود فى كل شوط، وارتوت العروق الظمأى بماء زمزم، وما لبثنا أن سعدنا بأشواط السعى السبع بين الصفا والمروة.


لم تشغلنا مشاعر التعب، بل كنا نردد عند عودتنا للفندق، وفى صوت واحد:

ما أجملها من مشقة.


الأحد: فى الطريق للحبيب


شوق بلا حدود يحدونا للقاء الحبيب.


كنت وشريكة العمر والصحبة، نتمنى أن تقطع الحافلة المسافة بين مكة المشرفة، والمدينة المنورة فى اللا زمن!


شوق مغزول بخيوط من محبة خالصة، وشغف للقرب من القبر الشريف.


اسغرقت زوجتى فى تأمل المشهد المهيب عبر نافذة الحافلة، ثم استدارت برأسها فجأة، وكنا قد قطعنا شوطاً لا بأس به من الرحلة:

أظن أن بعض التعب تسرب إلينا.


بالتأكيد.


لاحت على شفتيها ابتسامة خفيفة سرعان ما اختفت، واستطردت:


لاحظ أننا نستقل حافلة فاخرة مكيفة، تمضى على طريق ممهد كالحرير، ومع ذلك نشعر بالتعب، كم عانى الحبيب المصطفى فى رحلته من مشاق عبر دروب صعبة وشمس حارقة عندما أذن له ربه بالهجرة؟


هنا أدركت مغزى ابتسامتها، قبل أن تواصل حديثها، ثم ران من جديد صمت، ولحظات تأمل طويلة تشاركنا فيها حتى بلغنا مقصدنا.


بالكاد لحقنا بصلاة العشاء بالمسجد النبوى الشريف، وفى الذهاب والاياب لم نكف عن الصلاة والتسليم على أفضل خلق الله أجمعين.


ثم كانت اللحظة التى أنتظرناها طويلاً بشوق بالغ، أقصد زيارة الحبيب وتحيته، وإلقاء السلام المفعم بالمحبة عند المرور بقبره الشريف.


حمدنا الله أن أتممنا مقاصد رحلتنا، وكان خير ختام.


هنا تذكرت قوله عليه الصلاة والسلام. «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى».


شعرت بغصة فى القلب من أجل الأقصى الأسير، وتساءلت: هل يمتد بنا الأجل لنشد إليه الرحال؟


تداعت من الذاكرة، القريبة ما أوجعنى ونحن نستعد لرحلتنا، مما أصاب الأقصى من دنس عبر اقتحامات خلال عيد المساخر اليهودى، والصهاينة يرتدون ملابس تنكرية، ويتحركون بصورة استفزازية، يؤدون شعائر تلمودية، وقد أفرغت شرطتهم المسجد من أصحاب الحق فى الصلاة فى صحنه وباحاته!!


وحيث كنت بالمسجد النبوى دعوت بكل ذرة من كيانى بفك أسر الأقصى، وانقاذه، من تهديدات بلا حد، وأن يكتب لنا الله فيه صلاة.


عندما تأهبنا لرحلة العودة للوطن، كان الوهن بادياً فى قسمات شريكة العمر، وكفت تماماً عن أى إدعاء بتمام صحتها، فقد تكالب عليها تعب الرحلة ومشقتها، مع متاعبها القديمة، وكان الاجهاد الشديد يظلل ملامحها، ويترجمها فى كل حركة وسكنة، اللهم عفوك.


السبت: بقع رمادية!


لم يكن قد مضى 24 ساعة على عودتنا من احدى أجمل رحلات العمر، حتى انهارت آخر حصون مقاومة شريكة العمر، امام التعب إلى حد الانهاك، ولم يكن ثمة بديل إلا اتخاذ قرار ربما تأخر بعض الشيء بالذهاب للمستشفى دون أى ابطاء.


الكلمات تخرج من فمها بصعوبة، ولم تفارقها ابتسامة رضا، وتحاول رغم معاناتها التى أعرف مبلغها أن تطمئن كل من حولها.


الحمد لله أنا بخير، المؤمن مصاب، لقد دعوت خالقى أن يفتح لى أبواب رحمته ولن يخذلنى، فهو أرحم الراحمين، لقد سألته العفو والعافية ولن يرد مسألتى، فهو الجواد الكريم.


كنت أتوسل إليها أن توفر النزر اليسير الباقى من عافية نفدت، لكنها لاتكف عن الدعاء!


وصلنا لطواريء المستشفى الكبرى، وبعد معاينة سريعة لحالتها، قرر الاطباء دخولها رعاية العزل، لأن فحص كورونا جاء ايجابياً، لكن قبل ذلك علينا سداد تأمين دخول قدره «50 ألف جنيه!!»

رغم تحويل نقابة الصحفيين الذى يعد بحد ذاته ضمانة لحقوق المستشفى، المهم وبصعوبة بالغة اتفقنا على أن تقبل الادارة حوالى نصف المبلغ على أن نكمله فى الصباح الذى اقتربت بشائره!


فى رعاية العزل الزيارة ممنوعة، وبصعوبة -ايضاً- كنا نتواصل معها عبر المحمول، فكانت لاتكف عن رجاء إخراجها فوراً مهما كانت العواقب، ولم نجد تفسيراً لذلك إلا بعد أن غادرت العزل إلى الرعاية العادية، فاكتشفنا أن طاقم التمريض بشكل عام كان يتعامل معها بانسانية شديدة، لكن «بعضهن» وهن استثناء كن يغلظن لها فى القول والفعل، وثمة تجاوزات لايحتملها مريض يعانى معاناتها وفى عمرها الذى يتطلب تقديراً ورحمة.


اختلف الحال 180 درجة فى المكان الجديد الذى انتقلت إليه، فمسح ذلك ما شاب الفترة الأولى من سلبيات صارخة، لايحتملها شاب فى تمام عافيته!


المثير وغير المفهوم، أن تتم مطالبة المسئول عن المريضة، بالتوقيع بالموافقة على أمور طبية دقيقة لايفهمها إلا طبيب متخصص، ويبدو أن ذلك لابراء الذمة، وعدم تحمل مسئولية العواقب على أى مستوى مهنى أو قانونى، فهل ذلك أمر منطقى؟!


هذه الملاحظة لاتعنى أن ثمة تقصيرا، أو عدم كفاءة من الطاقم الطبى أو التمريض، إلا أنه يحمل فى طياته أهدارا لبعض حقوق المريض إذا لاقدر الله وقع خطأ طبى، عندئذ يتم ابراز موافقة الإذعان التى وقعها المسئول عن المريض!


وبمناسبة التوقيع الذى لا مفر منه، اكتشفت أننى وتحت ضغط الخوف الشديد على تدهور الحالة بايقاع سريع، كان ضمن ما وقعته أمران غاية فى الغرابة؛

الأول: ادعاء وجود اصابات لم تكن موجودة، لكنها متوقعة نتيجة طول الرقاد فى الفراش، الثانى: اباحة تصوير المريضة خلال اجراء عملية جراحية، مع اشارة إلى أن ذلك لاغراض علمية، ولن يتم تجاوز ذلك إلا بإذن المريض، والسؤال من يضمن ذلك؟


أتمنى أن يكون لنقابة الأطباء دور فى إزالة هذه البقع الرمادية- ولا أقول السوداء- عن الثوب ناصع البياض، وكذلك لنقابة التمريض التى تضم تحت مظلتها ملائكة الرحمة، لكن تسرب لصفوفها من يسيء، إلى الكثرة الغالبة.


أخيراً: أسألكم الدعاء لشريكة العمر التى لم تفقد للحظة صبرها على ما ألم بها محتسبة أجرها على الرحمن الرحيم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة