علاء عابد
علاء عابد


«ثقافة الاستغناء».. والطريق إلى ترشيد الاستهلاك

أخبار اليوم

الجمعة، 29 يوليه 2022 - 07:17 م

«ليس الغنى بكثرة ما نملك، إنما الغنى بكثرة ما نستغنى عنه».. هكذا قال الحكيم اليونانى القديم ديوجينيس، داعيًا إلى تبنى ثقافة الاستغناء وترشيد الاستهلاك، حتى يغيب عن أذهان كثير من الناس، أن الغنى الحقيقى ليس بامتلاك الشيء، إنما هو بالاستغناء عنه!

وتأكيدًا على هذا المعنى العظيم، يقول الأديب الكبير الراحل مصطفى صادق الرافعى «لا تُقدر ثروات الإنسان بأمواله ومُسْتَغلاَّته، بل بعدد الأشياء التى يستطيع أن يعيش وهو غير محتاج إليها».

وثقافة الاستغناء من القواعد الأساسية التربوية، التى يجب أن يتقنها الشخص منذ نعومة أظفاره، وذلك لكونها تعزز الاكتفاء والتجاوز فى الحياة، كما أنها تقوّض نزعة الاستئثار والاستحواذ والأنانية لدى الإنسان، وتجعله أكثر مرونة فى تجاوز متاعبه وعثراته، وأكثر تحكمًا فى خياراته الحياتية، فلا يكون عبدًا لغرائزه وشهواته الجسدية.

ولا جدال أنه إذا عاش الإنسان بالرغبات انحدر، وإذا عاش بالاحتياجات ارتفع. فالبون شاسعٌ والفرق كبيرٌ بين الرغبة والاحتياج. ولذلك، فإن ثقافة الاستغناء تُعد تجسيدًا لفكرة التعالى عما هو غير ضرورى فى الحياة، وأن يسعى جاهدًا إلى ترشيد استهلاكه، فمن أسوأ العادات السلوكية ذلك الداء المُتمثل فى أن يحيا الإنسان حياته تقوده رغباته الاستهلاكية، وليس احتياجاته الحقيقية.

ومن المؤسف أننا أصبحنا نعيش فى «مجتمع اقتنائي»، ننشأ فيه منذ الطفولة على أن هذا لى وهذا لك، وعلى أن أحدنا يُسَرُّ بأن يكون له أكثر مما للآخر، ثم نكبر بعد ذلك فنزداد رغبة فى الاقتناء، واندفاعًا نحو الامتلاك؛ لأن العادة قد أصبحت عاطفة ومزاجًا، ونعيش طوال حياتنا ونحن فى تعب؛ لأننا لم نقتنِ كما اقتنى فلان الذى كنا نعرفه أقل ثروةً منا، ونعيش بين جيراننا فى مباراة؛ نرقبهم حين تخرج إحدى بناتهم فى ثوب زاهٍ، أو حين نقرأ فى الصحف عن الترقيات والعلاوات فنمتلئ حسدًا؛ لأن هذا الشخص الذى كنا على الدوام نتفوق عليه، أو على الأقل نساويه، قد ارتفع وارتقت أحواله دوننا، الأمر الذى يورث الحقد والحسد والبغضاء.

ومعظم ما نبذل من مجهودات مضنية فى الاندفاع نحو الاقتناء، إنما هو مصطلحات اجتماعية لا أكثر؛ أى ليس لها فى نفوسنا حاجة طبيعية؛ فحاجاتنا الطبيعية قليلة جدًا. ولقد قنع «غاندي» مثلًا بأن يعيش بنحو ثلاثة جنيهات أو أربعة فى العام كله؛ فكان يكتفى من اللباس بقطعة من القماش غير مخيطة يتلفع بها، ولقيمات صغيرة تسد رمقه، وهو الذى كان يستطيع ـ لو أراد-أن يرتدى أفخم الثياب، وأن يأكل أفخر الأطعمة، لكنه الاستغناء يا سادتي، تلك «الفضيلة الغائبة»!

إن كل الأديان السماوية، على السواء، تدعو إلى الحكمة والتوازن فى الاستهلاك، من باب ممارسة عبادة الزهد والتقرب إلى الله تعالى، والحفاظ على نعمه وتقديرها، والاستغناء عن بعض متاع الدنيا الفانية من باب التعفف، وحتى لا تتحكم فينا أشياء من المفترض أنها من قبيل الكماليات التى يمكن-بسهولة- الاستغناء عنها.

وتتفق البشرية جمعاء على أن ترشيد الاستهلاك هو قيمة إنسانية واجتماعية ودينية نبيلة، وهو معيار للتوازن الذى يبنى عليه استقرار المجتمعات والدول، ويؤمن سلامتها فى وقت الأزمات، وذلك بما ينسجم مع قوله تعالى: (والَذين إِذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يَقتُروا وكان بين ذلك قَوَاما).

ولقد قرأنا فى كتب التاريخ، كيف تفعل ثقافة الاستغناء وترشيد الاستهلاك فعلها، ففى أيام الإسلام الأولى كان النبى صلى الله عليه وسلم، هو أول الداعين إلى التجلد والصبر على الحصار الاقتصادى الذى ضربه كفار قريش على المسلمين فى شِعب أبى طالب، وكان لهذه الدعوة مفعول السحر فى انتصار المسلمين الأوائل، لأنهم صبروا على البلاء، وأكلوا حتى أوراق الشجر.

وكذلك كان الحال فى العصر الحديث، فخلال الحربين العالميتيّن الأولى والثانية، كان البريطانيون يعيشون على الكفاف، من أجل توفير الغذاء للجنود على جبهات القتال. وهو نفس ما حدث فى مصر خلال حرب أكتوبر المجيدة عام 1973، حيت لجأ المصريون إلى التقتير على أنفسهم لدعم المجهود الحربي، وكان معدل الاستهلاك العام فى تلك الفترة من أقل المعدلات التى سجلتها مصر على مدار تاريخها الحديث، فجاء النصر المبين.

وعلى الرغم من ثراء مواطنيها، تتبع كل الدول الصناعية الكبرى سياسة «الاقتصاد بقدر الحاجة»، ومن يزور أوربا منا يمكنه ملاحظة السلوكيات الشرائية للأوربيين داخل المحلات، ففى الوقت الذى تجد فيه سلة شرائنا ممتلئة عن بكرة أبيها بأكياس المكرونة والدقيق والمخبوزات واللحوم والطيور والمكملات الغذائية، تجدهم يحاسبون على ثمرة فكهة واحدة وحبة خضراوات واحدة!

ولهذا السبب، ينظر لنا الغرب نظرة استنكار، بسبب سلوكياتنا الشرائية السفيهة وعاداتنا الغذائية الشرهة، من وجهة نظرهم، وفى ذلك - مع الأسف - قدر كبير من الحقيقة، فالباحث فى إحصائيات الهدر على موائد الشرق الأوسط، وبالأخص الخليج العربى سوف يصاب بصدمة لا مراء فيها.

إننا اليوم فى أمس الحاجة إلى تعميم ثقافة الاستغناء وترشيد الاستهلاك، خصوصًا أن العالم أجمع يواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة، وصلت تبعاتها إلى مصر، وذلك بسبب الحرب الروسية- الأوكرانية التى لا أحد يعلم متى سوف تنتهي. لذلك، ينبغى علينا ترشيد استهلاكنا، وعدم هدر موارد البلاد، فى كل المجالات، بما فى ذلك الغذاء والكهرباء والماء وغيرها، حتى نعبر هذه الأزمة بسلام إن شاء الله تعالى.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة