إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى


يوميات الأخبار

أسبوع الآلام

إيهاب الحضري

الخميس، 18 أغسطس 2022 - 10:01 م

طبيعة البشر انفطرتْ على الانطلاق، وجدران البيوت تتحول إلى سجن إذا ما احتلّتْ ساكنيها، بخلاف حوائط الفنادق، التي تُشبه نزوة عاطفية عابرة! 
 

الفرار من الندوة

السبت:

أغادر مبنى الجريدة وقد حسمتُ أمرى بعد ساعات من التردّد. اتخذتُ قرارا بعدم الذهاب إلى الندوة رغم حماس مُسبق، أخذ يخبو على مدار ساعات اليوم، بفعل لقاءات عمل تؤدى إلى نفاد مخزون الطاقة، فضلا عن إرهاق عجيب يسيطر علىّ منذ أيام. أشعر بخمول مرضىّ يجعلنى أعيش أحاسيس هاتف محمول يلفظ بقايا شحنته، لكن البشر يختلفون عن الأجهزة، فلا توجد «شواحن» تمنحنا الطاقة من جديد. ربما يكون العلم قد توصّل لحيل تمنح هذه الخدمة للأثرياء، لكن أمثالنا من الواقفين على الحافة بين الكفاف وملامح الاكتفاء الخادعة، ليس فى إمكانهم الحصول على هذه الباقة من الخدمات.

قديما كانت الرحلات تنجح فى تجديد طاقتي، مجرد تغيير الجو يُعيد النبض لأجهزتى الحيوية، حتى لو كانت الرحلة إلى بنها!

حاليا أصبح مجرد التفكير فى السفر مُجهدا، بعد أن أصبحت السفريات الخارجية حلما مستحيلا، والداخلية تُهدر ما فى الجيوب إذا كان بها ما يستحق الهدْر من الأساس.

حتى الإسكندرية القريبة أصبحتْ تستنزف الكثير من الأموال، ولو كانت الإقامة فى فندق متواضع. نُدرة الموارد إحدى النظريات الاقتصادية التى درستُها قبل أكثر من ثلاثين عاما فى الجامعة، ولم أتوقع وقتها أن أعيشها عمليا فى تطبيق عملى نادر، ينسف كل ما يُقال عن الفجوة بين النظرية والتطبيق.

كثيرون يرددون مقولة إن «الواحد ما بيرتاحش إلا فى بيته». مقولة صادقة لكنها لا تخلو من مزايدة فى بعض الأحيان، خاصة إذا تم تداولها بعد العودة من رحلة استجمام، فالرحلات ترتبط عادة بالراحة المُلبّدة برفاهية مؤقتة. تبدو كل رحلة كسحابة صيف تمضى بسرعة، بعد أن تُبطل مفعول أشعة الشمس الحارقة للحظات، نعود بعدها لمواجهة الحرّ والرطوبة. شخصيا أعشق الإقامة فى الفنادق، حيث تتجسد الرفاهية فى أمتع صورها، قد تتراجع المُتعة وقت الحساب خوفا من مفاجآت الفواتير، لكنها لا تفقد سحرها إطلاقا، ربما بسبب مرورها العابر، الذى يُغلق الأبواب أمام الملل، فالسأم وليد الاعتياد، وأيام الفنادق تمرّ سريعا وتتحوّل إلى ذكريات حُلوة، أما البيوت فتطول إقامتنا بها، قد نشعر فيها بالسعادة لكن البهجة أيضا لا تنجو من قوانين الملل.

فى سنوات صباى عادة ما كان يواجهنى اتهام من والدىّ بأننى أعيش فى فندق، ساعات البقاء كانت تطول خارج البيت، الذى يتحول بالفعل إلى مقر للمبيت فقط.

طبيعة البشر انفطرت على الانطلاق، وجدران البيوت تتحول إلى سجن إذا ما احتلّتْ ساكنيها، بخلاف حوائط الفنادق، التى تُشبه نزوة عاطفية عابرة!

يا صاحب المدد

أركب السيارة وقد قرّرتُ العودة للبيت. لن أذهب للندوة رغم إعجابى بالكتاب. أعترف أننى فى البداية تلقيتُه بتحفظ، اعتمادا على أعوام من الخبرة، علّمتنى أن دور النشر أصبحتْ تُصدر «أى كلام» يجود به صاحبه ما دام سيدفع المقابل المادي. اسم المؤلف غير معروف لدىّ، وهو ما يخفّض مؤشرات الحماس للقراءة. كالعادة أعلن صالون سالمينا أننى مشارك فى المناقشة، وهو ما دفعنى للاطلاع على الكتاب. من الصفحات الأولى أدركتُ أنّنى كنتُ مخطئا فى حقه. فقد فتح المؤلف لى أبواب عالم مجهول، رغم أن جانبا منه معلوم لمعظمنا. إنها مفارقة تكفل لمن يلتقطها النجاح، لأنه تجاوز حدود المألوف وكشف بعض جوانبه الخفية.

غالبيتنا كان يطرب كلما استمع لأغنية «مدد مدد.. شدى حيلك يا بلد»، التى لحّنها وغناها المطرب الراحل محمد نوح. لم يسأل أى منا نفسه عن مؤلفها. حتى عندما أثار أحد الشعراء جدلا حولها منذ سنوات لم أشغل نفسى بما يتردّد، واكتفيتُ بالاستمتاع فى كل مرة أستمع فيها للأغنية، التى فاقت شهرتها اسم مؤلفها. فى كتابه «يا صاحب المدد.. سيرة شاعر ومسيرة وطن»، كشف الكاتب الصحفى خيرى حسن ما خفى علىّ من أسرار، وتتبّع حياة الشاعر المجهول لمعظمنا زكى عمر، دون أن يقع فى فخ معتاد، يجعل مؤلفى هذه النوعية من الكتب يعيدون ضخ معلومات منقولة، فيتحول الكتاب إلى أرشيف مُصغّر بين غُلافين.

ربط الكاتب الخاص بالعام، ورسم ملامح الفترات التاريخية التى عايشها الشاعر ببراعة، لم تتوقف عند حد إتقان الرسم بالكلمات لينسج عالما إبداعيا، بل انطلق فى فضاءات الحقب التاريخية المختلفة، ليرصد ويُحلّل تحولات المجتمع، حتى نصل إلى المفارقة الكُبرى، فالشاعر الذى احتفى به الإعلام الرسمى بسبب إبداعه المفعم بالحياة والإحساس، يدخل السجن بتهمة «حيازة أشعار مناهضة لنظام الحكم»!

اكتفى المؤلف بعلامة تعجّب واحدة، رغم أن الأمر يتطلّب عشرات منها.

انطلقت السيارة فى طريقها للبيت، وتجاهلتُ الزحام المحيط بي، وأنا أتذكر أجواء القرية التى استضافتنى فى طفولتى لفترة مؤقتة، واستدعيتُ كلام زكى عمر: «والقرية مكان..

وبيوت وحوارى وطين وحوان.. وسواقى وترعة وليل وناموس وغيطان..

لكن الأغرب فى الموضوع.. أحيانا ننسى ما فى القرية من إنسان».

إعجابى بالكتاب كاد يدفعنى للتراجع والذهاب إلى الندوة، لكن الحاضر المُرهق كان أكثر قوة، فاستسلمتُ لصوت ليلى مراد الذى انبعث من المذياع: «والعيش والملح وعشرتنا ..

متهونش علينا محبتنا.. ولا نقدر على نار فُرقتْنا..

وهنرجع ومسيرنا لبيتنا..

بيتنا وحشنا وواحشنى هواه».

أغنية أخرى تتخذ من الهجر مُنطلقا وتحتفى بالحنين، وتتحدث عن النسيان كفضيلة باقية فى وجداننا، أبحث عن الأغنية عبر «جوجل» وأضع رابطها على حالتيّ «واتس آب» و«فيس بوك»، فتتوالى دقات المحمول مُعلنة وصول رسائل متتابعة ممن لعبت الأغنية على أوتار مواجعهم.

إنه الألم الذى يُعد عاملا مشتركا أعظم بين البشر فى شرقنا الحزين غالبا والسعيد فى محطات مؤقتة.

الأحد الحزين

الأحد:

صباح عادى كغيره. لا يوجد ما يُميّزه فى زمن يتسم بالرتابة. طقوس مكرّرة تتوالى منذ الاستيقاظ بالإكراه بعد نوم مُتقطّع. بمجرّد وصولى إلى العمل أعرف خبر الحريق.

هنا لن أجد سوى الصورة المُستهلكة: اعتصر الحُزن قلبي. هل أصبحتُ عاجزا عن الابتكار، أم أن التفكير فى تعبيرات جديدة لا يتناسب مع مشاعر الألم؟ إنه الوجع وكفى. أحيانا تُصبح المفردات البسيطة أكثر قدرة على التعبير، بما تحمله من دلالات مباشرة.

تتوالى الصور على السوشيال ميديا، التى تمنح الحريق توابلها، بتأويلات تسبق التحقيقات.

الكثيرون مُغرمون بالتحليل دون منطق، وهى ظاهرة انتقلت من المقاهى إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لتُضفى على كل حدث ما لا يتحمّله من فلسفة كاذبة.

أتجاهل كل ذلك وأتابع المآسي، عائلات فقدت أفرادا بالجُملة، ومن لم يمُت بالنار اختنق بدخانها.

الموت حصد الأرواح بكنيسة أبى سيفين، فى كارثة مُكتملة الملامح. الألم الصادق يسيطر على الغالبية دون تمييز بين أتباع دين وآخر، وقليلون يحاولون استثمار الوجع لتحقيق مآرب أخرى.

قررتُ أن أرتكب مجزرة إلكترونية لم يسبق لى القيام بها، مستخدما حقى المشروع فى حظر أى صديق واقعى أو افتراضي، يتحدث عن عدم جواز الرحمة على من فقدوا أرواحهم الطاهرة.

لا مكان عندى لمن يحاول سلْب حق السماء ومنحه لنفسه. أشعر أن الحادث الأليم كان الشعرة التى قصمت قدرتى على الاحتمال بعد غضب مؤجل لأعوام، من بشر أدمنوا الإساءة للإنسانية، وجعلوا الرحمات مشروطة وأبواب السماء خاضعة لأهوائهم. هذه المرة لم أصادف أحدا منهم، ربما أفاقوا أو خافوا من ردود الأفعال، وقد يكون الحزن قد أيقظ الإحساس عندهم. لا يهمنى السبب فلستُ مشغولا بإبطال مفعول العجب.

على مدار الأيام التالية أتابع القصص المأساوية، أتعامل معها كمادة خبرية وقت العمل، لكنى لا أستطيع اقتلاع تلك الغصة من قلبي.

طعم الفقد بالغ المرارة فى أسبوع الآلام، ولا نملك أمامه إلا الدعاء للراحلين بالرحمة، وأن يجدوا لأنفسهم ملاذات أفضل فى عالم آخر.

ارحموا الدعابة من سماجاتكم!

الثلاثاء:

وسط دوامات كآبة تسيطر على «فيس بوك»، تحاصرنى إحدى الصفحات بمنشوراتها التى يُفترض أن تكون ضاحكة. لا أعرف كيف استهدفتْني، وفكرتُ أكثر من مرة فى إلغائها لكننى تراجعتُ. لا مانع من محاولة اقتناص ابتسامة كل فترة.

منحتُ الصفحة حق قصف حسابى بالنكات، معظمها سمجة إلا من بعض الاستثناءات القليلة. كل فترة أحرص على قراءة التعليقات، لأستكشف التغيرات التى طرأت على طبيعتنا، وبالفعل اكتشفتُ أنه حتى «النُكتة» لم تسلم من فلسفتنا الكذّابة وشهوة جدل تسيطر على ألسنتنا!

رجع رجل سعيدا لمنزله، سألتْه زوجته عن السبب فأخبرها أنه نال ترقية وسيكون من حقه اختيار سكرتيرة لمساعدته. على الفور اشترطتْ الزوجة أن تكون السكرتيرة قبيحة وغير أنيقة، لا تستخدم أى عطور ولا تبتسم أبدا، أجابها: «ماشى يا حبيبتى تحبى تستلمى الشغل إمتى؟»!

يُمكن أن يبتسم البعض وقد يراها آخرون دعابة سخيفة، لكن المشكلة فيمن يتعاملون مع الهزل بعباءة الحكماء، ويتهمون بطل النُكتة بالافتقار إلى الذوق، وهناك من رأى أن هذه النكات تهدف لتدمير كيان الأسرة والمجتمع!

وبلغ الأمر ذروته مع نُكتة أخرى تقول إن أحدهم عاد إلى البيت فواجهته زوجته بابتسامة شك، حاول طمأنتها بقوله: «انتى عارفة إنى بخاف ربنا وما بقربش من الحرام».

فردت عليه بتلقائية: «أنا خايفة من الحلال»! هنا انبرى عدد من نشطاء الفضيلة للترحّم على مجتمع أصبح يرى الحلال مصدر خوف بينما الحرام مأمون الجانب، وانفتح باب المواعظ، وانبرى البعض للدفاع عن حق الرجل فى الزواج من أربع!

يا سادة.. ارحموا محاولات تصنيع الابتسامة من سماجاتكم.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة