سناء مصطفى
سناء مصطفى


سناء مصطفى تكتب: اسم أمي عيب

الأخبار

الإثنين، 31 أكتوبر 2022 - 05:03 م

بقلم: سناء مصطفى

اختار الولدُ البنت الجميلة التي تلفت نظر زملائه، ليثبت تفوقه الذكوري عليهم في نيل ما لم يستطيعوا نيله حتى لو كذبا

بينما يقِلُنا الباص-أنا وبعض تلاميذي- فى طريق العودة من المدرسة، أغمضت عينى واستسلمت للتفكير فى اللا شيء بعد انتهاء يوم دراسى صعب ومرهق. أفقت بعد دقائق على طفل بجوارى يبكى ويصرخ بعصبية فى بقية الأطفال الذين يجلسون فى الكراسى الخلفية. رحت أهدئ من روعه وأسأله عن سبب بكائه، فأجابنى من وسط دموعه: «عرفوا اسم أمى وبينادوا عليّ بيه»!
حدثتهم عن أمهاتنا، تيجان عزنا، ونسائم أرواحنا، وسكَّر مُرِّ أيامنا. طلبتُ من كل واحد منهم أن يرفع رأسه بزهو ويذكر اسم أمه بفخر، ففعلوا جميعهم حتى من كان يبكى منهم منذ لحظات، إلا «عليّ» ضحك وقال: أمى اسمها «أم عليّ».

ابتسمتُ وأنا أتذكر أمي، وابتسامة أمي، وحضن أمي، ودعوة أمي، وخبز أمي، وشاى أمي، واسم أمى سليلة العز والحسب والنسب والأصل الطيب: السيدة سَبْقية عقل عبد الله.
أسندتُّ رأسى على نافذة الباص، وأغمضت عينى على دمعة حرّى كادت تغلبني، وقلبى فيه ما فيه من أسى وحزن على هذا الميراث الذى نمد أكفنا ونغرف منه غَرْفة بعد غرفة فلا نشبع أبدا. إنه ميراثنا من القهر والجهل والعنصرية منذ أن مدَّت طفلةٌ يدها لتزيح عن لحية أبيها التراب وهو يقوم بوأدها، إلى أن كفكفت يدُ أم دمعة طفلها ذى الأعوام السبعة الذى يبكى لأن رفاقه يعرفون اسمها وينادونه به، بينما عيناها تنظران إلى السماء وتقول: يا ربُّ ليتها لم تكن أنثى.

برميل النفايات الضخم
بمجرد انتهاء الفسحة المدرسية اندفع نحوى تلاميذ الصف الأول الابتدائى (الذكور منهم) يصيحون: الحقى يا ميس الواد فلان اللى ف سنة تانية «باس» فلانة «وهى زميلتهم فى الفصل».
مثل هذه المواقف اعتدنا عليها ونعرف مبالغات الأطفال وتهويلهم، لذلك طلبت منهم الهدوء والصمت التام، وسألت «فلانة» التى كانت هى وزميلاتها خلفهم: فلان اللى ف تانية ابتدائى عمل ايه يا حبيبتي؟ قالتلي: «بيضايقنى يا ميس ومش مخلينى عارفة ألعب مع صاحباتى فى الفسحة من كتر ما بيغلس عليّ».
سألتها: باسك؟
قالتلي: لا طبعا يا ميس.. هو بيغلس عليّ وبيقول لى العبى معايا.
اندفع أكثر من تلميذ من زملائها يكذبونها ويصرون على أن فلانا فعل ذلك وهى تنكر «لخوفها من العقاب».
البنت نظرت لهم بثقة وهدوء قائلة: طبعا مش خايفة. هاخاف ليه؟ هو غلس عليّ بس.
طلبت من البنات الانصراف لفصلهن، وسألت الأولاد: حد فيكم شاف الموقف دا؟
- لا
- عرفتوا منين الكلام دا؟
- هو قالهولنا.
- وصدقتوه؟
- طبعا . وهو هيكذب ليه؟
هو هيكذب ليه؟ هذا هو السؤال.

أما الإجابة فتعرفونها: يكذب لأنه يعيش فى مجتمع لا مجال فيه لبطولات أو لإنجازات أو لاهتمامات تشغل العقل والبال سوى ما يتعلق بالذكورة وإثبات التفوق فيها. يكذب ويصدقونه، لأنهم يريدون أن يصدقوا، ويريدوننى أن أعاقبه أيضا لأنه تفوق عليهم، ونجح فيما لم ينجحوا فيه. وتصْدُق ويكذِّبونها، لأنهم يريدون أن يصدقوا أنهم الأقوى، وأنها الضعيفة التى تخشى عقاب المجتمع.
اختار الولدُ البنت الجميلة التى تلفت نظر زملائه، ليثبت تفوقه الذكورى عليهم فى نيل ما لم يستطيعوا نيله حتى لو كذبا وبهتانا. كذبا وبهتانا!! ما هذه الأفورة؟! هؤلاء أطفال صغار لا يتعدى عمرهم سبع سنوات. أعرف، وتعرفون أيضا أن كل إناء بما فيه ينضح، ومجتمعنا هذا البرميل الضخم من النفايات المتمثلة فى تقاليد وعادات عمياء، وموروثات عربية مشوهة، وأفكار غير سوية جعلت الأولاد يتنمرون حتى على من يقول كلمة «ماما» أو «أختى حبيبتي»، أو يقول شعرا عاطفيا، أو يغنى أغنية رومانسية، أقول: مثل هذا المجتمع ماذا عساه أن يفرز سوى هذه النماذج الذكورية المتحرشة؟ وماذا عساه أن يعلّم لأطفال ما زالت أجنحتهم خضراء، وجلدهم الرقيق لم تنقش عليه الأيامُ تفاصيلها بعد، ماذا عساه أن يعلمهم سوى ما يفسد الفطرة، ويسرق جمال الحياة، وينتهك أحلى ما فيها؟!

كونكت بلس connect plus
حين أطلق الدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم السابق منظومة التعليم الجديدة منذ عدة سنوات، أعلن أنه لن يتم تدريس منهج المستوى الرفيع فى المدارس الرسمية للغات، وسيتم الاكتفاء بمنهج اللغة الانجليزية العادى الذى يقرر فى جميع المدارس الحكومية. «جروبات الماميز» بالطبع لم يعجبها الأمر، فهاجت الأمهات وماجت، ودُشِّنتْ الصفحات، وهاجموا الوزير، وطالبت الأمهات بحق أبنائهم فى التميز عن غيرهم من العاديين أبناء المدارس العادية، وإلا فما جدوى دفع المصاريف المرتفعة فى المدارس التجريبية التى صارت فيما بعد الرسمية للغات، وكيف يتساوى خريجو مدارس اللغات مع خريجى المدارس الحكومية العادية؟!

استجاب طبعا سيادة الوزير لضغط الماميز وقرر تدريس منهج «كونكت بلس» فى المدارس الرسمية للغات بالإضافة لمنهج «كونكت»، لكنه فيما يبدو قد أضمر فى نفسه أمرا؛ إذ جاء منهج «كونكت» العادى صعبا وطويلا، فما بالكم بمنهج المستوى الرفيع!

بلعت الأمهات ألسنتهن، ولم تستطع أى منهن التراجع أو الاعتراض، وكان أن تجرّع المعلمون والتلاميذ وحدهم، ولا يزالون، كئوس تسرع الماميز وتعاليهن ورغبتهن فى تمييز أبنائهن عن أبناء العاديين والبسطاء الذين يتعلمون فى المدارس العادية.

أنا واثقة الآن أنه لو أتيحت لهن الفرصة للاختيار لما اخترنه، ولما طالبن بمنهج إضافى لم يحصد أبناءهن بسببه إلا الضغط والمعاناة واعوجاجا فى العمود الفقرى بسبب الحمل الزائد فى حقائبهم المدرسية.

أرجو أن يرأف السيد وزير التربية والتعليم بنا- نحن المعلمين والتلاميذ- ويتفضل بالتكرم بإلغاء منهج «كونكت بلس» المقرر على المدارس الرسمية للغات، لينقذنا من غلطة قام بها الكبار -أقصد الماميز- فوقعنا فيها نحن والصغار.

مواسم الحصاد
لماذا لا تكتبين عن الآباء الذين تخلوا ولم يكونوا قدوةً عندما كنا صغارا، ثم جاءوا ليحصدوا الثمار عندما كبرنا؟ أى ثمار يتوقع آباءٌ كهؤلاء حصادها؟
شغلنى هذا السؤال الذى قذفه «الانبوكس» فى وجهى كطلقةٍ، بينما أعاتبُ ابنى على وقته الذى يضيع دونما فائدة. أنا واحدةٌ من هؤلاء الآباء. يتسربُ الوقتُ من بين يدى كما يتسرب الماءُ من دلوٍ مثقوب. أحرض ابنى أن يثور على تقاليد مجتمعه وعاداته التى تقيد أجنحة الحياة وتمنعها من التحليق، بينما تحيط الستائر بكل نافذة فى روحى فلا تنفذ منها ضحكةٌ تضيء، ولا تنفذ إليها موسيقى تسحر. أحدث ابنى عن الله سبحانه وتعالى الذى خلق الجمال، عن الرحيم الذى خلق الرحمة، عن الجبار الذى يجبر قلوب المنكسرين. أحدثه عن حاضره ومستقبله، بينما أتأبط ذراعَ تاريخٍ مزيفٍ أعجب ما فيه أن ينقبض قلبى حين أضحك فأقول: اللهم اجعله خيرا.

هل يحق لمثلى أن يحلم وقت الحصاد بثمار يانعة؟ هل أتوقع أن يلف ابنى ذراعيه حول خصر الحياة ويراقصها على موسيقى خطواته المتسقةِ مع إشاراتِ عقله، واستجابات ضميره، ويقظة إنسانيته؟ كيف أحلم له بممارسة فقه الحياة، بينما لا أمارس أنا سوى فقه الموت؟

علاقات
هل ينبغى علينا أن نكمل حياتنا فى علاقات لا تحقق لنا أى قدرٍ من السعادة؟ ألا يحق لنا أن نلتقط أنفاسنا قليلا، ونتساءلُ، بينما قطار الحياة يمر: هل نحن سعداء حقا؟ هل تحقق علاقاتنا أى سعادة لنا أو لأى طرفٍ يهمنا أمره؟ إن كانت تفعل فسيصبح للاستمرار فيها معنىً وقيمة، وإن لم تكن فلنتوقف. ليس عيبا أن نعترف أننا أسأنا الاختيار، ولا جريمة أن نصرخ: نحن لا نستطيع الاستمرار. الجريمة أن تفنَى أعمارُنا فى علاقات غير سوية، علاقاتٍ يجور فيها أحد الأطراف على الآخر عامدا أو متجاهلا أو غافلا. يطالب أحد أطرافها بحقوقه كاملةً، بينما لا يعرف شيئا عن واجباته. يستمرئ طرفٌ تنازلَ طرفٍ محبةً أو تغافلا أو طمعا فى جنةٍ أو خوفا من نار. بل قد لا يراه تنازلا، وإنما حقا مكتسبا يطالب به ساخطا متبجحا.

خُلِقنا بشرا، وجعلنا الله خلفاءه فى الأرض لأننا نملك الاختيار. خَلقنا الله أحرارا نستطيع أن نتذوق طعم التجربة فنفشل أو ننجح، ونصعد أو نهبط ، ونبدأ أو نُنهي، ونذنب ثم نستغفر، ونأتى الله بعد ذلك كله محبين طامعين فى رحمته. لا معنى إذن أن نستمر فى تجربة فاشلة، ونضيع تلك الحياة التى وهبنا الله إياها فى علاقاتٍ تصيب أطرافها بالتعاسة، فقط لأننا جعلنا للمجتمع وسياطه وأنيابه كلمةً تعلو فوق الحق.

فراق
ظِلِّى تَمردَ بعد ما ملَّ انكساراتي
وأغلقَ بابَه دونى وقال:
«هذا فراقٌ بيننا
يا رفيقةَ الليلِ والدمعةِ الخائبة
يا أختَ القلب الذى كلما قَذَفوا به إلى الجدارِ
انكمَش
وكلما ألقَوْا به فى بئرٍ اختبَأ
فلا لمَحَته عينُ واردٍ
ولا برِئَ مِن دمِه ذئب.
أديبة وشاعرة - قنا


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة