علاء عبد الوهاب
علاء عبد الوهاب


يوميات الأخبار

ما تيسر من كسور القيم!

علاء عبدالوهاب

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022 - 06:28 م

ثمة منظومة من القيم تمثل ضمانة وشرطا ليس فقط للنجاح بالصدفة، وإنما لمواصلة مشوار التقدم، وتسّيد المشهد، بعيداً عن الفهلوة والرهان على الحظ..

مثل كل العرب كان قلبى مع المنتخبات العربية الأربعة، التى شاركت فى أول مونديال يقام على أرض عربية.

كنت كأى عربى أتمنى أن يحقق كل منتخب منها، إنجازاً نفخر به جميعاً من المحيط إلى الخليج.

وعندما توالى خروجها، ولم يصمد سوى المنتخب المغربى، كم تطلعت، ومعى الملايين العربية أن يستكمل مشواره حتى النهائى، أو على الأقل أن ينال البرونزية.

لكن فى أعقاب إسدال الستار على المغامرة/ الحلم التى حملت المغاربة حتى المربع الذهبى، راحت السكرة، وتداعت من ذاكرة العديد من الأصدقاء والمعارف والأقارب، باختلاف أجيالهم، تلك الذكريات التى كانت فى طيات الذاكرة قريبها وبعيدها.

بلغ المدى بالبعض درجة اقتربت من جلد الذات!

ألوان من النقد الذاتى الهدام غلبت على أحاديثهم وحواراتهم: الاكتفاء بالتمثيل المشرف، المفرغ فى الحقيقة من أى معنى لهذا المفهوم!

اصطبغت أحوال الرياضة بالسواد، حتى الومضات الباهرة التى صنعها العديد من أبطالنا فى الألعاب الفردية، وبعض اللعبات الجماعية التى لم تحظ قط بما

تحظى به كرة القدم ونجومها، كلها غابت عن أبصار هؤلاء الذين أصروا على تغطية أعينهم بعدسات قاتمة ،غاب النقد الهادف! 

لماذا فازوا ثم واصلوا؟

الفرق التى مثلت بلدانها لا تتكون من عباقرة أو سحرة، يمتلكون ما لا يستطيع غيرهم الاستحواذ عليه، ولكن...

ثمة قيم تمسكوا بها، وحافظوا عليها، وعندما شاركوا فى المونديال، واصلوا بإصرار حرصهم على تلك القيم.

مثلاً قيمة العمل، فاللاعب كأى إنسان لا يمكنه أن يبلغ هدفه، إلا إذا بذل كل جهده وباتقان شديد.

قيمة أخرى لا شك أن من يحرز الفوز يعطيها حق قدرها، أقصد النظام، فالالتزام الصارم بتلك القيمة جسر يقود للنجاح المؤكد.

قيمة الوقت ـ أيضاً ـ تضمن لمن يحترمها التقدم والرقى.

التعاون، لاسيما فى لعبة جماعية، تقود أى فريق يحرص على تفعيل هذه القيمة إلى تصدر المشهد، فإذا غابت روح الفريق وانتصرت الاناينة ، أصبح الفوز أقرب للمستحيل...و....و...

ثمة منظومة من القيم تمثل ضمانة وشرطاً ليس فقط للنجاح بالصدفة، وإنما لمواصلة مشوار التقدم، وتسيد المشهد، بعيداً عن الفهلوة والرهان على الحظ.
نظرة على من شاركوا فى المونديال، ثم نظرة متفحصة باتجاه من واصلوا خطواتهم بثبات من دور لآخر، نتأكد تماماً أن من التزم بمنظومة قيمية ألا تقبل القسمة على اثنين وثلاثة وعشرة، وربما أكثر!

وقفة مع الذات

حين حاولت إفاقة الذين اندفعوا فى جلد الذات، والتوغل فى النقد الذاتى المشوب بالحدة والانفعال قلت لهؤلاء:

ربما كانت بداية الوقوع فى تلك المصيدة تصور إمكان تجزئة أى قيمة، أو التعامل معها ببراعة من كان متميزاً فى درس الكسور الاعتيادية أو العشرية فى علوم الرياضيات.

انفعل أحدهم: هل تحتمل اللحظة ما تقول؟

بل على العكس، أظنها لحظة مواتية تماماً لوقفة موضوعية مع الذات.

النقد الهادئ. والنبرة المتعقلة تقود نحو المصلحة العامة، ولكن دعونا من الشد والجذب فيما لا يفيد، فإن بيت القصيد فى ظنى يتمثل فى تبرئة القيم من

الكسور، باعتبارها جزءاً غير تام من أجزاء الواحد الصحيح.

بمعنى؟

بمعنى أنه ليس هناك نصف نظام، أو ربع التزام بالوقت، أو خمس تعاون، وإنما احترام تام للنظام أو للوقت، أو تقدير كامل لضرورة التعاون.. و.. وهكذا.

تريد أن تقول إن هناك من «يفاصل» فى القيم، ثم يتملص منها، والنتيجة ندفع جميعاً ثمنها.

بالضبط، ففى غيبة الالتزام بمنظومة القيم، يصبح الإنجاز صعباً، والعبور إلى النجاح شبه مستحيل.

جسر الأمل

أليس هناك أمل؟

كمن ألقى قفازاً فى وجهى، كان صاحب السؤال شابا يتوسط المسافة العمرية بين الأبناء والأحفاد.

قلت دون تردد:

بالقطع ثمة أمل مادامت هناك حياة، إذ إنه بحد ذاته قيمة لابد أن نحرص عليها، كعلامة على تمسكنا بالحياة التى نسعى خلالها للأفضل، ولتجاوز الأخطاء والعيوب التى سبق أن وقعنا فيها.

هذه دعوة للتفاؤل.

دون شك، إذ ليس سوى الأمل جسرا لتجاوز ما يعترضنا من عثرات، بل هو القيمة التى تمدنا بأسباب القوة للتغلب على الصعاب، والأمثلة من حولنا بلا حصر.

بالفعل، فالحياة ليس لها وجه واحد، اليابان التى شاركت فى المونديال كانت الدولة الوحيدة التى تعرضت للضرب بالقنبلة الذرية، وألمانيا عانت ويلات حربين عالميتين و... و...

بمناسبة ذكرك لليابان، ألم تلحظ معى تقديسهم لقيمة النظافة، سلوك حضارى التزموا به حيثما كانوا، ضربوا المثل، وكان أن انتقلت عدوى قيمة النظافة إلى من حولهم.

بالطبع ألمانيا تمتلك منتخبا قويا، لكن وقعوا فى شر أعمالهم حينما انتهكوا قيمة احترام الآخر، وكأنهم يحتكرون الصواب فى قضية تأباها النفس السوية، وليس فقط تحرمها الأديان.

رائع، لعلك لمست هنا الوجه الآخر لقضية كسور القيم، فلسنا وحدنا من يقع فى تل الحفرة، فالغرب أيضا لا يسلم منها!

مزاعم الوكالة الحصرية!

قال محدثى الشاب: لا أفهم قصدك؟

الغرب دائما يزعم أنه الوكيل الحصرى لقيم بعيدة عن إدراكنا!

مثل ماذا؟

النزاهة والشفافية مثلا، لكن الواقع يدحض زعمه، وبالذات فى الرياضة، فالفساد فى «الفيفا» يغلب على مذاقه النكهة الغربية، ووقائع الرشاوى التى طالت رموزه لا تخفى على أحد، وعديد من الملفات التى فازت الدول الغربية عبرها بتنظيم المونديال كانت موصومة بالفساد، بخلاف تورط مسئولين غربيين بارزين فى أروقة الفيفا فى جرائم رشاوى، ولكن حين توجه أصابع الاتهام، فبعيدا عن هؤلاء، ألا يعنى ذلك تفعيلا للمعايير المزدوجة بروح عنصرية، وبكلام أكثر وضوحا، فإنهم أسرى لـ «كسور القيم»!

ضربت مثلا، وأستطيع أن أضيف أمثلة أخرى تؤكد أن الغرب يعتبر قيمه وحدها يجب أن تسود!

دعنا من مسألة الانصياع للمقارنة، ولنوصى أنفسنا بالإقلاع عن التمسك بما تيسر من كسور القيم، ولنعتنق الرؤية الصحيحة، باعتبار أى قيمة كلا متكاملا، واحدا صحيحا لا يقبل أى نوع من القسمة، أو حتى الخصم أو الطرح ثم نثمن القيم باعتبارها منظومة متماسكة.

براڤو انفانتينو

تبقى شهادة حق، ثمة إشادة واجبة لرئيس الفيفا جانى انفانتينو، إذ كان يملك من الشجاعة، ما دفعه لممارسة أرقى ألوان النقد الذاتى، حينما طالب اوروبا بأن تعتذر لثلاثة آلاف سنة قادمة تكفيرا عن ذنوب وخطايا ثلاثة آلاف سنة سابقة، بدلا من أن تعطى دروسا للآخرين، هى فى جوهرها تعد ممارسة للنفاق!
ربما كانت الخلفية الإنسانية للرجل وراء ما أقدم عليه، صحيح أنه سويسرى لكنه ابن عامل إيطالى مهاجر، عانى كثيرا من التمييز والتنمر، وعمل والداه فى ظروف صعبة فى «الجنة السويسرية»! وكانت معاناته ومعاناتهما فى أحد أرقى المجتمعات الأوروبية، وليس فى إحدى الدول النامية الموصومة بالتخلف!
حاول انفانتينو أن يصحح بعض الصور المقلوبة، ويضع أمورا فى نصابها بعد أن واصل الغرب هوايته البغيضة فى الاستعلاء، وتجيير القيم الإيجابية لصالحه، وتجريد «الآخر» منها، ثم إجباره على الانصياع فقط لرؤيته!

رئيس الفيفا سعى ـ على قدر ما استطاع ـ أن يعيد لكرة القدم رونقها وجوهرها، كرياضة توحد بين بنى البشر دون تمييز، وإن كان للبعض رأى آخر!!
لقد سدد انفانتينو أحد أروع أهداف مونديال قطر، وجبر «كسرا» فأضحى واحدا صحيحا.

ومضات:

الدستور الأخلاقى ليس سطورا تكتب، وإنما أفعال تحتذى.

حذار من الانبهار بـ «الآخر»، حتى لا نذوب فيه.

أحلم بنجاح علماء الهندسة الچينية فى إبداع برنامج وراثى للقيم الإيجابية!

الآيات القرآنية الداعية للتدبر تفوق آيات العبادات والمعاملات.. أفلا يتدبرون؟!

لن يدعوك «الآخر» للمشاركة، إنما تؤخذ الدنيا غلابا.

المخزون الحضارى يصبح «شيكا بلا رصيد» إذا لم يتحول لجسر بين الحاضر والمستقبل!

كلما برعت فى تحويل الفكر إلى فعل، ضمنت التقدم دون توقف.

«الحق ـ الخير ـ الجمال» منظومة القيم الأقدم، لكنها الأبقى فى ضمير الأسوياء.

القراءة الواعية لأى نهاية، تؤكد حتمية اعتبارها شهادة ميلاد لبداية جديدة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة