كرم جبر
كرم جبر


كرم جبر يكتب: البابا تواضروس

كرم جبر

الإثنين، 26 ديسمبر 2022 - 08:09 م

أعتبره أهم من جلسوا على كرسى البابوية، لأنه جاء فى ظروف هى الأصعب والأخطر، وبالتحديد 18 نوفمبر 2012 حين تولى مهام منصبه، فى أجواء فتنة قاتلة، فاستطاع أن ينزع الفتيل من أحداث كبيرة، ويرسى العلاقة مع أبناء وطنه على قاعدة «وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن».

تعرض الأقباط على أيدى الجماعة الإرهابية لأكبر عمليات لحرق الكنائس والتهجير القسرى والاعتداءات على الأشخاص والأموال، فكان حكيمًا وهادئًا وعالمًا أن المحنة تعم الوطن كله بمسلميه ومسيحييه، وأن الاستهداف يقصد مصر قبل الأقباط، وأن الحكمة تقتضى الاحتماء بالوطن والارتماء فى أحضانه وليس الاستقواء بالخارج.

كانت الظروف الأمنية بالغة الصعوبة، والانفلات فى كل مكان، والممتلكات العامة والخاصة تتعرض للسرقة والحرق، وكان الهدف زيادة جراح الوطن، وإشعال فتنة طائفية، تأتى على بقية الأمن، وتشعل الفوضى فى كل مكان، ولكن بحكمته استطاع أن يُهدئ أقباط مصر، واثقاً بأن الدولة سوف تعود، وتسترد قوتها وتدافع عن وجودها وبقائها ووحدة شعبها.

كانت الجماعة الإرهابية تستهدف توسيع رقعة النار، وإرسال إشارات للعالم بأن الأوضاع فى مصر مضطربة وغير مستقرة، وأن الحرب الأهلية على الأبواب، ليست بين المسلمين والأقباط فقط، ولكن بافتعال فتنة غير موجودة بين السنة والشيعة.

اتسمت تصرفات البابا بالهدوء، وضربت مواقف جموع المصريين الفتنة فى مهدها، وعادت للجذور واستحضرت خبرات العلاقات الأصيلة، بين أبناء وطن واحد، عاشوا على الحلوة والمرة، وبذلوا دماءهم وأرواحهم دفاعًا عن أرض الوطن.

اختفت تمامًا نبرة الاستقواء بالخارج، ولم نر تظاهرات لأقباط المهجر، الذين اعتادوا فى فترات سابقة  علي أن يُصعدوا الهجوم إن وقع حادث صغير، لا يمكن مقارنته بما تعرضوا له فى زمن فوضى الجماعة الإرهابية، لأن الجميع أدرك، أن الحماية هى مصر، والأحضان الآمنة هى مصر، وليس الخارج الذى يستثمر مثل هذه الحوادث، لممارسة ضغوط سياسية.وراهن البابا تواضروس على الدولة المصرية وشعبها ورئيسها وجيشها وشرطتها، ولم ينطق حرفًا واحداً يغذى الطائفية أو يثير الفتنة، ووجد أفراد الشعب العاديين، يقفون أمام الكنائس لحمايتها، فلا فرق بين مسلم ومسيحى، ومقدساتنا هى مقدساتهم، وكنائسهم مثل مساجدنا.

يُذكرنى هذا التلاحم الرائع، بما حدث أيام الاستعمار، حين جاء المستشرق الإنجليزى الداهية اللورد كرومر بتكليف من حكومته لخلق فتنة بين المسلمين والأقباط، لضرب المقاومة الشعبية ضد المستعمر، واستخدم دهاءه ومكره، ولكن بعد سنوات، أرسل لحكومته يقول لم أجد فى مصر غير مصريين بعضهم يذهب للمساجد، وبعضهم للكنائس ولا فرق.

إنها مصر التى تقاوم الفتن بصلابة شعبها، وبعراقة القوة المصرية الناعمة الضاربة فى جذور التاريخ، ومفرداتها التسامح والمودة والرحمة والسلام، واحتواء الجميع على قدم المساواة دون تفرقة أو تمييز، يحميها نسيجها القوى من الوقوع فى مكائد تفتت الأمم وتؤلب الشعوب.

مصر التى لا تفرق بين مواطنيها، فيتعانق الأذان فى المساجد مع أجراس الكنائس، ويظهر الوجه الطيب الذى يشع خيرًا، ويلتهم الوجوه السوداء التى تضمر شرًا، برعاية دولة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتجلت روعتها فى إقامة أكبر مسجد وأكبر كنيسة فى العاصمة الإدارية الجديدة، رمزاً لعلاقات طيبة، لن يستطيع أحد أن يمس قوتها.
 «نشر المقال 19 نوفمبر 2018».

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة