جبران خليل جبران
جبران خليل جبران


كنوز| نفسى مُثقلَة بأثمارها

الأخبار

الأربعاء، 18 يناير 2023 - 05:37 م

جبران خليل جبران

نفسى مثقلةٌ بأثمارها؛ فهل من جائِع يجنى ويأكل ويشبع؟ 

أليس بين الناس من صائمٍ رؤوف يفطِرُ على نِتاجى ويُريحنى من أعباء خصبى وغزارَتى؟ نَفسِى رازخةٌ تحتَ عبءٍ من التِّبْرِ واللُّجَيْنِ فهل بين الناس مَن يملأُ جُيُوبه ويخفف عنى حملى؟ نفسى طافحة من خمرةِ الدهور؛ فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوى؟ 

هو ذا رجل واقف على قارعة الطريق يبسط نحو العابرين يدًا مُفْعَمَةً بالجواهر ويناديهم قائلًا: «ألا فارحمونى وخذوا منى. أشفقوا علىَّ وخذوا ما معى، أما الناس فيسيرون ولا يلتفتون».

ألا ليته كان شحاذًا متسولًا يمد يدًا مرتعشةً نحو العابرين ويرجعها فارغة مرتعشة، ليته كان مقعدًا أعمى يمر به الناس ولا يَحفلونَ، هو ذا مُثرٍ جواد نَصَبَ خِيامَهُ بين مَجَاهِلِ البيداء ولحفِ الجبلِ، يوقِدُ نار القِرى كل ليلة ويبعث عبيده ليرصُدوا السبل لعلهم يقودون إليه ضيفًا يقربه ويكرمه، ولكن السبل بخيلة لا تجود على هباته بمرتزقٍ، ولا تبعثُ إلى هباته بطالب. 

ألا ليته كان صعلوكًا منبوذًا! 

ليته كان عَيَّارًا متشردًا يطوف البلاد وفى يده عكازٌ وفى كوعه دَلوٌ، فإذا ما جاء المساء جَمَعَتْهُ ملتوياتُ الأزقة بزملائه العيارين المتشرِّدين فيجلس بقربهم ويقاسمهم خبز الصدقة! 

هو ذا ابنة الملك الأكبر قد استيقظت من رقادها وهبَّت من مضجعها، وقامت فتَرَدَّتْ بأرجوانها وبرفيرِها، وتزينت بلؤلؤها وياقوتها، ونثرت المسك على شعرها، وغمست بذَوْبِ العنبر أصابعها، ثم خرجت إلى حديقتها ومشت وقطرات الندى تُبلِّل أطراف ثوبها. 

فى سكون الليل سارت ابنة المَلك الأكبر فى جنتها تبحث عن حبيبها. ولكن، لم يكن فى مملكة أبيها من يحبها، ألا ليتها كانت ابنة زارع ترعى أغنام أبيها فى الأودية وتعود مساءً إلى كوخ أبيها وعلى قدميها غبار المُنْعَكَفات وبين طيات ثوبها رائحة الكروم. حتى إذا ما جَنَّ الليل ونام سكان الحى اختلست خطواتها إلى حيث يترقبها حبيبها.

ليتها كانت راهبة فى الدَير تحرق قلبها بخورًا فينشر الهواء عطر قلبها، وتوقد روحها شمعًا فيحمل الأثير نور روحها، وتركع مصلِّية فتحمل أشباح الخفاء صلواتها إلى خزائن الزمن حيث تُصان صلوات المتعبِّدين بجانب حَرقَةِ المحبين وهواجِسِ المستوحدين! 

ليتها كانت عجوزًا مُسِنَّةً تجلس مستدفئة فى أشعة الشمس بمَن تقاسموا صِباها، فذاك خير من أن تكون ابنة الملك الأكبر وليس فى مملكة أبيها من يأكل قلبها خبزًا ويشرب دمها خمرًا! 

ألا ليتنى كنت شجرة لا تزهر، ولا تثمر، فَأَلَم الخصب أمرُّ من ألم العقم، وأوجاع ميسور لا يؤخذ منه أشد هولًا من قنوط فقير لا يُرزق.

ليتنى كنت بئرًا جافَّةً والناس ترمى بى الحجارة، فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حى والظامئون يجتازوننى ولا يستقون. 

ليتنى كنت قصبة مرضُوضة تدوسها الأقدام، فذاك خير من أن أكون قيثارة فضية الأوتار فى منزل ربُّهُ مبتور الأصابع وأهله طُرشَان! 

من كتاب «البدائع والطرائف» 

>>>

كنوز : نعيد نشرهذا المقال احتفالا بالشمعة 140 للمبدع الكبير جبران خليل جبران المولود فى 6 يناير1883 بلبنان، الذى أحبته «مى زيادة» وبادلته الرسائل الغرامية، كان متعدد المواهب ككاتب وشاعر وفيلسوف وعالم روحانيات وفنان تشكيلى .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة