يوسف القعيد
يوسف القعيد


يوميات الأخبار

يوسف القعيد يكتب: الشيخوخة والتجاعيد والتقاعد والندم

يوسف القعيد

الإثنين، 20 مارس 2023 - 06:34 م

لقد نشأت فى قرية مصرية، هى قرية الضهرية مركز إيتاي البارود، محافظة البحيرة. ومازلت أذكر الرهبة التى كانت تنتابنى عندما أقترب من هؤلاء المتقدمين فى العمر.

عندما أكون فى المجلس الأعلى للثقافة، أو فى دار الأوبرا، أو صندوق التنمية الثقافية، لا أغادر المكان إلا بعد زيارة المركز القومى للترجمة. الذى أسسه سنة 2006 المرحوم الدكتور جابر عصفور المثقف المصرى والعربى الكبير. وتُديره الآن بكفاءة نادرة الدكتورة كرما سامى. أتجول بين الكتب الجديدة التى أصدرها المركز المهم الذى يُنظم لنا علاقاتنا بثقافات العالم المختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية غرباً وحتى اليابان والصين والهند شرقاً، ومن أوروبا شمالاً حتى أستراليا وجنوب إفريقيا جنوباً.

يأخذ بأيدينا لنرى آخر ما صدر فى العالم كله من إبداعاتٍ فكرية وأدبية وفنية، تعكس آخر ما أصدره العقل الإنسانى من نتاجاتٍ علمية وأدبية وفنية نحن فى أمس الحاجة لأن نطلع عليها ونعرف ما فيها حتى نُعايش زمننا بطريقة موضوعية ولا بأس بها.

فى آخر زيارة لى توقفت طويلاً أمام كتاب عنوانه: تدبُر الكِبَر. والكتاب عبارة عن محاورات حول التقاعد والحب والتجاعيد والندم. كما هو مكتوب على غلافه. وهو من تأليف: مارثا ك. نوسباوم، وواسول ليفمور، ترجمه إلى العربية: هشام ممدوح طه. وحررته: أسماء ياسين. وتولى تدقيقه اللغوى: محمد عليم.

والكتاب يُعتبر كتاب الساعة بالنسبة لى، حيث أننى تجاوزت الخامسة والسبعين من عمرى. وأتصور أحياناً أننى أعيش فى الوقت الضائع. لهذا تحولت قراءته إلى إطلالة على الزمن الآتى والأيام القادمة، وكل ما ينتظرنى فى قادم الأيام.

والكتاب الذى يقع فى ثمانية فصول وستة عشر مقالاً يتحدث عن مظاهر التقدم فى العمر، وماذا يمكن أن يحدث للإنسان عندما يصبح مُسِنَّا وشيخاً عجوزاً ربما لا يستطيع الإعتماد على نفسه فى أمورٍ كثيرة. وهذا ما أخشى الوصول إليه. وأتحسب له، وأتمنى ألا يحدث.

الحياة لا الموت
لا تتصور أن هذا الكتاب يُحدِّثك عن الموت باعتباره نهاية النهايات التى يلقاها كل إنسانٍ منا فى الحياة. مهما قاومها بالعلاجات وتنفيذ نصائح الأطباء والصيادلة، والتردد على المعامل، فلا بد أن تأتى لحظة يُلوِّح الإنسان بمناديل الوداع لكل ما مر به سواء كان أحزاناً أو أفراحاً.

لا تتخيل أن الكتاب يُحدِّثك عن الموت. أو يحاول إخافتك منه. أو يُلوِّح لك به. ولكنه يحكى عما يمكن أن تفعله عندما تتقدم فى العمر. كيف تُجرِّب؟ كيف تكتسب حكمة؟ كيف تُحب؟ وفى النهاية كيف تخسر؟ والخُسران مسألة واردة وعلينا أن نكون مستعدين لها.

لا تتصور عزيزى القارئ أننى قمت بحل كل هذه المشكلات التى أُعانى منها آناء الليل وأطراف النهار. وربما أحاول الهروب منها أو الالتفاف عليها. أو محوها من الذاكرة. والبحث عن نعمة النسيان. وهى لا تطاوعنا عندما نلهث وراءها. بل تلعب معنا لعبة ماكرة عجوز.

فى هذا الكتاب الذى أمتعني وأزعجني فى نفس الوقت كثيراً جداً قرأت عن مناقشات تدور حول التقاعد والحب والتجاعيد والندم. وحاولتُ أن أتذكر أساتذتى العِظام الذين تجاوزوا التسعين من العمر. وكانوا يعيشون الحياة بحيوية وتدفق حتى النفس الأخير.

الآباء الكبار
عرفتُ عن قُرب ممن تجاوزوا التسعين من العمر. وكانت لهم حيوية ونشاط وإقبال على الحياة حتى اللحظة الأخيرة. بل إنهما رغم رحيلهما عن الدنيا. مازالا يؤثران فى كل من عرفهما واقترب منهما وتعامل معهما بشكل مباشر. إنهما الأستاذان المؤسسان: محمد حسنين هيكل «23 سبتمبر 1923 - 17 فبراير 2016» ، ونجيب محفوظ « 11 ديسمبر 1911 - 30 أغسطس 2006. لقد قرأت لهما وأُعجبت بما قرأته، ثم تلاقيت معهما وازداد إعجابى أكثر بحضورهما الإنسانى النادر.

لا يتصور أحد أننى لم أعرف من الذين أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم بطول العمر سواهما. فقد قابلت طه حسين « 15 نوفمبر 1889 - 28 أكتوبر 1973» فى السنة الأخيرة من عمره وأجريت معه حواراً لمجلة المصور بمناسبة انعقاد دورة مجمع اللغة العربية الأخيرة التى تمت وهو رئيس لهذا المجمع. وكان المجمع فى مقره القديم بالقرب من ميدان الجيزة، ولم يكن قد نُقِل بعد إلى مكانه الحالى فى الزمالك.

وأيضاً قدمت لى الدكتورة سهير القلماوى تلميذة طه حسين وإبنته الروحية روايتى الثانية: أخبار عزبة المنيسى. عندما كانت رئيسة للهيئة المصرية العامة للكتاب. كما رأيت الفنانة العربية الأولى فاتن حمامة قبل أن تلوح فى حياتها علامات الوداع. كانت متألقة وحاضرة، وذهبت إليها فى منزلها بالزمالك، ثم فى مقرها الذى انتقلت إليه بالقرب من التجمع الخامس. ورأيت فيهم جلال تقدم العمر وعلامات النُضج وتعلمت منهم الكثير. وحلمتُ أن يظلوا معنا سنوات طوال، ولكنها الطبيعة البشرية التى تجعل من الموت نهاية لأى حياة مهما طالت واستطالت.

حضارتنا والموت
ولا يستغرب أحد ذلك منى. فأنا ابن حضارة قديمة. ربما كانت أول الحضارات فى تاريخ البشرية. كان معظم ما قامت به محاولة مقاومة النهايات والبقاء إلى أبد الآبدين رغم الموت الجسدى الذى يمر به كل إنسان. وكلما ذهبت إلى آثارنا القديمة ووقفت أنظر إلى الأهرامات. وقد حدث ذلك كثيراً معى. إلا وأطل علىَّ من بنوها ودفِنوا بها كأنهم يروون لى حكاياتهم مع الزمن. وهم بذلك قد نجحوا فى قهر الموت وإلغائه واعتباره كأنه لم يكن.

ولهذا أريد أن أكتب كثيراً عن الحياة وأترك الكتابة عن ذلك الكيان المخيف الذى نسميه الموت وهو نهاية النهايات لمن قد يأتى بعدنا ويكتب عنا ويُذكِّر اللاحقين لنا بما فعلناه، وأيضاً بما لم نفعله.
الكتاب الذى بين يدىَّ كتاب يُعلمنا كيف نتدبر العيش؟ وهو من المؤكد ليس كتاباً عن الموت. ذلك أنك عندما تتقدم فى العمر، فإن ما يحدث لك هو أن تُجرِّب وتكتسب حكمة وتُحب وتخسر. وأن يكبر المرء وهو راضٍ عن حياته، وسعيد بِبِشرَته حتى لو كانت قد تراخت وترهلت.

إن التقدم فى العمر قد ينحصر بالنسبة للبعض فى الندم والقلق والاحتياج والاكتناز. وهو يعنى أيضاً التطوع والفهم والإرشاد وإعادة الاكتشاف والعفو، وقبل كل هذا وبعده نعمة النسيان.

المحظوظون
ينظر أصحاب الكتاب إلى المحظوظين باعتبارهم الأغنياء الذين عندما يصلون إلى التقاعد يورِّثون ما جمعوه فى السنوات السابقة. وهؤلاء لا يُفكِّرون طوال حياتهم فى أنهم يكبرون. لكن الأصدقاء والأقارب والزملاء الصغار كثيراً ما يعتبرون أهلهم من كبار السن كمستودعاتٍ للحكمة. بالإضافة إلى النظر إليهم على أنهم نماذج تمشى على قدمين. هذا رغم غزو التجاعيد وعلامات الشيخوخة التى لا تُخطئها العين. مهما حاول الإنسان إخفاءها.

إن الآدمى خلافاً لبقية أنواع الكائنات الأخرى هو الكائن الوحيد الذى يتعلم ويُسجِّل ويتناقل أخطاؤه ونجاحاته على نطاقٍ واسع، ويحاول الاستفادة من حدود التجربة الإنسانية. وأن يُحسِّن حياة الأجيال التالية. وهكذا تقدمت البشرية فى الزراعة والتصنيع والطيران. ولكننا لا نعرف الكثير عن التشابك العاطفى والأبوة واختيار القيادات السياسية.

وربما يكون مرجع ذلك لأن المشكلات فى تلك المجالات أهداف متحركة لا تُقهر. وتُلازمنا طوال الوقت عبر التقدم التدريجى المتزايد. ويقع الكثير منا فى المنتصف بين التحديات العلمية وتحديات العلاقات والتواصل بين الأشخاص. حتى لو كنا نعيش حياة أطول ونتمتع برحلة أكثر عن سابقينا. وهذا يوفر لنا الكثير من الاختيارات. وفى هذا الكتاب رحلة جميلة مع هذه الاختيارات.

كِبَر السن
من صفات البشر أنهم يحبون التحدث مع بعضهم البعض. وهذا يستلزم أن نتعلم كيف نجرى محاورات ذات مغزى بشأن مسائل يتعين مناقشتها قبل أن نصل إلى دنيا الإعاقة أو عالم الموت؟ وهى أمور نعيشها ولا نتكلم عنها كثيراً جداً لا مع أنفسنا ولا مع الآخرين. رغم أنها تؤرقنا كثيراً.

وكلما تقدم العمر فإن الإنسان لا يرتاح للحديث عن جسده. قد يكون هذا متصلاً بطبيعة تجدد جذوة الحياة والعلاقة الرومانسية بها بين شركاء ناضجين. نحن نتعامل مع هذه الأمور بصمت. مع أن الكلام أفضل. ولكن حتى لو تكلمنا ماذا يقول الإنسان لأبنائه وأصدقائه الذين يصغرونه فى العمر عن تقدم الزمان؟.

تجربة شيشرون
ربما كان شيشرون من أكثر الذين كتبوا عن التقدم فى العمر. وكتابه المكتوب سنة 1945 قبل الميلاد بُنى على محادثة جرت بينه وبين أعز أصدقائه: أتيكوس. والذى وجه إليه الآلاف من الرسائل الباقية حتى الآن. كان الإثنان فى الستينيات من العمر. ويقول شيشرون فى المقدمة إنه على الرغم من أنهما لم يبلغا الكبر بعد. فإنه يتعين عليهما التفكير فى المستقبل. وفيما تُخبئه الحياة لهما. ويعترف شيشرون أن الهدف من كتابه الترويح عن النفس. لأن كلاهما مهمومٌ بالسياسة وبأمور الحياة الدنيا.

فى هذا الكتاب توقف طويل أمام من أنعم الله سبحانه وتعالى عليهم بنعمة طول العمر. رغم أن البعض قد لا يعتبرها نعمة. ولكنها نعمة النعم. ففى السنوات الأخيرة من العمر يتذكر الإنسان ما مضى، ويتوقف أمامه طويلاً ويحاول تمثله. ولعل مسرحية يوجين أونيل: رحلة يوم طويل خلال الليل. ورواية ميشيل بوتور: تمضية الوقت. تؤكدان على أن الماضى قد تكون له هيمنة فى تحديد حياة الإنسان.

شيوخ قريتي
لقد نشأت فى قرية مصرية، هى قرية الضهرية مركز إيتاى البارود، محافظة البحيرة. ومازلت أذكر الرهبة التى كانت تنتابنى عندما أقترب من هؤلاء المتقدمين فى العمر. إن تكلموا أعتبر أن ما يقولونه حكمة لا يأتيها الباطل أبداً. وأن علىَّ تنفيذها. وأيضاً كنتُ أحاول الاستماع لهم لأطول فترة ممكنة.

أنا لم أر جدي. ولكنني رأيتُ وتكلمت مع جدتى لأبى وجدتى لأمى. وأدركت مما كنت أسمعه منهما أن تقدم العمر يعطى الإنسان جلالاً ومهابة. ويصبغ ما يقوله بمصداقية نادرة لإدراكى الذى لا أعرف الآن مصدره من أين كان يأتى أنهم ينطقون بالحكمة المُصفَّاة من خلال تجاربهم التى مروا بها فى الحياة.

ولدينا فى أمثالنا الشعبية الكثير الذى يتوقف طويلاً أمام مسألة الأعمار والسنوات التى تمضى وانعدام القُدرة على استعادتها مرة أخرى مهما فعلنا فى حياتنا القصيرة جداً فى مواجهة سرمدية الحياة واستمرارها وتدفقها إلى الأبد.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة