الشيخ محمد متولي الشعراوي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


خواطر الإمام الشعراوي حول أسرار الكون ونواميسه

الأخبار

السبت، 15 أبريل 2023 - 07:55 م

 يستكمل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية رقم «189» من سورة البقرة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» بقوله: إذن كل شيء فى الكون له نظام: للشمس بروج، وللقمر منازل، وللنجوم مواقع.

وكل أسرار الكون ونواميسه ونظامه فى هذه المخلوقات، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت للناس والحج. وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به؛ فقد كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس، هؤلاء الحمس كانوا متشددين فى دينهم ومتحمسين له، ومنهم كانت قريش، وكنانة، وخثعم، وجشم، وبنو صعصاع بن عامر.

اقرأ ايضاً| مع الصحابيات | أم مُبشِّر الْأنصارية «المحدِّثة الفقيهة»

وكان إذا حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج. ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته، لذلك كان يدخل من ظهر البيت، وكان ذلك تشدداً منهم، لم يرد الله أن يُشرَعه. حتى لا يطلع على شيء يكرهه فى زوجه أو أهله.

وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج فى القرآن أن ينقى المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال: «وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أى لا تجعلوا المسائل شكلية، فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع.

والملاحظ أن كلمة «البر» فى هذه الآية جاءت مرفوعة، لأن موقعها من الإعراب هو «اسم ليس» وهى تختلف عن كلمة «البر» التى جائت من قبل فى قوله تعالى: «لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب» التى جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو «خبر مقدم لليس».

وحاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف فى الرفع والنصب على القرآن الكريم. ونقول لهم: أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية، فماذا نفعل لكم؟. يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول: (زيد مجتهد)، هذا إذا كنا نعلم زيداً ونجهل صفته، فجعلنا زيداً مبتدأ، ومجتهداً خبراً. لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو؛ فإننا نقول: «المجتهد زيد». إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف.

وهذا سر اختلاف الرفع والنصب فى كلمة «البر» فى كل من الآيتين. ونقول للمستشرقين: إن لكل كلمة فى القرآن ترتيباً ومعنى، فلا تتناولوا القرآن بالجهل، ثم تثيروا الإشكالات التى لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم.

ثم ما هو «البر»؟ قلنا: إن البر هو الشيء الحسن النافع. ولو ترك الله لنا تحديد «البر» لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف عقولنا؛ فأنت ترى هذا «حسناً»؛ وذاك يرى شيئاً آخر، وثالث يرى عكس ما تراه، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن النافع، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع، ولذلك يقول الحق: «ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا».

وإن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها، فاذهب إلى الغاية من الطريق الذى يوصل إليها. ويتبع الحق قوله عن البر: «واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». لا تزال كلمة التقوى هى الشائعة فى هذه السورة، وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى.

ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقى معضلات الحياة، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله. وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات، أما من يعرض عن تقوى الله فإن الحق يقول عن مصيره: «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» «طه: 124». ولا يظن أحد أن التقوى هى اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التى تنشأ من مخالفة منهج الله.  

وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها فى غيره، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات فى غيره.

وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى، وهذه القضية الأخرى هى التى تميز الأمة الإسلامية بخصوصية فريدة؛ لأنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه الأمة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من قبل، وهذه الخصوصية هى أن الله قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج الله؛ فقديماً كانت السماء هى التى تُؤدب هؤلاء الخارجين عن المنهج. كان الرسول يشرح ويبلغ المنهج، فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم، إما بصاعقة، وإما بعذاب، وإما بفيضان، وإما بأى وسيلة.

ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج. وحين سأل بنو إسرائيل ربهم أن يقاتلوا، لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقاً للآية الكريمة: «قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا» «البقرة: 246». علة القتال إذن أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولادهم، فهم عندما سألوا القتال لم يسألوه للدفاع عن العقيدة.

وإنما لأنهم أخرجوا من ديارهم وأولادهم. أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهى التى أمنها الله على أن يكون فى يدها الميزان، وليس هذا الميزان ميزان تسلط، وإنما هو ميزان يحمى كرامة الإنسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل الذى خلقه الله، فلا إكراه فى الإيمان بالله.

وقد شرع الله القتال لأمة محمد لا ليفرض به دينا، ولكن ليحمى اختيارك فى أن تختار الدين الذى ترتضيه. وهو يمنع سدود الطغيان التى تحول دونك ودون أن تكون حراً مختاراً فى أن تقبل التكليف.


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة