الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل


الكاتب محمد نبيل محمد يكتب: مشاهد أيام السويس ١

صفوت ناصف

الجمعة، 05 مايو 2023 - 03:06 م

رواية تسجيلية عن أحداث ٣٠ يونيو

محمد الراوي... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد! (1)

 

جاء من الشرقية يلهث وراء لقمة العيش التى ضنت عليه بها دنياه هناك، فلا هو ظل فلاحا يزرع أرضه التى بوّرها سابقيه لبيعها طينا محروقا !، ولا هو أكمل تعليمه الذى اختصره إلى سنوات سهل عدها على عقلات الإصبع الثلاثة فنُعت بالمتسرب.

 

 اللهم إلا عدد من الحرف تنقل بينها حتى استقر به المقام ليجمع خلف معلمه وأسطاه القطن المتناثر بعد عزقه، وتلك نصف مهنة لم يعد لها حاجة عند رب عمله الذى هجرها إلى التوك توك هذا الجاسوس المعلن (!) الذى يسلب الوقود المدعوم كما يسلب الصناع المهرة وأنصاف المهرة.

 

كانت الأيام تمر تلو بعضها البعض كأنها عربات قطار متهالكة يتقدمها جرار من عصر البخار، وكأنه نفث كل طاقته، فلم يعد يحرق إلا ركابه هؤلاء الهاربين فى صمت العجز، اللهم الا من صوت يتعالى أثيره فيشتت أية فكرة إلا الهروب، ولا صوت سوى دوى عجلات تصرخ فوق قضبان مهتزة على فلنكات خشبية نخرها السوس.

 وصاحبنا منزوى فى ركن القطار ما بين باب العربة والمعبر الواصل بين أختها - تلك العربة - التى خلفها، ومع حملها من الناس المتراصة – بعشوائية مفتتة - فى جوفها وفوق كاهلها يبدو أنها تبطىء من حركة جرار القطار، الذى يطلق زفيرا فى كل مرة كأنه آخر نقس لديه.

 وهكذا هو حال من ورائها من عربات تمكن منها ذات المرض البئيس، وكلما يمر أحد البشر من الذين يتفحصون وجوه الجالسين والواقفين والراقدين، يتوهم صاحبنا فى نفسه أنه المحصل فيسرع بتقليد من حوله ولديهم ذات الانطباع عن هؤلاء المتفحصين، فيسرع إلى غطاء النوم فإنه له وجاء وهربا من سداد فاتورة الحياة المؤقتة فى هذا الجزء من العربة التابعة لقطار لا يسير على الإطلاق إنما يتعكز على عجلاته التى تخبرك طقطقاتها على القضبان أنها ليست بخير! وبعد زمان فقد العد وتاه منه الحساب توقف القطار معلنا وصوله إلى السويس، 

 

ولم يقل أحدا من المجاورين الساكنين فى استسلام بذلك إنما هذه المرة طالت الوقفة للقطار لأكثر من ساعات زادت عن ساعات التقاط الأنفاس فى الوقفات السابقة مما يعنى أنه توقف عند نهاية الخط، ولملم الرجل أشياءه المهترئة التى يظنها ستقيه برد الليالى الغريبة، وما ان استطاع ان يطلق طوله فى فضاءه – المتواضع – منتصبا، بعدما اعتاد القرفصة نوما ويقظة منذ بدء الرحلة لمنتهاها حتى كاد أن ينسى له صلب وعمود يجمع أطرافه برأسه وجذعه،

 وتحرك الشاب ناحية الباب القريب منه وكان إختياره لذات الموضع بعضا من نباهة منه لينال فرصة أسبق من غيره فى النزول مبكرا من القطار، كان يردد فى نفسه عندما كان متقوقعا عليها خلال رحلته الطويلة : سأنزل أولاً لأنال الرزق أولاً، وبهذا كان ينصح نفسه التى تتصبر فقط بأمل الهروب مبكرا من هذا القطار (!) 

فى النهاية تحرك صوب الباب إلا ان صوتا حذره من الاندفاع حتى لا يسقط على قضبان القطار وتحته، ولم يلتفت إلى نصح الجيران وفى نفسه يحدثها بدهاء : لا تلتفت إلى هذا الصوت إنه لا يريد إلا تعطيلك حتى يسبقك إلى رزقك، وكالطلقة تخلل أكوام اللحم المفروم والمتراص كتفا جوار رجل، وقدما فوق جذع، المشهد يشى بأنهم فى الصورة العامة (بشر)، إنما فى التفاصيل – عند التدقيق - ربما هناك أوصاف أخرى،

 

 وما أن ألقى بقدمه من القطار يظنها ستطأ أرضا إلا وهوى من ارتفاع المتر ونصف المتر على الأرض والأصوات التى كانت تحذره تردد: الحمد لله أن القطار توقف للأبد وإلا كان الراجل راح!، ومع كل هذا الضجيج من الأهات والتحذيرات وآيات الحمد والتهليل بالتكبير، إلا أن أحدا لم يتقدم إليه لينتشله من هاوية السقوط المفجع، والكل قد حجز مقاعد المشاهدة ليحدق الكثرين منهم فى المصيبة الحادثة للشاب، وتضع أربعينية فاتتها كل القطارات – سابقا! - يمينها على عين واحدة وتبصر بالأخرى حتى لا يفوتها المشهد، وتدعم يمينها بمقولات من قبيل : مش قادرة أشوف، فزيع (تقصد فظيع) أستر يا رب، وآخر يشيح بوجهه بعيدا ويبقى صوته مع الآخرين متمسكا بحضوره للمشهد لكن صدى صوته يأتى من الخلف إلى المجاميع ليتساءل : مات؟ وعندما لا يجيبه أحد من المشاهدين، يردد بإصرار، مات؟ واكتفى بالتعليق على تسرع الشباب وعدم الحيطة، آخرون، فى النهاية، ومرة أخرى يلملم صاحبنا نفسه التى غرقت خجلا، ويلتقط أنفاسه التى هربت منه ثم عادت معلنة له بفقدانه إحدى أرواحه ولم تخبره بالعدد المتبقى فى خزانة حظه، يقوم، يمسح، وينفض عن يديه بل عن كل جسده الذى اكتشفه معفر بالتراب المبلل بالزيت والسولار ومخلفات كبائن قضاء الحاجة – الحديثة – الفاضحة، الكاشفة، وبغضب لا يعلم هو سببه أو لمن يصبه عليه، إنما بحال من الثورة الرافضة لأى منطق يلوح فى الهواء معلنا رفضه لكل هؤلاء من البشر، وقطارهم الذى تنصل منه بعدما أوصله رغم المشقة – المضاعفة - إلى مقصده،

 

 إنها أول لحظة له فى السويس يلعن فيها كل شىء، ليس لأنه لم يصبر لتحرك عجلات القطار – رغم تجمده لساعات - وصولا إلى الرصيف الذى لم يره ولم يصل إليه، وليس بسبب الألم الذى لاحقه لفترة طويلة بالعرج على قدمه اليسرى وكتفه ومرفقه، ولا لنظرات المشاهدين ما بين التشفى المفرط والشفقة غير المبررة، إنما لإنه أعتبر هذا الحدث نذير شؤم له، لأن أول خطواته كانت بالسقوط ناحية الموت، 

 

لم يمر بعد اليوم الأول له فى السويس ومازالت تنتظره الأحداث فى الأيام الأولى من منتصف العام الكبيس 2012.

فى القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف استقبله سوق العمل، ولماذا قبع فى مسجد حمزة، ومن انتشله.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة