يوسف القعيد
يوسف القعيد


يوميات الأخبار

يوسف القعيد يكتب: سعاد الصبَّاح تكتُب عن شجرة الصداقة المصرية المثمرة

يوسف القعيد

الإثنين، 15 مايو 2023 - 08:15 م

إذا أراد تاريخ الصحافة العربية أن يُسمى صحفياً قام بانقلاب جذرى فى أعماق الوجدان المصري العربي منذ الأربعينيات. فإن الاسم سيكون بلا شك هو أحمد بهاء الدين.

فى كتابها الجديد الصادر فى الكويت عن دارها التى أنشأتها بالقاهرة واضطرت لنقلها لبلدها بعد أن تعرضت لعملية سطو غير عادية نعرف جميعنا تفاصيلها. ولكن لا أحد يجرؤ على الاقتراب بالكتابة عنها. ولا أدرى السبب. ولا أتصور إلى متى يستمر هذا الصمت؟ لكنى أكتفى بالكتابة الآن أن الأيام قادمة، ولا سر سيبقى سراً للأبد.

فى كتابها الجديد المهم: وتبقى شجرة الصداقة مثمرة. الصادر عن دار النشر التى تحمل اسمها وتعمل الآن من دولة الكويت. وفى هذا الكتاب تكتب عمن عرفتهم وتصادقت معهم، وتصادقوا معها من المثقفين المصريين والعرب والعالميين. ومن أبناء الكويت نفسها.

سأتوقف الآن أمام بعض هذه الأسماء التى أضاءت لها الطريق. بصرف النظر إن كانت قد عرفتهم شخصياً، أو تابعتهم عن بُعد. وقرأت لهم من مسافة وتتلمذت على أيديهم. ولعل أجمل ما فى الإنسان أن يتوقف فى لحظات معينة من العمر ليقول:
- شكراً لكل من علمنى حرفاً.

جمال عبد الناصر
تكتب عنه فى عام 1985، أى بعد رحيله جسداً مع أنه ظل أسطورةً تضىء الطريق لمن جاءوا بعده. تكتب:
- لم يحدث فى التاريخ أن رحل رجل فظننا أنه أخذ معه الشمس والقمر والكواكب، ومصادر الإضاءة. وترك العالم فى ظُلمة قومية شاملة. فمنذ أن تركنا هذا الرجل فى 28 سبتمبر 1970، لم

تر الأمة العربية يوماً أبيض.
خمسة عشر عاماً والأرضُ تتشقق عطشاً، والسنابل تنحنى وجعاً، والعصافير تموت حُزناً، والبحر يستقيل احتجاجاً، والإنسان العربى تقوَّس ظهره من شدة الألم والهوان. وشاخ فى كل دقيقة مائة عام.. وتتساءل: أين الشارع العربى بعد جمال عبد الناصر؟ لقد كمموا فمه، وربطوا ساعديه بالحبال، ووضعوه فى الإقامة الجبرية. أين الغضب العربى بعد عبد الناصر؟ لم يعد هناك غضب ولا من يغضبون. ولا ثأر ولا من يثأرون. ولا ثورة ولا من يثورون.. إن الإنسان العربى الغاضب أصبح موضة قديمة، ومخلوقاً منقرضاً. فقد حقنوه بعشرات العقاقير المخدرة. وقطعوا لسانه حتى لا يتكلم. وبتروا أصابعه حتى لا يكتب. واستأصلوا ذاكرته حتى لا يفكر.

خمسة عشر عاماً بعد رحيل عبد الناصر يأوى المواطنون العرب فى الساعة السادسة مساء ليشاهدوا على شاشة التليفزيون مسلسل: ليلة القبض على فاطمة، أو ليلة القبض على الشعب العربى. والسؤال: إلى متى؟.

سفير الرواية العربية
إنه نجيب محفوظ، صاحب أول نوبل فى تاريخ الأدب العربى. وأخشى أن يكون آخرهم. تكتب عنه:

- عندما تُعطى الأكاديمية السويدية جائزتها لأديبنا نجيب محفوظ، فكأنما أعطتها للعرب جميعاً. فالرجل جزء من جغرافية هذه الأرض، وجزءٌ من تاريخها. وجزءٌ من ثقافتها وحضارتها. إننى أؤكد على المعنى العروبى للجائزة. فنجيب محفوظ لم يكتب ثلاثيته باللغة المسمارية أو اللغة السيريانية، وإنما كتبها بلغة قريش ومن يتكلمون لغة قريش.

ولهذا، فإننى ككاتبة عربية من الكويت أشعر بالعزة والكبرياء لأن كاتباً من وطنى العربى استطاع أن ينقل الرواية العربية إلى المدار الكونى. واستطاع بالتالى أن يكون جسراً يعبر عليه الأدب العربى إلى الضفة الأخرى من العالم. هذا هو المعنى القومى للجائزة الذى أود أن أؤكد عليه. وكل ما قيل من ثرثرات لا يتعدى أن يكون عاصفة من غبار. فنجيب محفوظ شجرة ترعرعت فى ظل ثورة عرابى، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، وجمال عبد الناصر. واستمدت غذاءها الروحى من هذه الثورات جميعاً.

قد يختلف الكاتب مع منهج ثورى أو اجتهاد ثورى معين. وهذا مشروع ومن حقه. ولكن ذلك لا يضع الكاتب أبداً فى موقع الثورة المضادة. إن نجيب محفوظ فى كل كتاباته هو محصور وطنى، مصرى، عربى، إنسانى، ولا يمكن أبداً فصله عن مكوناته العضوية والنفسية والشعبية والدينية والفكرية والسياسية. إنه كأى حى من أحياء القاهرة له حاراته، ومقاهيه، ومآذنه، وقبابه، ومشايخه، وشعراؤه، الشعبيون، ومغنوه، ورائحته الخصوصية. نجيب محفوظ هو الإبن الشرعى لهذا الوطن العربى الممتد من الخليج إلى المحيط. وألف وردة حب على جبينه.

وفاء الحب وسُلطة الكلمة
وتكتب عن إحسان عبد القدوس أنه لو أراد تاريخ الصحافة القومية أن يُسمى صحيفة قامت بانقلاب جذرى فى أعماق الوجدان المصرى والعربى فى الأربعينيات من هذا القرن. فإن هذا الاسم سيكون من دون شك «روزاليوسف».

هذه المجلة التى أسستها ووجهت سياستها امرأة استثنائية فى وضوحها وشجاعتها ووطنيتها. هى السيدة الفاضلة فاطمة اليوسف. كانت سيف المعارضة المسلط فوق رأس الإنجليز والإقطاع المصرى. وكان الشعب المصرى يعتبرها بوابته إلى الحرية.

فى هذه المدرسة الليبرالية المتمردة التى اختارت الصدام مع المستعمر وأدواته من طبقة الباشوات والملاك والمستوزرين، أذيال السُلطة. ولد إحسان عبد القدوس وورث عن أبيه محمد عبد القدوس شرارة الفن. وعن أمه فاطمة اليوسف شرارة الثورة. إحسان عبد القدوس هو هذا الخليط الرائع من ماء الفن وحرائق السياسة من جنات الحُب، ومن زلازل الثورة.
لم يعرف إحسان فى كتاباته أنصاف الحلول. ولم يُمسك العصا من وسطها. ولم يحترف الارتزاق الصحفى فى أى يومٍ من أيام حياته. ولم يسقط فى بئر البترو- دولار. كما سقط بعض الكُتَّاب والصحفيين. ولكن إحسان بقى الكاتب النقى والنظيف والمترفع حتى أسلم الروح.

كان صديقاً للضباط الأحرار الذين صنعوا الثورة. ثم وقف موقفاً مُعارضاً من سلبيات الثورة وممارستها اللاديمقراطية. فسجنه جمال عبد الناصر. ثم سجن أنور السادات إبنه محمد. ولكنه لم يتراجع عن قناعاته ومُثلُه العليا. ورفض أكثر من مرة المنصب الوزارى لإيمانه بأن المنصب الوزارى ليس أكثر من رشوة لا عمر لها.

ماء الضمير ونار الثورة
إذا أراد تاريخ الصحافة العربية أن يُسمى صحفياً قام بانقلاب جذرى فى أعماق الوجدان المصرى العربى منذ الأربعينيات. فإن الإسم سيكون بلا شك هو أحمد بهاء الدين. فهو من المدرسة الليبرالية التى كان أحد مؤسسيها. كان استثنائياً فى طموحه وشجاعته ووطنيته وصدقه. كان سيفاً فوق رأس المتسلطين. كان صوت المقهورين والمسحوقين والمعذبين فى الأرض. كان بداية الشعب إلى الحرية. كان واضحاً فى معارضته للممارسات اللاديمقراطية، والتشويهات السياسية، والقُبح بجميع أشكاله.

لم يعرف فى كتابته أنصاف الحلول فى يوم من الأيام. ولم تكن الكتابة عنده مهمة توفيقية. وإنما مهمة انقلابية. فلم يتصالح يوماً ما مع الخطأ. هذا الخليط النادر من ماء الضمير ونار الثورة هو أحمد بهاء الدين. هو جزء من جغرافية هذه الأرض، وجزءٌ من تاريخها، وجزءٌ من لغتها، وجزءٌ من ثقافتها وحضارتها.

أحمد بهاء الدين هو محصول اجتماعى مصرى عربى إنسانى. هو عصفور من عصافير الحرية ظل يغنى انتصاراتنا وانكساراتنا، أفراحنا وأحزاننا إلى أن توقف عن الكتابة.
إننى ككاتبة عربية من الكويت أشعر بالفخر والكبرياء لأننى عشتُ زمن أحمد بهاء الدين الجميل. شربت أبجدية الصحافة والالتزام والموضوعية، وحرية الفكر وصفاء الضمير من نهر كتابته. ذهب أحمد بهاء الدين وظلت مدرسته فى الأخلاق السياسية. شكراً لك يا أحمد بهاء الدين لأنك فى حياتنا سوف تبقى.

ثروت عكاشة تاريخ ثقافى
كان جناح القلب يحملنى إلى القاهرة لأنهل معكم نيلاً من المحبة يغمر ذاتى. وهرماً من الوفاء يُكلِّل قامتى. إذ نلتقى لتكريم الفارس النبيل الصديق الدكتور ثروت عكاشة. فقد تأخرنا دائماً فى الاحتفاء لمن أعطوا لأمتهم الكثير من الإبداع. وقدموا لها جليل الأعمال فى مختلف مناحى العطاء. ولكن هذه أمسية مُتوَّجة بالوفاء والمفعمة بروح الإجبار تقول لنا إن دُنيانا لا تزال بخير. وتقول لنا أنه مازال بإمكاننا الإطمئنان إلى أن هامات الفرسان تظل أبداً عالية فى التاريخ. لأن من يُسهم فى صُنع التاريخ لن تغفله الضمائر ولن تنساه القلوب.

مازلت أذكر أن هذه الكلمة أُلقيت يوم 26/3/2000 فى حفلٍ أقامته دار سعاد الصبَّاح عندما كانت هنا فى القاهرة تكريماً لثروت عُكاشة، وبحضور عدد كبير من المثقفين. يومها قالت:
- لقد ألزمتنى ظروفى الصحية بعد غياب «أبى مبارك» بعدم حضور عشرات المؤتمرات والأمسيات والندوات خلال عامين. ولكنى تمردت على نصائح الأطباء لأننى أعجز عن الغياب عن مصر. فأعود لأطل من فوق نيلها على الدنيا من جديد. مؤمنة بالله ومعتزةً بوطنى الكويت، وبوطنى العربى الكبير الذى سأبقى وفية له وطناً عزيزاً يغنى للدنيا.
- الله أكبر الله أكبر الله أكبر فوق كيد المعتدى.

لقد أعطتنى مصر الكثير علماً وأدباً ومحبة. وصداقات لا تغيب. وقد كان من عظيم الحظ لى أن يشهد المركز الثقافى المصرى برعاية رئيسه الصديق الدكتور عبد العزيز حجازى قبل أيام حفل توزيع جوائز الإبداع العربى لدار سعاد الصباح للنشر على الموهوبين من شباب مصر.

رجاء النقَّاش: الإبداع نقداً
قبل أيام رحل عن عالم الكلمة الناقد الأديب رجاء النقَّاش. أحد أكبر أعمدة النقد العربى المعاصر. وصاحب الحضور المميز فى ساحة الإبداع المصرى منذ تخرجه فى الجامعة عام 1956 عندما بدأت موهبته فى الإعلان عن صاحبها. وذلك من خلال تفرده فى الاهتمام بقضية أساسية هى تشجيع المواهب الجديدة فى مصر وفى الوطن العربى.

لذلك يربط الدارسون بين رجاء النقَّاش وظهور نُخبة من المبدعين أمثال: الطيب صالح، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زيَّاد، وصلاح جاهين. لقد تولَّى رجاء النقَّاش تعبيد الطريق أمام هؤلاء بتعريف القارئ المصرى بهم، ومتابعة إبداعهم، والعناية بما يصدر عنهم من كتب ودراسات. وكان متفرداً باهتمامه بالأصوات المصرية الجديدة. كذلك بالأصوات العربية. وهو أمرٌ سبق سواه فى فهم أبعاده القومية وأهمية العمل كجسرٍ ثقافى بين الأقطار العربية جميعاً.

تجاوز الجميع للآفاق العربية الرحبة لتكون الكلمة بوابة واحدة لا نافذة انفصال مَقيت. فى النقد العربى المعاصر يبرُز رجاء النقَّاش دائماً وربما وحيداً فى بعض الأحيان فى التعامل مع النص تعاملاً نقدياً. بعيداً عن صاحبه. وبالتالى بريئاً من تهمة التأثر الشخصى فيما يقدم من أعمال.

أى تلخيصٍ هو خيانة للنص. وهذه دعوة منى لقراءة الكتاب.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة