أمل دنقل
أمل دنقل


أسامة جاد يكتب : السينما كأداة شعرية

أخبار الأدب

الأحد، 28 مايو 2023 - 12:22 م

ولعل هذا المدخل، مع الاستفادة من طرح  «الكتابة عبر النوعية» يصلحان للبحث عن تأثيرات فنون مجاورة للشعرية فى نص أمل دنقل الشعري، سواء أكانت تلك التأثيرات مباشرة كمصادر للإلهام، أو كانت متضمنة فى الأداء الشعرى بين نص وآخر.

سبارتكوس الشخصية التاريخية والشخصية السينمائية

إن قراءة بصرية لنص أمل الخالد  «كلمات سبارتكوس الأخيرة»  يمكن أن تكون تطبيقا مثاليا للتأثير السينمائى فى قصيدة أمل دنقل، وأقصد هنا تأثير مشاهدة فيلم سبارتكوس (1960) لستانلى كوبريك من بطولة كيرك دوجلاس. فالبناء الشعرى للقصيدة، ذلك الذى يبدأ بعد التمهيد يضع سبارتكوس فى أعلى الكادر على صليبه بعد هزيمته أمام جحافل الجيوش الرومانية وإجهاض حلمه بالحرية، وهو المشهد الذى يتحدث فيه لسان حال سبارتكوس من لقطة  «عين الطائر»  إلى صفوف المهزومين فى ثورة العبيد:

 

«معلّق أنا على مشانق الصباح

وجبهتى – بالموت – محنيّة

لأنّنى لم أحنها.. حيّه!

اقرأ ايضاً| أحمد يماني يكتب: في الشعر كل شىء مباح

يا اخوتى الذين يعبرون فى الميدان فى انحناء

منحدرين فى نهاية المساء

فى شارع الاسكندر الأكبر:

لا تخجلوا.. ولترفعوا عيونكم إليّ

لأنّكم معلقون جانبي.. على مشانق القيصر

فلترفعوا عيونكم إليّ

لربّما.. إذا التقت عيونكم بالموت فى عينيّ

يبتسم الفناء داخلي.. لأنّكم رفعتم رأسكم.. مرّه!»

إن هذا المشهد الذى يبحث عن ومضة ضوء فى كآبة اللحظة، ولو بتفسير رفع الرؤوس لرؤية الثائر المصلوب رفعا للرأس كدلالة على لحظة حرية، يحمل فى جوهره ذروة السخرية المريرة من ضياع الحلم بالصباح الجديد. وهو المشهد الذى ليست له شواهد فى تاريخ شخصية سبارتكوس نفسه، على تعدد الروايات التاريخية، وإن وجد تأصيله فى فيلم ستانلى كوبريك، الذى انتهى بمشهد سبارتكوس على سارية صلبه ومن أمامه تمر زوجته وهى تحمل رضيعه الذى ولد خلال المعركة الأخيرة. هذا المشهد الدرامى بامتياز، والذى جعله أمل مشهد الافتتاح ومشهد الختام فى قصيدته شاهد صريح على أن شخصية سبارتكوس التى قدمها نص أمل هى سبارتكوس الفيلم لا سبارتكوس التاريخ، فالأخير لم ترد قصة إنجابه لطفل قبيل صلبه، ولا وجدت شواهد على قصة زواجه.

وعليه فإن الفيلم السينمائى «سبارتكوس» (أكدت السيدة عبلة الروينى أن أمل دنقل شاهد الفيلم الذى لعب بطولته كيرك دوجلاس ثلاث مرات متتالية فى يوم واحد) هو المستدعى فى تكوين نصه الأشهر  «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» بوصفه تعاملا مع السينما كمصدر معرفى جمالي.

مقابلة خاصة مع ابن نوح وتأسيس المشهد

غير أن تعامل أمل دنقل مع السينما بوصفها من مصادر الإبداع الشعرى لم يقتصر عند استلهام مشهدية النص الشعرى من هذا الفيلم أوذاك، إذ شهدت دواوينه التالية تطورا كبيرا فى استخدام السينما كأداة شعرية، استخداما حمّل اللغة الشعرية فى ذاتها بروح اللغة السينمائية، ولعل قصيدته البديعة  «مقابلة خاصة مع ابن نوح»  من ديوانه» أوراق الغرفة 8» من أفضل الشواهد التى يمكن الالتفات إليها فى بناء المشهد التأسيسى (بلغة السينما) والذى تنوعت انتقالاته بأسلوب ال «فوتو مونتاج» ما بين اللقطة الكلية (البعيدة) واللقطات التقصيلية (القريبة) و(القريبة جدا) التى تذكر بأفلام كبرى من بينها  «ألكسندر نيفسكي» ل سيرجى إيزنشتين، أو  «الوصايا العشر» ل سيسيل دى ميل:

وجاء طوفانُ نوحْ! المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً تفرُّ العصافيرُ، والماءُ يعلو. على دَرَجاتِ البيوتِ الحوانيتِ مَبْنى البريدِ البنوكِ التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين)  المعابدِ/ أجوله القَمْح/ مستشفياتِ الولادةِ/ بوابةِ السِّجنِ/ دارِ الولايةِ/ أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.

العصافيرُ تجلو../ رويداً../ رويدا../ ويطفو الإوز على الماء,/ يطفو الأثاثُ../ ولُعبةُ طفل../ وشَهقةُ أمٍ حَزينه

الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!

جاءَ طوفانُ نوحْ.

هاهمُ «الحكماءُ» يفرّونَ نحوَ السَّفينةْ/ المغنونَ سائس خيل الأمير/ المرابونَ/ قاضى القضاةِ/  (..مملوكُهُ)!  / حاملُ السيفُ راقصةُ المعبدِ/  (ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ( جباةُ الضرائبِ مستوردو شَحناتِ السّلاحِ/ عشيقُ الأميرةِ فى سمْتِه الأنثوى الصَّبوحْ!

جاءَ طوفان نوحْ.

ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينة.

بينما كُنتُ.. / كانَ شبابُ المدينةْ/ يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ

ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين. / ويستبقونَ الزمنْ

يبتنونَ سُدود الحجارةِ/ عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضارة

علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!

‏.. صاحَ بى سيدُ الفُلكِ قبل حُلولِ/ السَّكينةْ:

“انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!”

قلتُ:/ طوبى لمن طعِموا خُبزه../ فى الزمانِ الحسنْ

وأداروا له الظَّهرَ/ يوم المِحَن!

ولنا المجدُ نحنُ الذينَ وقَفْنا /  (قد طَمسَ اللهُ أسماءنا)! / نتحدى الدَّمارَ.. / ونأوى الى جبلِ لا يموت

‏(يسمونَه الشَّعب /(نأبى الفرارَ.. / ونأبى النُزوحْ!

 

يفتتح أمل مشهده بجملة خبرية عامة عن الطوفان  «جاء طوفان نوح» وهى الجملة التى تشكل اللقطة البانورامية العامة التى تطل على المشهد من زاوية مرتفعة، لينتقل مباشرة إلى تقاصيل المشهد: المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً ) لقطة عامة(  /تفرُّ العصافيرُ )لقطة عامة (والماءُ يعلو. /على دَرَجاتِ البيوتِ )لقطة متوسطة(  /الحوانيتِ )لقطة متوسطة)) / مَبْنى البريدِ )لقطة متوسطة).

وهكذا تتوزع التفاصيل بين اللقطات المتوسطة والقريبة ليعود إلى اللقطة العامة بين مشهد كامل ومشهد كامل آخر بالجملة الخبرية المفتاحية التى تشبه ضربة موسيقية أو قطعا واضحا فى المونتاج: جاء طوفان نوح.

الكعكة الحجرية والقطع المتوازي

لعل شاهد قصيدة أمل دنقل  «الكعكة الحجرية» من أكثر الشواهد التى ترد عند الحديث عن تأثيرات سينمائية فى قصيدة أمل دنقل، والحقيقة أن تقنية القطع المتوازى التى استخدمها أمل فى هذه القصيدة من أوضح ما تكون فى انتقالات المشهد من الداخلي/فى البيت والخارجي/ فى مظاهرات الطلبة أمام الكعكة الحجرية، أو داخلي/فى البيت، وداخلى آخر/ فى جهة التحقيق.

إن التزامن الذى يحدثه القطع الموازى هو ما يولد المفارقة الواضحة التى كانت واحدة من السمات الأسلوبية الأكثر وضوحا فى قصيدة أمل التى حرصت دائما على التصوير الحدى لطرفى المفارقة:

 

دقّتِ الساعةُ المتعبة

رفعتْ أمُّهُ الطيّبة

عينَها..

دفعته كعوبُ البنادقِ فى المركبة!

‏.........

دقّتِ الساعةُ المتعبة

نهضتْ، نسَّقتْ مكتبَة..

صفعتْه يدٌ..

أدخلته يدُ اللهِ فى التجربة

دقّتِ الساعةُ المتعبة

جلست أمُّهُ، رتّقتْ جوربَه..

وخزته عيونُ المحقّقِ..

حتى تفجَّر من جلدهِ الدمُ والأجوبة!

‏.........

دقّتِ الساعةُ المتعبة!

دقّتِ الساعة المتعبة!

صورة المدينة

غير أن الملمح الأهم فى نصوص أمل دنقل، وخصوصا المتأخرة منها، هو تلك الروح التى تراوح بنية السرد عبر مشهديات تتوسل روح السرد وبنية الحكاية، والاعتماد على أبنية سينمائية فى جوهرها، ليس فقط فى استخدام تكنيك القطع المتوازي، مثلما حدث فى  «أغنية الكعكة الحجرية»، ولا الفوتومونتاج التأسيسى مثلما فى   «مقابلة خاصة مع ابن نوح» ، ولا استدعاء الفيلم السينمائى  «سبارتاكوس» فى تكوين نصه الأشهر  «كلمات سبارتاكوس الأخيرة»  وإنما أيضا فى مشاهد متنوعة تشكل فى مجموعها روح المدينة الباردة، مثلما فى  «سفر ألف دال» الذى شكلت مقاطعه صورة كاملة لملامح المدينة القاسية:

 

الشوارع فى آخر الليل.. آه

أرامل متشحات ينهنهن فى عتبات القبور-البيوت..

قطرة .. قطرة، تتساقط أدمعهن مصابيح ذابلة

تتشبث فى وجنة الليل، ثم .. تموت!

 

الشوارع فى آخر الليل .. آه

خيوط من العنكبوت

والمصابيح -تلك الفراشات- عالقة فى مخالبها

تتلوى .. فتعصرها، ثم تنحل شيئا، فشيئا

فتمتص من دمها قطرة.. قطرة،

فالمصابيح قوت!

إن مشهديات السنترال، والغرفة فى الفندق، وقصة الرجل صاحب الساق الخشبية، ونصوص الخيول والطيور جميعها نصوص مدينية بامتياز، تكاد تشى بتماسها شديد الوضوح مع نصوص بودلير فى «سأم باريس» أو ديوان رامبو «فصل فى الجحيم»، بينما تذكرنا «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» بقصيدة رامبو «يوجورتا» الشهيرة التى كانت صوت قائد عظيم يطالب حفيده بالاستسلام/علموه الانحناء.

وبعد

قد يتطلب الأمر إعادة رصد خصائص قصيدة النثر فى شكلها المكتمل لدى بودلير ورامبو ومالارميه على التعيين، لنجد أن كسر الإيقاع لم يكن السمة الوحيدة التى تميز قصيدة النثر، وإن كان السمة الأكثر وضوحا لدى ذائقة تربت على شعر البرناسيين الموغل فى التوقيع والزخرفة. إلا أن سمات أخرى جوهرية ميزت قصيدة النثر الحديثة، لا تقل أهمية عن كسر القالب الإيقاعى بحال، منها أن قصيدة النثر هى ابنة المدينة، على العكس من ريفية القصيدة الرومانتيكية. وأن قصيدة النثر هى قصيدة سردية، تقوم على مشهديات وموقفيات درامية فى جوهرها، لا على التطريب الإيقاعى ولا الغنائية التى وسمت نصوص الرومانتيكية الأولى. ولعل هذه المشهديات المدينية من أبرز ما يميز قصيدة أمل دنقل وبالخصوص فى المرحلة المتأخرة.

نعم، التزمت قصائد أمل دنقل بالإيقاع الخليلى بصرامة عرفت عن أمل دنقل الذى لم يلجأ إلى السماحات العروضية المتنوعة التى تقتضيها الضرورة. غير أنه، أمل دنقل، اعتمد الإيقاعات المناسبة للنفس السردي، وخصوصا تفعيلة المتدارك   «فاعلن»  التى لا يخفى على باحث فى العروض أنها جوهر الإزاحة العروضية الأكبر فى الوصول إلى تفعيلة الخبب التى أسقطت مركزا جوهريا من مركوزات التفاعيل الثمانية المعروفة، وأعنى الوتد المجموع.

كما يصح اتخاذ مدخل «بينيات الفنون»  للحديث عن تأثيرات الموسيقى الغنائية فى قصيدة  «شيء فى قلبى يحترق» أو فن   «الأوبريت»  فى  «ماريا»  كما يمكن أن نزعم أن ديوانه  «أقوال جديدة عن حرب البسوس»  بمثابة سردية شعرية لسيرة الزير سالم تكاد تقارب فن الرواية.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة