د. رضا عطية
د. رضا عطية


في عيد ميلاد أحمد عبد المعطي حجازي.. شاعر الهموم الوجودية الكبرى

الأخبار

الأحد، 11 يونيو 2023 - 08:28 م

الناقد المتميز د.رضا حجازي اختص «الأخبار» بهذا المقال الذى كتبه بمناسبة عيد الميلاد الـ «٨٨» للشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى  الذى حَلَّ منذ أيام، ويحاول ناقدنا البارز أن يلقى الأضواء فى هذه المساحة المكثفة على فرادة منجز «حجازى»، وقيمة عطائه السخى، وعلى مكانته المرموقة على خريطة الشعر العربى فى شتى أدواره وعصوره. 


استطاع أحمد عبد المعطى حجازى منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، وعلى امتداد أكثر من ستة عقود أن يخلّد اسمه ناصعًا فى سجل الشعر العربي، وفى تاريخ الأدب العربى الحديث، فهو الذى حمل مع رفيقه صلاح عبد الصبور ألوية تطوير الشعر المصري، وتحديث القصيدة العربية بريادة أصيلة فى الشعر الحر الذى خرج عن المألوف والسائد فى الشعر العربي، مُتمردًا على عمودية القصيدة بقصيدة التفعيلة، وخارجًا عن عباءة الرومانسيين بكتابة قصيدة واقعية مُحمَّلة برمزية كثيفة.


يحمل «حجازى» فى شعره همومًا كبرى، كالهم القومى العروبي، وهم الهوية المصرية وروح التنوير والاستنارة الفكرية، ليكتب قصيدة بالغة التكثيف، والرهافة، والصفاء، كما يتضمن شعر «حجازي» تأملات وجودية كبرى، واستبصارات فلسفية متعمقة، فيبقى الزمن سؤالًا مُلحًا، وعلاقة الذات بالمكان سفرًا فيه، ورثاءً له، كما فى الديوان الأحدث لحجازي، «طلل الوقت»، هاجسًا مستمرًا فى شعر أحمد عبد المعطى حجازي.


عَبَّر حجازى فى قصائده الأولى عن اغتراب الريفى فى المدينة التى مثَّلت فى ذلك الوقت صدمة حداثية واجتماعية رهيبة للريفى الوافد إليها، فعبَّرت أشعار حجازى خصوصًا فى ديوانه، «مدينة بلا قلب»، عن مُعاناة الريفى فى المدينة، بغير وسيلة وأسلوب فنى كما فى قصيدة «سلة ليمون»:
(سلَةُ ليمونٍ، غادرت القرية فى الفجرْ/ كانت حتى هذا الوقت الملعونْ،/ خضراءَ، مندَّاةً بالطلّ/ سابحةً، فى أمواج الظلّ/ كانت فى غفوتها الخضراء عروسَ الطيرْ/ أواه/ من روَّعها؟/ أى يدٍ جاعت، قطفتها هذا الفجرْ!/ حملتها فى غبش الإصباح/ لشوارع مختنقاتٍ، مزدحماتٍ،/ أقدام لا تتوقّف، سياراتْ؟/ تمشى بحريق البنزين!/ مسكينْ!/ لا أحد يشمك يا ليمون!/ والشمس تجفف طلَّك يا ليمون!/ والولد الأسمر يجرى لا يلحق بالسيارات/»عشرون بقرش»/ «بالقرش الواحد عشرونْ!»). 


يمنح الخطاب الشعرى الحجازى بطولة للأشياء، ونجد أنَّ الصورة لا تكتفى برسم الأبعاد البصرية فى تشكيل مشهدها، بل تمتد لنفخ روائح الأشياء الحاضرة فى المشهد، بما يرفع من كثافة التصوير الشعري، فهذا هو عمل الفن الذى يستلهم من الوقائع المبذولة ما يجعلها لوحات «أيقونية» رامزة بإلتماع من الصياغة التى تتخذ من الأمثولة جسرًا لتمرير حمولاتها القولية، وبثِّ إشاراتها، وتوجيه رسائلها، فتخرج نظرة العين الشعرية المتأملة بالأشياء وعلاقاتها عن عاديتها، كما يتبدى التمثُّل «الإيروسي» لعلاقات الأشياء والعناصر والكائنات فى الطبيعة فى تصوُّر الليمون عروسًا للطير فى تمثُّل ملامسة الطير لثمرة الليمون، فكأنَّ الذات تسكب من إحساسها بألفة أشياء الريف على علاقة هذه الأشياء والعناصر بعضها ببعض فى الفضاء الريفي.


,يعتمد الشاعر على توليد الشعرية عبر المفارقات الضدية؛ فتُبرِز النقلة الضدية انقلاب حال الليمون/ العنصر الريفى بعد نقله إلى المدينة، فيتحول من حالة التندى بالطل، والسباحة فى أمواج الظل فى القرية إلى تجفيف الشمس لهذا الطل فى إشارة رمزية لقسوة عناصر المدينة على العنصر الريفى الوافد إليها، والغريب عنها؛ حيث اختناق الشوارع وازدحامها، وسرعة إيقاعها فى نمط حياة مغاير، ويكاد يكون مضادًا لنمط الحياة الريفى فى القرية، فلا يستطيع الولد الأسمر أن يلحق بالسيارات حين يجري، رُبَّما ليعرض على مرتاديها سلعته الريفية، «الليمون»، ويبيعه لهم، فى إشارة لفقدان القدرة على مواكبة نظام العيش «المديني»، أو ملاحقة إيقاعها السريع اللاهث، كذلك لا يشعر الناس فى المدينة بالعنصر الطبيعى البكر القادم من الريف/ الليمون ولا يشمون رائحته فى فضاء تطغى فيه روائح عوادم السيارات كمظهر لآلية الحياة وميكنتها فى المدينة، ذلك النمط الآلى «المميكن» من الحياة «المدينية» الذى لا يحتمله الريفي، فتعمل حركة السرد الشعرى على إبراز الصدمة الفادحة الحادثة نتيجة التصادم الحاد بين نمطى عيش الريف والمدينة.  
ولنا أن نلاحظ تكرارية السطرين الشعريين، تلفظ الولد بائع الليمون: («عشرون بقرش»/ «بالقرش الواحد عشرونْ!») فى مختتم المقطع الاستهلالى من القصيدة وأيضًا فى مختتم القصيدة، التى تُشكِّل وتدًا إيقاعيًّا، أو لازمة إيقاعية للقصيدة، وتُكثِّف حالة الاغتراب التى يعيشها الريفى فى المدينة جراء بيع منتجه أو ثمرته بأسلوب ابتذالي، كذلك يكاد يمثل السطران بنية معكوسة، فى السطر الأول عدد وحدات الليمون ثم قيمتها التسعيرية، وفى السطر الثانى الوحدة المالية (قرش واحد) ثم عدد وحدات السلعة، فيبرز أنَّ وحدة دنيا من العملة وقتها: (قرش واحد) تشترى عددًا وفيرًا من ثمرات الزرع الريفي، «الليمون»، فى تعبير رُبَّما يمثِّل لشعور استلابى ما يساكن الولد الذى يبيع السلعة الريفية بالشعور باستحواذية المال «المديني» عليها بثمن بخس أو بطريقة مُبتذلة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة