أمل دنقل وعبلة الرويني
أمل دنقل وعبلة الرويني


د.لحسن عزوز يكتب : «يَومِيات كهل صَغير السِنّ»التضاد أول عناصر الشعرية

أخبار الأدب

الأحد، 28 مايو 2023 - 12:33 م

أعرف أن الشّاعر أمل دنقل يبدو حكواتيا من طرازٍ رفيعٍ، وأعرف أنّه يبدو على شاكلة ملوك الحكيّ فى الشّرق العريق والعوالم المتلبّسة الكاملة، وأعرف أنّه مرتبطٌ بالتراث وديوان الشّوقيات وحافظ إبراهيم ونهر البلاغة ورسائل الهمذانى وديوان الشّريف الرّضى وديوان أزهار الشر، ومحمود حسن إسماعيل.

اقرأ ايضاً| أحمد يماني يكتب: في الشعر كل شىء مباح

هذا التراث القائم على التفاصيل والخبطات المسرحية والمتتالية وأجواء القصّ البطيئة، وأعرف أنّ الشّاعر يتفاعل مع النص كما يتفاعل السّينمائى مع إمكانات استخدام الكاميرا والمشاهد المتعدّدة والإضاءة والظّلال، وأعرف أنّ مفعول الذّاكرة الشّعرى رجعيّ وتقدميّ فى آنٍ.


 يقول أمل:

أَعْرِفُ أَنَّ العَالَمَ فِى قَلْبِي... مَاتَ!

لَكِنّى حِينَ يَكُفُّ المِذْيَاع... وتَنْغَلِقُ الحُجُرَات:

أَنْبَش قَلْبِي، أَخْرُجُ هَذَا الجَسَدَ الشَّمْعِي

وَأَسْحَبُهُ فَوْقَ سَرِير الآلام

أَفْتَحُ فَمه، أَسْقَيه بِنَبِيذ الرَّغْبَة

فَلَعَلَّ شُعَاعًا يَنْبِضُ فِى الأَطْرَاف البَارِدَة الصَّلْبَة

لَكِّن... تَتَفَتّتُ بَشَرَتُه فِى كَفّي

لَا يَتَبَقَّى مِنْهُ... سِوَى: جُمْجُمَة... وَعِظَام(١)

الشّاعر يستوعب فى صورةٍ يقينيةٍ متفرّدة وفى صوتٍ واحدٍ مشهد سيرته الذاتية والشّخصيات كلّها، متنقلا بينهم وبين صورته فى المرآة من خلال الفعل المضارع:

أعرف ناقلاً جماعية المشهد والتعابير الخاصّة بكلّ شخصية فى ثلاثة عشر مقطعًا طويلا وثلاثة عشر مشهدًا سينمائيًّا؛ فالفعل حاضر ومستمر بشكّل متضاد مع مطلع النص السّابق لقصيدة: السويس عرفت،حيث أنّ الشّاعر فى حالة إثبات لمشاهد لاحقةٍ مغايرةٍ لأزمنةٍ وأمكنةٍ سابقةٍ.

وفى المشهد الأول الذى يدور فى ذاكرة الصّبى أمل دنقل، إحساس يضيق المأساة وفداحتها يوميات- كهل- صغير السن،فالمفرد (يوميات) تدل على تكرار اللّحظات بشكلٍ مملٍّ؛ فالمأساة هى نفسها، مأساة الولادة، ولما كان المشهد يتطلّب وجود شخصياتٍ أخرى وعديدةٍ، عرف كيف يحرك الكاميرا البصرية، محمولة على الذّاكرة، مستوعبة التفاصيل كلّها، متنقلّة بينهم وبين صورهم فى الذّاكرة والقلب، ناقلةً المكابرات والتصدّعات الشّعرية، فى تناص ذاتيّ  «وهو العلاقات التى تعقدها نصوص الكاتب بعضها مع الآخر، والتى تكشف بدورها عن الخلفية النصّية التى يتعامل معها الكاتب»(٢)

وهو يؤسس الأدبية، إنّها  «مجموع الفئات العامّة أو المتعالية أنماط خطاب، صيغ تلفظ، أنواع أدبية... إلخ، التى ينتمى إليها كلّ نصّ متفرّد».(3)

فالشّاعر فى تفاعلٍ عجيب، يُعيد تشكيل كل مشاهده فى آخر ديوان له )أوراق الغرفة  8)فى قصيدة الجنوبي:

صورة

هَلْ أَنَا كُنْتُ طِفْلاً...

أَمْ أَن الذِى كَانَ ِطفْلاً سَوَاى؟(4)

فى رحلة بحث عن الذّات، وفى تشابك للصور  «تدلّ على تكوين نصّ كان مكتوبًا فى ضوء نص آخر»(5)، وكأنّه يُعيد تصوير ذاته فى كلّ مرّة (إعادة تصوير remake)، وذلك فى تعالٍ نصيّ مفتوح، وقد عبّر عنه (جيرار جينيت> ، أيضًا  «بأنّه وجود نصّ داخل نصّ آخر بصورة ضمنية أو صريحة (٦) وهو أيضًا  «علاقة تكون بين ملفوظين(٧) ، وكأنّ (أمل)،استنفد بهذا كلّ المفاهيم والعناصر الجمالية، ليقوم فى كلّ مرّةٍ على استرجاع المشهد نفسِه؛ بل استنفذ ذاته، وبات من الضّرورى إعادة قراءة التفاصيل كلّ مرّة، من جديدٍ، بناءً على التحوّلات وإحياء للأسئلة الميتافيزيقية الدّائمة!!

ليست الآلام، التى تمتزج فى ذات الشّاعر وقلبه سوى تجسيد لصورته الأولى، وصورة أخته رجاء)فانتهاء الحياة بموتها، جعله يعانى فى رغبةً دائمةً لاكتشاف حيوات أخرى، وكان الشّعر السؤال الأول والأخير، يقول سيد البحراوي: » هناك صراعٌ عنيفٌ داخل روح الشّاعر أمل دنقل(٨) ، وظل هذا الصّراع» استجابة ثوريةً للشّعر فى عصره(٩) يقول الفنّان المصرى (عبد العزيز مخيون*( عندما التقى )أمل) فى بداية (1968) فى القاهرة، وأقام عنده » أنّه كان يقرأ حتّى يسقط الكتاب منه فى غرفته(10)»، إنّها رحلة الذّات من أجل اكتشاف الحقيقة ومن أجل التيه فى دواخلها، لذلك يبدأ الشّاعر نصه بعبارةٍ استهلاكيةٍ ثابتةٍ (أنا أعرف  فاليقين الصادق يقين بالكلمة، بالشعر، بالسؤال، بالكتابة .  

وقد أكّد (أمل دنقل) صراعه الدّائم فى الفيلم الوثائقى للمخرجة (عطيات الأبنودي)، عندما قال:  «أنّه جاء للقاهرة، ليقول شعرًا وعلى العالم أن يسمعه» .(١١)

مشهديةٌ دائمةٌ، فى نصوص أمل  وسردٌ ومختلف واختيار للمفردات وتفاصيلها، بحثًا عن الحياة مع كلّ عناصرها، فهو يحبّ فتاة الليل ومعاناتها وتناقضاتها كما الليل والنهار فى تعاقبهما:

تَنْزَلِقِينْ مِنْ شُعَاعْ لِشُعَاعْ

وَأِنْتِ تَمْشِينْ-تُطَالِعِينْ-فِى تَشَابُك الأَغْصَان فِى الحَدَائِق

حَالِمَة... بِالصَيْف فِى غُرُفَات شَهْرِ العَسَلْ القَصِيرِ فِى الفَنَادِقِ

ونُزْهَةٍ فِى النَهْرِ...

وَاتِكَاءَةٍ عَلَى شِرَاعٍ!

وَفِى المَسَاء فِى ضَجِيجِ الرَقْص وَالتَعَانُقِ

تَنْزَلِقِينَ مِنْ ذِرَاع لِذِرَاعٍ!(١٢)

بل إنّ الشّاعر يتوهّم فى سرد كوابيسه وأفعال شخصياته فى انغلاقٍ وضيقٍ وتحوّلٍ متلاحق(فجأة)، سيكتشف أنّه مفجوع كما الفتاة ولا يمكنه إلاّ أن يكرّر الصورة المتبقية فى قصيدة (اليوميات) و(الجنوبي) وفى ذهنه والتى تنتهى بالموت:

تَنْفَجِرِينْ/ تَشْتَعِلِينْ/ تَخْلعِينْ

تَوَاصُلِينَ رَقْصَكِ المَجْنُونْ!!

وكأنّه انتحار متكرر أيضا، لتعود الحياة بعده، لكى تنتحر من جديد، إذن كما قال الشّاعر اليوناني. قسطنطين كفافيس:

لن تجد بلدًا جديدًا ولا بحارًا أخرى

المدينةُ سَوفَ تُلاَحِقُكَ!

سوف تتسَكّع فِى الشّوارِع ذَاتهَا

وتشيب فى ظلّ البيوتِ ذاِتها (١٣)

إنّ مصدر الألم، كما عبّر عن ذلك الروائى ستانسلاف ليم)، فى روايته (سولاريس>) ، يكمن فى أننا نؤمن بالحب: finis vie non amour، تنتهى الحياة ولا ينتهى الحبّ ما هو إلا كذب يطاردنا عبر قرونٍ طويلة، إنّه مجرد كذب لا فائدة منه، و كأنك تصبح ساعة لقياس الزّمن، تلك السّاعة التى يفككونها تارة، ويجمعونها تارةً أخرى، ويسيل منها اليأس والحب. منذ تلك اللّحظة التى يدخل فيها المصمم عجلات الحركة(١٤)، والشّاعر رجيم معذّب، هو فى وضع (بروموثيوس)، يقبس نار الشّعر، فتعاقبه الآلهة بنار الحياة، وهو فى وضع) سيزيف(القدري، يدحرج صخرة الشّعر إلى الأعلى... إلى الأعلى، يبدئ ويعيد، ممّا يعنى أنّ كلّ الأسئلة الوجودية فى الماضى والحاضر والمستقبل، ليست جديدة، إنّما هى ضاربة جذورها فى البدء السحيق!

ولكن الشّاعر فى هذه القصيدة، اختار أن ينطلق من هذه الأسئلة العميقة، ليعطيها بعدُا واقعيا، فى تسجيل للحياة، بكل تناقضاتها واختلافاتها» ومع القراءة) العمل الإبداعى الكاشف(، يطلّ الحضور المبهر للذاكرة، يتمتّع أمل بذاكرة عظيمة، يستطيع استحضار كافّة التفصيلات واستعادتها فى نضارتها الأولى(١٥).

وفى المقطع الثالث والرّابع يختزل الشّاعر القوافي. مراتٍ عديدةٍ لأنّها تجرح التدوير وتقمعه ولأنه يتخذ الشكل الهرمى المقلوب فى التشكيل الشّعري، أو يتخذ الشّكل الإهليليجى تأتى هذه القوافى لتشخصن الأشياء بتفاصيل اليومي:

‏(3)

عينا القِطة تنكَمِشان...

فيَدُق الجرس الخامسَة صَباحًا!

أتحَسَس ذقنى النَابتة... الطافِحة بثورًا وجِراحًا

 أَسمع خَطْو الجَارة فوق السقف

وهى تُعِدّ لِسَاكن غُرفتها الحمامَ اليومي...!)

دفءُ الأغطيةِ، خَرير الصَنوبر

خَشخَشة المِذياع، عفوية جسدى المبهور

‏« والخطو المتردد فوقى ليس يكفّ»

لكنى فى دقّة بائعة الألبان:

تتوقف فى فَكي... فُرشاة الأسْنان!

‏(4)

فى الشارع...

أتَلَاقى-فى ضَوء الصبح-بِظلّى الفَارغ:

نتَصَافح... بالأقدام! (١٦)

فى المقطع الخامس حتى المقطع العاشر، لا يزال (أمل)، ماثلاً فى تفاصيل الشّعر والحياة، متنوّع متبادل، فهو على مدّ استماع القصيدة لم يخب حلمه فى الحب والحياة ولم ينزح عن أقانيم الولادة والبحث عن صديق:

مقطع5  حَبيبتى فِى الغُرفَةِ المُجَاورَة

أسمَعُ وقْعَ خُطْوَاتِها... فِى رُوحَةٍ وَجِيئَة

مقطع6  أطرقُ بابَ صديقِى فِى مُنتَصفِ اللّيل‏(تثب القطّة مِنْ دَاخِل صندوقِ الفَضَلاَت

‏ كلّ الأَبوَاب، العُلوِية وَالسُّفْلية، تُفتَحُ إلاّ... بَابُه

‏  وأَنَا أَطرُقُ... أَطرُقُ.

مقطع7.... فى آخِر الأُسبُوع

‏ كانَ يعد -ضاحِكًا-أسنانهَا فِى كَتِفَيه

‏ فَقَرَصت أُذْنَيه...

‏ وَهيَ تَدُسّ نَفسَهَا بَيْن ذِرَاعَيه... وَتَشْكُو الجُوع

مقطع 8   •   حين تكونِينَ مَعِى أَنْتِ:

 أُصبِحُ وَحْدِي...

‏ فِى بَيْتِي!

مقطع    9• جَاءَت إليّ وَهيَ تَشْكُو الغَثَيَان وَالدّوَار

 أَنفَقتُ رَاتِبِى عَلَى أَقراصِ مَنْعِ الحَمْل

‏ تَرفَعُ نَحوِى وَجْهَهَا المُبتَلّ...

‏ تَسْأَلُنِى عَن حَل!

مقطع  • 10 فى ليلة الزفاف، فى التوهج المرهق

‏ ظَلّت تُدِير فِى الوُجُوه وُجْهَهَا المُنتَصِر المُشرِق

‏ وَحينَ صِرْنَا وَحْدَنَا-فِى لَحظَةِ الصّمْت الكَثِيف الكَلِمَات-

‏ دَاعَبت الخَاتَم فِى إِصْبِعِها الأيْسَر ثمّ انكَمَشَت خَجلَى!

فى المقطع الحادى عشَر والثانى عشر فى القصيدة، يترك )أمل( فى نصّه وجسده شاكيًا باكيًا، مندحرًا يفيض ويستفيض بأسًا فى تباين دلاليّ واختلافٍ فكريّ، حيث الوحدة والسّكون فى تصاعد دراميّ بين الدّهشة والحسرة تتوزع عبر مداورات الواقع وتحولاته الضاربة، هذا ما يدفع الشّاعر باستمرار إلى كشف النهايات:

مقطع     •11 قالَت إنّ حِبَالِى الصّوتِيةَ تَقلِقها عِندَ النّوم ... وانفَرَدت بالغُرْفَة!!

مقطع    • 12 وَزَوجَتِى تَبدَأُ ثَرْثَرتَهَا اليَومِيَة المُثَابِرة  وَهِيَ تَصُبّ شَايَهَا الفَاتِر فِى الأَكْوَاب!

وفى المقطع الأخير يكرّر الشّاعر مقطعه الأول فى إيقاعٍ خلفيّ، يعصف وينعصف، يقصف وينقصف، يفصح ويعجم، يروح ويجيء، يصاول ويجاول، يدور حول المركز ويتنابز فى الفراغ ويجعل اللّغة طافِحةً بالأطياف والخيالات والظّنون والآلام، كلّها تستدعى الاسترجاعات والمقاربات وتمحى الحاضر والمفارقات فى يقينية شاهدة:

العَالَم فِى قَلْبِى مَاتَ

لَكِن حِينَ يَكُفُّ المِذْيَاعُ، وَتَنْغَلِقُ الحُجُرَات:

أٌخْرِجُهُ مِنْ قَلْبِي، وَاأسْحَبُهُ فَوْقَ سَرِيرِي

أَسْقِيه نَبِيذَ الرَّغْبَة

فَلَعَلَّ الدِّفْء، يَعُودُ إِلِى الأَطْرَاف البَارِدَة الصَّلْبَة

لَكِن... تَتَفَتَّتُ بَشَرَتُهُ فِى كَفِّي

لَا يَتَبَقَّى مِنْهُ سِوَى... جُمْجُمَة... وَعِظَام!

 وَأَنَام!!

‏ (1967)

يلجأ (أمل) إلى الواقعية الحادّة فى عنوان القصيدة (يوميات كهلٍ صغير السّن)، فهو دومًا ينبثق بين صوتٍ وآخر، مهوم محلّق، تناصى ” والتناص الموسّع الحرّ هو قاعدة تأويل بيانات العنوان الشّعرى ويتبع أسلوب التداعي(١٧) فى اشتياقاتٍ للسؤال الممكن فى مخاضٍ دمويّ عارمٍ وعبقٍ اللّحاجة التى تتناهش لغته الحلمية ولهذا فإنّنا لو حاولنا فهم الإبداع الثقافى منعزلاً عن الحياة الاجتماعية العامّة التى ينشأ فيها لكان ذلك فى عقمه وعدم جدواه، شبيها بنزع كلمة من جملة أو جملة من مقال(١٨) وعند(أمل( الواقعية هى المنقذ فى ألفةٍ غريبةٍ احتجاجيةٍ حافلةٍ بالمتضادات والجمع بين رِقاب المتنافرات وجمع النقيض إلى نقيضه، فى السياق الواحد، ومن هنا صار التضاد أول عناصر الشّعرية وأهمّها فى تكوين نصه الشعري(١٩).

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة