ا.د. محمد الميتمي
ا.د. محمد الميتمي


فجوة الثروة والدخل واحتدام الصراعات.. فهل القادم أسوء ؟!

بوابة أخبار اليوم

الأحد، 04 يونيو 2023 - 03:47 م

بقلم: ا.د. محمد الميتمي

سفير اليمن بجمهورية الصين الشعبية

«تُقدّم الأرض ما يكفي لتلبية حاجات كافة البشر، ولكن ليس بما يكفي لتلبية جشع كافة البشر» ماهاتما غاندي

يبلغ عدد سكان الأرض في الوقت الراهن نحو 8 مليار إنسان وهو يساوي عشرة أضعاف تعداد سكانها قبل 270 عاما، مع بداية بزوغ فجر الرأسمالية الصناعية عام 1750م. ذلك يعني أن المتوسط السنوي لمعدل نمو السكان خلال الفترة المذكورة لم يتعدّ 0.8٪.

كان القس ثوماس مالتوس شديد التشاؤم في نظريته للسكان بشأن الزيادة الهائلة لأعداد سكان الأرض بما يفوق طاقتها على التحمل. ولهذا كتب يقول في مقالته عن السكان بأن أعداد البشر يتضاعفون بمتوالية هندسية فيما تتضاعف الثروة بمتوالية حسابية. أمام هذا التناسب المختل بين السكان والموارد بما يقود إلى أن تتجاوز فيها الأفواه ملاعق الطعام بحسب تعبير (بوشهلر)، تردُّ الطبيعة الأم حينئذ – كما يزعم المالتسيون - بقسوة بالغة وعنف شديد، من خلال نشر الحروب والمجاعات والأمراض والأوبئة وغيرها من أدوات الطبيعة ورذائل البشر الذي أطلق عليها مالتوس مصطلح قواعد الضبط الإيجابي. تتولى قواعد الضبط الإيجابي هذه بحسب اعتقاد مالتوس أو الفوضى الخلاقة بحسب تعبير المالتوسيين الجدد استعادة التوازن بين السكان والموارد إلى "طبيعته" فتحفظ الطبيعة الأم لنفسها سلامتها وتوازنها وللبشر وجودهم ومعيشتهم الآمنة المستقرة.

بيد أن تطور قوى الإنتاج التي أحدثها الإنسان وما رافق ذلك من تطور هائل في التقانة والتكنولوجيا قد دحض فرضيات مالتوس وأحال على نظريته التراب. إذ ارتفع قيمة الناتج الإجمالي العالمي إلى أكثر من 100 تريليون دولار بنهاية عام 2022، اي أنه تضاعف بنحو 225 مرة عما كانت عليه قيمته عام 1750م، بمتوسط معدل نمو سنوي يزيد عن 2٪ مقابل 0.8٪ لنمو السكان. على الرغم من كل هذه الزيادة الهائلة في الثروة العالمية بمقدار يزيد بنحو 22.5 ضعفا عن معدل زيادة سكان الأرض خلال نفس الفترة فإن الجانب المظلم من تنبؤات ثوماس مالتوس قد تحققت حيث الحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض تنتشر على نطاق واسع في كل أرجاء كوكب الأرض وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلا أن ما يحدث من هذه الكوارث في الواقع ليس إلا بفعل الاختلالات الحادة بين نمو قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وهو ما وسع فجوة الثروة والتنمية بين سكان العالم على الصعيد العالمي والإقليمي والقطري على حد سواء. يكفي للدلالة على سوء توزيع الثروة بين سكان العالم الإشارة إلى أن عشرة أشخاص فقط من أثرى أثرياء العالم بلغ قيمة ثروتهم بنهاية عام 2022 مبلغا وقدره 1174 مليار دولار وهو مبلغ يفوق ثروة 700 مليون شخص من فقراء سكان (البلدان النامية). وطبقا لآخر تقرير نشرته منظمة أوكسفام البريطانية يقول فيه إن نسبة 1٪ من أغنى أثرياء العالم استحوذ خلال العامين الماضيين على ما يقرب من ضعف ما يمتلكه باقي سكان الأرض. وجاء في التقرير الذي يحمل عنوان "البقاء للأغنى" أن هذه النسبة الضئيلة من سكان الأرض استحوذت في عام 2020م على ثلثيثروة سكان الأرض بمبلغ وقدره 42 تريليون دولار. هذا التفاوت الساحق والماحق لتوزيع الثروة والدخل بين سكان الأرض ولدّ فجوة سحيقة ومتعاظمة بين من يملكون ومن لا يملكون بما يغذي دورات العنف والحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض التي تنتشر على نطاق واسع على كوكب الأرض. تُفَنِّد هذه المعطيات والحقائق وبشكل قاطع المنطوق المالتوسي حول المشكلة السكانية، وتؤكد على أن مشكلة غياب العدالة وعدم المساواة في توزيع الثروة هي المعضلة الأساسية والباعث الرئيسي لهذه المآسي والاضطرابات التي تقاسي مرارتها البشرية.لهذا فإن عددا من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين والألمان منذ مطلع القرن الثامن عشر، وقبلهم بأربعة قرون الفيلسوف وعالم الاجتماع اليمني عبد الرحمن بن خلدون، تنبهوا إلى هذه المفارقة والمعضلة الخطيرة، بأن النمو المبهر والهائل لقوى الإنتاج وتطورها لا يوازيه وبنفس القدر من النمو والتطور في علاقات الإنتاج الإنسانية الخلاقة. وهي ما حاولت وتحاول أهداف التنمية الألفية وأهداف التنمية المستدامة على التوالي تلافيه من أجل ردم هذه الفجوة السحيقة والمتعاظمة، ولكن حتى الآندون جدوى.

إن العلاقة التناسبية بين نمو السكان ونمو الموارد خلال القرون الثلاثة الأخيرة من تأريخ البشرية تميل، كما تفصح المعطيات الإحصائية، لصالح نمو الموارد،على العكس تماما مما افترضه مالتوس والمالتسيون الجدد. الحقيقة المطلقة هي أن نمو الثروة العالمية في تعاظم مستمر، لكن مع تركُّزها الشديد في أيدي حفنة قليلة من سكان الأرض. يقابل ذلك على الطرف الآخر انتشارا واسعا للفقر والجوع والبؤس الإنساني منقطع النظير. هناك اليوم نحو اثنان مليار من البشر على هذا الكوكب يعيشون تحت خط الفقر، منهم 700مليون إنسان يعيش في فقر مدقع بنهاية 2022، وقد زاد هذا العدد بنحو 70 مليون إنسان عام 2022 من العام الذي سبقه. وهو ما يكشف بجلاء عن نزعة متزايدة لاتساع فجوة التفاوت واللامساواة في الدخل والثروة بين بني البشر. يظهر هذا التفاوت في المنطقة العربية بشكل أكثر حدة وانتشارا بحيث يتعايش الرخاء الفاحش مع الفقر المدقع. إذ بلغ عدد من يعيشون في المنطقة العربية في فقر مدقع نحو 130 مليون شخص، أي ما يمثل ثلث سكان المنطقة ونحو الخمس تقريبا من سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع.

سكان العالم العربي يبلغ عددهم اليوم أكثر من 450 مليون نسمة أو ما يعادل 5.6٪ من إجمالي سكان العالم ونحو 29٪ من سكان العالم الإسلامي. فيما بلغ حجم الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة نحو 3.4 تريليون دولار عام 2022، وهو ما يعادل أقل من 3.5٪ من حجم الناتج العالمي لنفس العام.وشكل إجمالي الناتج المحلي لدول مجلس التعاون الخليج بما نسبته 2٪ فقط من قيمة الناتج العالمي عام 2022م، لكنه يشكل نحو60٪ من إجمالي الناتج العربي. بينما لا يتعدى حجم سكان دول مجلس التعاون الخليجي نسبة 11.5٪ من إجمالي سكان العالم العربي، و0.6٪ من إجمالي سكان العالم.

لا غرابة إذن في أن هذه المنطقة هي أكثر مناطق العالم توترا واضطرابا كمحصلة لاتساع رقعة الفقر أفقيا ورأسيا والتفاوت الحاد في الثروة والدخل. ما يخشاه علماء التنمية ورجال السياسة والفكر أن تشهد هذه المنطقة المزيد من الاضطرابات والقلاقل السياسية فوق ما هي عليه اليوم خلال السنوات القليلة القادمة ويشتد سعيرها بما يقوض الأمن والاستقرار الإقليمي برمته. وإذا لم يتحرك النظام الإقليمي العربي، إن كان ما زال حيّاً، لمواجهة هذه التحديات الجسام وبشكل عاجل وفعال، من خلال تدخلات تنموية واجتماعية محسوسة وهادفة ووضع إستراتيجية تنموية إقليمية متوازنة خلال العقد القادم لتقليص هذه الفجوة السحيقة، فإن نيران هذه الاضطرابات وحُمَمِها سوف تمتد وتتسع لتشمل أقطارا أخرى كانت بعيدة عن جحيم "الفوضى الخلاّقة" حتى وقت قريب والتي يُراد لها أن تتمدد وتنتشر وتزداد سعيرا.

قدّم العام الماضي كل من البنك وصندوق النقد الدوليين في أحدث تقاريرهما توقعات قاتمة للنمو الاقتصادي والرخاء والأمن والاستقرار العالمي، وكلها تشير إلى أن القادم أسوء. قد لا يحتاج المرء إلى عناء لقراءة هذه التقارير الهامة، فيكفيه فقط أن يتابع الأخبار من على شاشات التلفاز ليكتشف ببديهية ويسر ما ينتظر البشر من مستقبل قاتم. الحروب تتفجر في كل مكان ومساحات الفقر تتسع وضحايا الحروب تتضاعف والمشردون التائهون والهاربون من جحيم الحرب والفقر والمجاعات والظلم والطغيان يعبرون القفار والفيافي والبحار بمئات الآلاف هربا من الموت فيلاقونه يترصّدُهُم بطرق وصور شتّى حيثما يولون وجوههم. المواجهات بين القوى العظمى والمدججة بالسلاح الفتاك حتى أسنانها تشتد وتلتهب والمجمعات الصناعية العسكرية تزدهر وتنتعش من إنتاج السلاح وتجارة وسائل الموت. وتشهد البشرية اليوم ويلات هذا التفاوت والجشع بشكل درامي حيث يجري حرق مزارع القمح والأرز والمحاصيل الزراعية الأخرى الضرورية لإطعام البشر، وتلويث الأنهار والبحار والمحيطات، وتدمير المصانع والمساكن والمشافي والمدارس والجسور والطرق وسائر أنواع البنى الأساسية الضرورية لحياة الإنسان، بمختلف وسائل الدمار كالطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع والأسلحة البيولوجية والنووية التي تنتجها تلك المجمعات الصناعية العسكرية وتستخدمها الشياطين البشرية للفتك ببني البشر بغية إشباع نهمها الشره الذي لا يستكين. إنه قرن الشيطان الذي يَعِدُ البشرية بالفناء ما لم يتم كبح رذائل البشر التي لا تهدأ ولا تنام. ما زالت ذاكرة البشرية طرية لما أحدثته الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن العشرين من كوارث ومآسي راح ضحيتها أكثر من ستين مليون إنسان بخلاف ما ألحقته من دمار بالمدن وبيئة الحياة.

وها هي اليوم نُذُرُ حرب عالمية ثالثة تلوح في الأفق في النصف الأول أيضا من القرن الواحد والعشرين من شأنها هذه المرة إن وقعت أن تقضي على الحياة برمتها وتدوّن انقراضا سابعا لجميع الكائنات الحية على كوكب الأرض. أُمنا الأرض تستنكر وتصرخ وتقول لست أنا من يصنع كل هذه المآسي كما تزعمون، إنما أنتم أيها البشر، بل أنا ضحية أخري من ضحاياكم.

 

ا.د. محمد الميتمي

سفير الجمهورية اليمنية في بكين، وزير التخطيط والتعاون الدولي ووزير الصناعة والتجارة سابقا، عضو شبكة التنمية العالمية ، وعضو منتدى البحوث الاقتصادية

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة