الكاتب محمد نبيل
الكاتب محمد نبيل


«مشاهد أيام السويس 6» قصة قصيرة للكاتب محمد نبيل

صفوت ناصف

الجمعة، 16 يونيو 2023 - 04:21 م

محمد الراوى... منجد عاطل، مقيم بالمسجد، ثم شهيد!

المنجد الكسول أصبح بطلا

 

... كانت ورقات البنك المركزي بمثابة ثروة حقيقية هبطت على صاحبنا من قبة مسجد حمزة على يد شيخه الجديد، هو يختلف كثيراً عن ذاك الشيخ الذي علمه القرآن في كتاب بلدته الصغيرة البسيطة، الأول كان أزهرياً، أنهى عمله بالمعهد الدينى مدرساً، ووهب علمه زكاة لله في تعليم صغار القرية، كان رقيق القلب، دامع العين، لا يتقاضى أجراً على تحفيظ القرآن، ولا يأمر إنما ينصح، فقط ينصح!

 

أما شيخه الجديد كان كما يعطى أموالاً كثيرة كان يعطى أوامر أكثر، كان عبوساً، متجهماً حتى وإن كان وحيدا، منفردا، كان ذا صوت أجش، صلب كأنه بلا روح، إنما مُخيفا ترتعد من دويه اللحى الكثيفة والشوارب اللا موجودة إلا من تناثرات غير منمقة، والصفة الفارقة في شيخه الجديد عن القديم أنه كان جريئا لأقصى حد في إطلاق الفتاوى التي كانت إما تطير ناحية اليسر والحل، أو تطيح تجاه المنع والتحريم، لا وسطية فيما يُفتيه شيخه الحازم.

 

 تذكر صاحبنا في وصف شيخه الجديد أنه لم يكن أزهريا بل كان كارها للأزهريين دون إبداء أسباب، وعلم هذه الكراهية من خلال تمتمات شيخه البذيئة عن أسماء لشيوخ أزهريين كانت الأحاديث تسوقها عابرة على أسماعه، لكنه كان بمثابة شيخ الفانوس السحري الذي ما إن دعاه صاحبنا طالبا مالا إلا وأعطاه وبكرم طائي، ولم يعط صاحبنا الفرصة لنفسه الصاخبة على كل شىء إلا من الاستفسار عن سبب رعاية هذا الشيخ له.

 ومرت الأيام الست قبل انقضاء أسبوعه الأول في المسجد ولم يخرج منه، إلا أن معه ما يقارب الثلاثة آلاف جنيه، حصيلة عطايا الشيخ الكريم للشاب الغريب، لكن الشاب في كل مرة كان يريد الخروج من المسجد، وعندما يهم بالخروج يجد ممن يراقبونه موانع صنديدة، وفي كل مرة يسأله الشيخ: لماذا تريد الخروج من الجنة أيها الشاب العجول؟ وفي كل إجاباته التي باتت تقليدية، يرد الشاب على دهشة شيخه: لا يا شيخنا، هو معقولة واحد طبيعى يسيب الجنة، خلينى هنا لحد ما تؤمر بخروجي يا شيخنا.

 

وأصبح الأمر عادة بين الأطراف الثلاثة الشاب والشيخ والمراقبين، حتى أقنع الشاب نفسه بالبقاء بالمسجد مادام الشيخ يعطيه يوميا خمسمائة جنيها، ويتناول وجبات البروتين بأنواعه في حالة استثنائية له ولاثنين من الشباب المغتربين مثله، إلا أنه لا يعرفهما، وفي ذات مرة حاول التقرب لأحدهما ليتعرف عليه، فبادروه المراقبون له بالتنحي والابتعاد عنه امتثالا لأوامر الشيخ، الآمر الناهي هنا في المسجد، فسلم صاحبنا الأمر بعدم الاقتراب من أيهما، أو حتى غيرهما، حتى لا يُغضب المراقبين وبالتالى شيخه المعطاء.

 

وتحدث ليلة بعد صلاة العشاء منفردا عن سؤال كان يُخفيه ويدسه إلى باطن خلاياه حتى لا يتعبه الرد وتعييه الإجابة، إلا إنه أمام التسريبات المتتالية الآتية من داخله إلى عقله لتشغله، وهو الآن وحيدا وبعيدا بعض الشىء عن المراقبين بادعائه النوم والغرق فيه، وأغمض محمد الراوي عينيه ليفسح لحواراته المجال لتروح وتجىء، وسأل الشاب نفسه عن سبب إغداق الشيخ عليه بالأموال؟ ولم يجد ردا سوى إنها طيبة هذا الشيخ وربما سذاجته، وعندما سأل عن سبب إطعام الشيخ له، وعدم السماح له بصرف أية نقود على إعاشته داخل المسجد؟ فأجاب لذاته: إن الشيخ كريم، ويبدوا أنه يُطعم الطعام ابتغاء مرضاة الله، وطلبا وتوسلا من الله لشفائه من حالة الملاصقة للكرسي المتحرك.

 

 واقتنع الشاب برده على استفساراته، لكن سؤلاً حائرا حال دون نومه في هذه الليلة وكان: لماذا يمنعه الشيخ عن الخروج من المسجد؟ ولماذا يراقبه ويعين هؤلاء الفتيان الأشداء مراقبين عليه؟ أمضى صاحبنا ليله في صخب هائج وأمام الأموال التي جناها من اتباعه لشيخه، ولا مانع لديه من المكوث بالمسجد فهو يصلي وينام ويأكل ما طاب من اللحم يوميا ومجانا، أليس هذا كله كفيلا بالمكوث بالمسجد، وما الذي نالني من الخروج إلى شوارع السويس غير هذا الرجل الذي سلبني مالي، وتلك السيدة التي أطعمتني فطيرة صدقة لروح ابنها الشهيد، وتذكر صاحبنا مقولة الطفلة: الفاتحة للشهيد، وبات ليلته يكررها، ولم يخطر على باله ولو لمرة واحدة من هذا التكرار أن يقرأ الفاتحة للشهيد الذي أطعمه وسد جوعه باستشهاده وبتصدق والدته وأخته عليه، كانت ليلة ثقيلة، وطويلة، وباردة جدا، انتهت بآذان الفجر الذي أيقظه، وهم بالقيام للغسل والوضوء والصلاة، فإذا بأحد المراقبين له يقترب منه ويسر إليه همهمات لم يشأ أن يسمعها غيره، فهز الشاب رأسه مطأطأ بالموافقة ويبدو أن الأمر صادف هواه، فرجع إلى رقوده وتمدد وسافر إلى نوم عميق.

 

 ومع شروق الشمس استيقظ صاحبنا، ووجد الشيخ عند رأسه، كانت عيناه الجاحظتين أول ما قابل ناظري الشاب، واعترض طريقهما، وكانت الابتسامة المرسومة ببرود لزج، مع هدهدة الرأس، وفرك اللحية بسبابته المجعدة، وانحنائه على وجه الشاب الذي يبدو أن الانحناء قد مضى عليه وقت طويل وهو ينتظر استيقاظ الشاب، كل تلك الملاحظات التي دونها الشاب في رأسه حتى لا ينساها ليلا عندما ينفرد بنفسه ليبحث لها عن ردود وإجابات، لكن الشيخ لم يعطيه الفرصة للتدوين والتذكر، فوكزة بقوة في كتفه بتلك السبابة التي كانت كعصاته قوية، وصلبة، ومدببة كحربة شيطان، أفزعت محمد الراوى وكانت كفيلة بنفض النوم نهائيا عن كل أوصاله، سأل محمد شيخه دون صوت، فقط  بعينيه: خير يا شيخنا؟ فبادره الشيخ انهض يا فتى، فاليوم سيكون لك شأن عظيم.

 

عمت الدهشة وجه محمد الراوي، وأخرصت جوارحه كما ألجمت لسانه، فلم يحرك من أطرافه ساكنا، اعتدل من رقوده وجلس مقبلا يد شيخه كما يفعل في كل مرة منذ أن جاء إلى المسجد، بعد أن علم أن هذا واجب عليه، عندما فرض وفرد الشيخ يساره للشاب آمرا بنظرة حادة تشير إلى كف يده معلنا وجوب التقبيل ليس في كل يوم بل في كل لقاء، لذا هم الشاب إلى كف شيخه ليقبله، كما اعتاد، لكنه في هذه المرة التقط يد شيخه وكأنه يرجوه الرحمة من أمر قد أفزعه لكنه لا يعلم له سميا، قاطع الشيخ ذهول وفزع الشاب وربت على كتفه، وقدم بيمينه فطور الصباح للشاب على غير المعتاد أن يقدمه الشيخ بيده، وأيضا لم يصادف أن أفطر الشاب منوعات الحوم الضاني، لكنه استجمع قواه ونادى على شجاعته التي فرت منه عندما فتح عين يومه على وجه شيخه،

 

وسأل الشاب شيخه: معلش يا شيخ هو بنفسك، ويتلعثم الشاب بعد مقاطعة نظرة عابسة من الشيخ له، ويسكت، ويشير له الشيخ بإصبعه، أكمل، ويكمل الشاب كلامه، وهو متردد، مرتعد: انا بسأل يعني يا شيخ بنفسك جايب الفطار وكمان لحمة مشوية و.. ، وقاطعة هذه المرة الشيخ بصوت ثابت، قاطع، حازم: كل، وخلص أكل، واشبع كويس، وتعالى ورايا، مستنيك يوم عظيم النهاردة، وانتفض الشيخ من جلسته التي كان فيها شبه جاسم على أنفاس الشاب، الذي أخفي الطعام كله أسفل سجاد المسجد، لأنه لأول مرة لم يرد طعاما بل أراد شيئا آخر حرم نفسه منه طواعية.

 

 استفاق الشاب على وجه هذا الشيخ الذي استباح وأد حرية الشاب فقط لمجرد أنه يقدم له الطعام، والمال، مد الشاب يده إلى جيبه الذي كان قبل نومه مكتظا بأوراق البنك المركزي، فوجد جيبه خاوي على عروشه، لم يعد الشاب مالك لمال عده قبل نومه كما كان يفعل كل ليلة وكل صباح، تلفت حوله ليبحث عن المال، فلم يجده، ودارت في حيرة عيناه ليسأل من حوله من المراقبين عن ماله، فلم تسمح له شجاعته بفعل ذلك، لكن أحدهم اقترب منه وسأله: في حاجة؟ بصوت أشبه بالتهديد، تذكر جيدا هذا الصوت وانتبه لصاحبه، إنه هو، نعم هو الرجل الذي سلبني مالي أمام المحطة لكنه الآن بلحية، تسائل الشاب عن اللحية هل كانت موجودة ليلتها؟ ارتبك الشاب، ... ربما ليس هو، لا ، هو نفس الصوت الذي ألجم صوتي وقيد أطرافي وسلبني مالي، سأل الشاب وكأنه يعلن من خلال سؤاله أن لا شىء يبكى عليه الآن: نعم، قصدي أيوة، فين فلوسي؟

 

ونظر الرجل للشاب نظرة كانت تكفي بانسحاب الشاب من معركة استرداد أمواله، وسلم أمرها وأمره لله، في قرارة نفسه كان ينوي الوشاية عن هذا السارق للشيخ، لكنه، وحتى ما يدور في خلده لم يسمح له بأن يظهر عليه ويكشفه عن سوء نيته لهذا الرجل الشرير، واكتفي بإطلاق عينه للبحث عن شيخه لينقذه من سطوة هذا الغاشم، فاجأه الشيخ بالنداء، يا بطل ، يا محمد، التفت إليه الشاب سريعا ومتلهفا ليهرب من بين يدي هذا الرجل، وهو يهرول إلى شيخه ملبيا نداءه، كان يردد بطل، أنا بطل! 

في القادم إن شاء الله نكتشف معا كيف أصبح المنجد الكسول بطلا، وكيف استخدمه الشيخ.

 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة