صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


صفوت فوزى يكتب : لما أنت ناوى تغيب على طول

أخبار الأدب

الخميس، 06 يوليه 2023 - 03:25 م

حين جاءنى صوته عبر الهاتف، بادرته بالسؤال: «ازيك يا وصخ». أجاب مندهشًا: «هذا اللفظ لا يعرفه سوى اثنين، أنت من فيهما؟» ولما أجبته قال بصوت كتلك الأصوات التى نسمعها فى الأحلام، تأتى من بعيد مع أنها قريبة: «يااااااه.. ثلاثون عامًا تنهض من تحت الردم. كيفك، وكيف أحوالك؟ لا شك أنك تزوجت وأنجبت، كيف حال الأولاد والأسرة والأصدقاء القدامى؟».


من علبة شيكولاتة صفيح صدئة تنهض الذكريات متزاحمة ، صور قديمة بالأبيض والأسود، قصائد البدايات الأولى، نزق الخلافات العابرة، رسائل المراهقة وعتبات الشباب، مجلات مكتوبة بخط اليد ومطبوعة بالاستنسل، رسومات بأقلام الرصاص والفحم، وكلمات أغان قديمة مكتوبة على أوراق مدرسية اصفرت وحال لونها.


فى الحجرة الصغيرة المنزوية فى طرف الدار، المعروشة بعروق الخشب وحطب القش، والمدهونة حوائطها بالجير الأزرق الباهت، كنا نلتقى. يستقبلنا والده العجوز على باب الدار موجهًا لـه السؤال: «كنت صايع فين يا وصخ؟ ابقى قابلنى لو فلحت». نضحك متندرين على لغته وأسلوبه وندلف إلى الحجرة المعزولة ، يخرج رسومه بأقلام الفحم، والراديو الترانزستور الصغير ببطاريتيه البارزتين إلى الخارج والمربوطتين بأستك حزم النقود والمضبوط على محطة أم كلثوم.

هو الوقت المخصص لبث أغانى محمد عبد الوهاب الذى يعشقه بجنون، وكنا نحن أصدقاءه المقربين نشاركه هذا العشق. يمضى بنا الوقتُ سريعًا ممتعًا، ما بين الاستماع والطرب والفرجة على آخر إبداعاته من البورتريهات المرسومة بأقلام الفحم، وتبادل الأسئلة المعلقة فى رؤوسنا كالذبائح، والتى تعصف بنا ولا نكاد نجد لها إجابات شافية. النهم الثقافى والفضول العقلى والبحث عن الحقيقة، والحنين إلى الذى لا يجىء، وكل ما يجعل مراهقين مثلنا يتفتحون لكل ما كانوا يتعرضون له من قراءات جادة. 


كنا فى أول الشباب ومن هؤلاء الذين يأتون من القرى محتشدين بقلة تجاربهم، وخجلهم، يتخبطون فى شوارع المدينة الواسعة تائهين، يجدون فى تجمعهم ملجأ وحماية.


فى عتمة الضوء الكابى للغرفة الصغيرة، تنعتق أرواحنا، تتحرر أفئدتُنا من ربقة اليومى والمعتاد. تنطلق فى آفاق رحبة من الفن والفلسفة والجمال، فى مناقشات وحوارات لا تنتهى، موجعة وكاشفة ومحرضة، تتخللها ضحكات صغيرة تغسل الروح وتشفى القلوب المنكسرة التى تنوء بحمول أكبر من سنها ومن فهمها. نتحرر من قسوة الفقر وأحلامنا الموءودة وخيباتنا الصغيرة المكرورة. نربت على أرواحنا بأيدينا، لنكتشف الثابت والمتحول فى وعينا وعلاقاتنا بالناس والأماكن والأشياء، ماسحين نزيف أرواحنا بقطنة مبللة. 


فى غدوه ورواحه، يمضى فى الحارات والدروب. فى الشارع الذى تقطنه يتطلع إلى نافذة تطل منها، شرفة تقف فيها مرتدية تاييرًا هادئ اللون، شيش مغلق يتضوع من خلفه عبيرها. لا يغادر حتى تمتلئ روحه من طلتها البهية. يعود إلى غرفته المنزوية، يرسم لها صورًا بأقلام الفحم. يسكب روحه على الورق شعرًا ورسمًا. هام بها. حدثنى كثيرًا عنها. فى كل لوحاته التى رسمها كانت تبدو قادمة من عالم آخر، عالم ملىء بالصفاء كَنَدى حقول الصباح. يؤطِّر وجهها القمحى المدور هالة من النور تنبع من حدقتى العينين البنيَّتين الواسعتين، فتغمر اللوحة وتضفى عليها مزيدًا من المهابة والجمال الشفيف، يطيل النظر فى ملامحها فيتدفق الكلام على لسانه، يصبح يمامًا أبيض، يحط بأمان فى حنايا القلوب والأرواح.


من الجنوب يأتى مسافرًا نحو الشمال، آلاف الأميال يقطعها فى رحلة لا تنى تتجدد مع الأيام. النهر العجوز، صبيًّا لم يزل، يوزع الخير والنماء أينما ارتحل، ويلتئم حوله المحبون حيثما حل. على ضفافه يلتقيان. أنيقة فى بساطة، جميلة فى غير تكلف يكسوها خجل ريفى، قوية القوام تميل إلى الطول بمقاييس النساء. كان القمر بدرًا مكتملًا، والسماء صحو ضَحوك. نسيم الصيف كالصبا، ونور القمر غلالة فضية منثورة على ماء النهر، وصوت عبد الوهاب يصدح هادئًا شجيًّا:
مسافر زاده الخيال 
والسحر والعطر والظلال
ظمآن والكأس فى يديه
والحب والفن والجمال
تبتسم فيتورد الخدان وتبرز الغمازتان فى جانبى الوجه الجميل الطلعة. يتناجيان، يتهامسان، فتتفتح كل مسارب النور، وتزهر كل ورود الكون. يزدحم الفضاء بجلال جمالها. ترق القلوب المترعة بالرضا، وتخشع النفوس، فتسيل دموع الامتنان عذبةً بين شفاة ترتعش بالحمد.

كانت للتو قد أنهت تعليمها المتوسط، فيما لم يزل هو يدرس بالجامعة. تقدم لخطبتها. متوترًا مؤملًا يجلس قبالة أبيها الذى يميل إلى القصر، مدكوك القوام، خشن الملامح، على شىء من الغلظة، نظراته واخزة، شديد سواد العينين. الكلام خفيض، ووقع الأقدام أشد انخفاضًا، وهو يلقف أنفاسه بصعوبة. سأله الرجل عن استعداداته. أجاب أنه يعمل إلى جانب دراسته. أجاب الرجل أن ذلك ليس كافيًا وأن حب التلاميذ لا يؤسس بيتًا ولا يؤكل خبزًا وأن طلبه مرفوض. 


عرق بارد غزير يتحدر من أعلى القفا متدحرجًا ببطء يلمس فقرات الظهر. مكشوف العورة تأكلنى العيون. مائلًا للأمام منحنيًا أضع يدىَّ « لا إراديًّا» أمام عورتى لأداريها. أتحامل على نفسى، لا تقوى قدماى على حَملى. قلبى مُفعمٌ بالحزن والخجل أغادر المكان.


كنت أدرك على نحو خفى أننا فقراء، وأننى أخفى بؤسى داخل البنطلون المكوى والقميص حديث الموضة، لكننى الآن أعرف تمامًا معنى الفقر مُجسَّدًا. أن يتم انتزاع أغلى ما تملك فى حياتك من بين يديك دون أن تكون قادرًا على التمسك به. تحملنى أمواج عاتية، تلقى بى على شاطئ صخرى مهجور وتتركنى وحيدًا، وحيدًا وحزينًا.


زوجوها لعريس جاهز.
كانت سيناء قد عادت إلى حضن الوطن الأم: حزم أمتعته القليلة ورحل إلى شمال سيناء، ومن يومها انقطعت عنا أخباره تماما. قاطعاً كل من عرفهم. قاطعاً الدنيا بأكملها وعاش وحيدًا معزولًا.سنوات كثيرة مضت حتى عرفت بالصدفة البحتة رقم هاتفه المحمول وتواصلنا. 


فى آخر مكالمة هاتفية، كان متدفقًا سعيدًا، وهو يحدثنى عن آخر إبداعاته فى فن البورتريه الذى تخصص فيه وأتقنه، وكيف أنه صار يرسم بألوان الزيت وأنه أحرز تقدمًا كبيرًا فى هذا المضمار، واتفقنا على أن نلتقى ليطلعنى على ما أنجزه وهو كثير. 


هذه المرة، ظل جرس الهاتف يرن طويلًا طويلًا، وعندما جاءنى الصوت كان صوت ابنته ضعيفًا واهنًا. قالت: أبويا تعيش أنت. 
دمعة ساخنة فرت من عينى. أغلقت الهاتف وفتحت علبة الشيكولاتة الصفيح الصدئة المدورة. حكايات من الزمن القديم تنهض من النسيان حزمة من شرايين حية. ذكريات تضرب خاصرتى من غير رحمة.هأنذا أعدو من غير حسبان، متجاوزا سنينى، عائدا لتلك المنطقة السرية من ذلك الزمن البعيد. تتقافز أمام عينى صورمن ذكريات قديمة، فيما ينساب صوت محمد عبد الوهاب شجيًّا أسيانًا:
لما أنت ناوى تغيب على طول
مش كنت آخر مرة تقول


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة