اللوحات للفنان: جميل شفيق
اللوحات للفنان: جميل شفيق


المتوكل طه .. غَزّةُ؛ يَجْرَحُهَا المَاءُ!

أخبار الأدب

الإثنين، 01 أبريل 2024 - 02:50 م

غزة؛ مأتم كامل السواد، مئذنة مكسورة، جرسيَّة بلا ناقوس، وهى صلابة الماء، وصليب الحلوى، وخنجر الكابوس. 
غزة؛ جنازة الحمامة، نعش العروس، رمح الوثنى البغيض، رقصة المذبوح على تلّة المغيب، انتظار الطعنة، وأصيص الزهر الأسود..
غزة؛ مناديل الدخان، سعفة العويل، فاحشة الشقيق، وبيت العزاء المبعثر فى الأوحال، أخدود الزجاج الكاوى، لطمة البنت على أبيها، تغريبة الضياع والنزوح، رماد الحكاية، ورق المصحف المُرمّد، وجه العذراء المخدوش، وسقوط السقف على الرضيع..

وغزة؛ ما ستقوله الجدَّات للمهد الفارغ، نحيب الشيخ على أطلال العبث، شقُّ الثوب على أخبار العدم، وغزة لبن الأطفال المسموم، هجرة البراءة إلى الغابة، شراب التوت المهروق على جثة السفرجل، وغزة آخر أبجديات الخراب، وأول عشبة فى البعيد وعناد الغروب. 

اقرأ أيضاً | أمل الفاران.. الدفتر

وغزة على بالى، أيام ذرعتُ دروبها، وكان الشجر يمدُّ يده مصافحاً الغريب، لم يكن غريباً تماماً! كان سلسال جلنار على صدر ابنتها، والفجر خِمار الخجل، والزفَّة فى أوج الطوفان.
غزة؛ قنديل الدنيا المكسور، وشَعر البنات الممزّع ، والفستق المحطًّم مثل أسنانها الهامسة.

غزة؛ حريق يندلع ولا ينطفئ، من السوق المُدمَّر إلى القبَّة المتهاوية، ومن الشمال الظمآن حتى البرتقال المشروخ، ومن توتها المرضوض إلى ساحات القصف الأعمى.

غزة ورشة الشيطان، أسلاك الظلام العارية، ومطحنة الإخوة المتفرِّجين على شريط المحرقة اللا ينتهى..

وغزة حمَّام الدم العالمى، رغوة الأيدى القذرة، فراغ لاستطالة الفولاذ، فكٌّ مفتوح للطيور والتائهين والمطمورين، وغزة نبض يتمتم تحت أسداف الركام.

وغزة خلاف الموج مع اليباب، والعقارب الراجعة إلى الصفر، وهى قارورة الخلود، تراجيديا الحنين الضارى، كوميديا الوعى الزائف، وغزة دكة غسل الموتى، منصة الغاضبين، ذبول المندلينا على أمِّه النجمة، وغزة كابوس النهار، ووسوسة البهيم، وضربات عِرق الرقبة، وهى آه الضباب الحارق، رشقة الوريد، ركوة القهوة المنسية، لبن التين، ريق العذراء ليلة دخلتها، ورائحة الشاش المدبَّغ بجرح الغشاء، وغزة نداء العرائش على الراحلين، نَحلة الدالية الشقراء، وغزة جمرة فى جيب صدرى.

وغزة لهجة المتعبين، وكتابى المفتوح على احتمالات الشغف.
وغزة؛ جليلى ورسولى الشاب ، والجلجلة المتوقعة حتى نضفِّر تاجاً آخر من النعناع والمنثور، ونُحيل طريق الآلام ممرّاً للزفاف، وغزة المنادى فى دلاله السحرى.

استيقظت خُزاعة، مشّطت شَعرها، شربت قهوتها، وأكملت زينتها..
ستبدأ الحفلة!

امرأةٌ يجرحها الماء، ينسرب على بياضها، فيسقط الورد على الرخام.

فراشةٌ مغموسة بنارها، تطير، تضرب جناحيها، تخبط بيأس، وتقع زهرةً كالثلج.

العصفور الذى مدَّ منقاره الطرى لم يدرِ أن نسغ البرتقال قد فاح، فانطلقت النجوم لقطف الجمرة من فمه، فتزوج البروج، وصارت المجرَّات أعشاشَه اللامعة.

امرأةُ مخيم الشاطئ، التى وقفت على الساحل الأزرق جمعت البَحْر فى يدها، وأطبقت عليه، وقدَّمته وردةً إلى البيوت.

المسجدُ البيتى الصغير فى عبسان يعجُّ بفوضى الكلمنتينا.

الشهدُ يفيض فى زفّة العروس، يسأل المارّةُ: ماذا شرِبَتْ؟
فيضحك الليمون.

اشترت المرأةُ كلَّ ما عُرض عليها فى السوق،
 وخرجت مبتهجةً منه! لقد أقسم لها التاجرُ بالملثَّم.

بالقرب من قبر معين بسيسو، تتحسَّس الفرسُ ضلوعَها، فتخرج أصابُعها مسكونةً بالرعود.

وأنتَ على عتبات غزة، يقول لك الشجر: ستدخل الجنَّةَ مرتين.

الموت مِلكٌ للجميع، مثل الكلمات..

ماذا يريد المرء أكثر من الحياة؟
مجرد حياة!

عيوننا لا تكترث بما ترى.. لأنها رأت غزة،
 وستراها، ثانيةً! 

ليس هناك ما يدعو لليأس..

الأعداء يرون بعضهم جيداً، أكثر مما يفعل الأصدقاء.

عندما تقرأ حروف كلمة»غزة»، كأنك تحدّق فى جرحٍ مفتوح.

بالقرب من كنيسة المعمدانية، احتار الشيخُ من أى غصن يصل إلى المحراب.

فى البريج ذاب البرقُ فى السكر، ففاض الوادى.

فى غزة تبكى من الجَمال، وتقتلك الحسرة.

فى بيت لاهيا يسمع الناسُ صهيلَ حصان جيفارا غزة! وقد رأوه على سرجه قاصداً الجنوب.

بعد الحرب ما قبل الأخيرة؛ فى المدرسة حمل تلاميذٌ حقائبَهم، وظلّت حقائب كثيرة لا يعرفون أصحابها!
فى اليوم التالى، فتحها المعلم، فوجد فيها حزمةً من زهر أسود.

غزة اسمٌ لآلهة الوجود.

تَرَكتْ الأُمُ منديلها فى الدار، فصار دُغلاً للأعشاب.

منذ اليوم سيكون صعباً على الغُراب أن يُحَلِّق فوق القطاع.

المناديل، الرقصات، الحلوى، الزغاريد، الدموع، تهاليل الرجال، الِّزينة الساطعة، فَرَحٌ أم عُرْسُ شهيد؟

واختتم الحكواتى ليلته، ووعد المستمعين بأن يكمل الحكاية غداً، لكنهم رفضوا، وأجبروه على أن يختمها الليلة.

فى الشجاعية لا بُدَّ للبدرِ من خِمارٍ حتى يراه الناس.

فى مقهى مراكز الإيواء أصبح الحلمُ لعبتَهم الوحيدة.

الحجارة فى غزة لا تفنى ولا تُستحدث، لكنها تتبدَّل من أغنية إلى أسطورة.

الضبع مَنْ ينهش لحم الشهيد، ويلوِّث روحَه باللُّعاب الحارق.

يكاد الختيار أن يفقدُ عقله!
كيف غفا، فدخل الأغرابُ على خيوله إلى البلد!

لقد كان النخيلُ رجالاً، خلّفوا مجداً، أضاعه الشوكُ وابنُه العوسج.

من لوح الحروف فى أزقة غزة، خرج المسيحُ إلى الطرقات، فأخذه الأطفالُ إلى حارةٍ قريبة، ليرى دَمَه هناك.

واستيقظت النصيرات، فَرَدَتْ جدائلها،
 كسرت المرآة، وتهيَّأت للعاصفة.

غزة أوّل تجربةٍ للخلود.

تأتى الحُور إلى المغازى، ليتعلَّمن تقاليدَ الفردوس.

قدّم الجَمالُ اعتذارَه للمدينة، واستسلم لها.

الانفجار فى جباليا أودى بالعشرات فى باب العمود.

بيت حانون لجِنين: متى نبكى فرحاً؟

الصورة التى لم نجدها، لم يكتبها العسقلانى، بعد!

هل تسمعهم يا ابنَ عربى،
لقد بلغوا حدَّ الكشف ومقامَ النُّور!

المُدِّعى الجاهل أو المأجور وحده مَنْ لا يُراجع النصَّ المُلْتَبس.

وَصَمتَ صديقى الشاعر، ونحن فى مطعم على الشاطئ، وسَرَح، ثم عاد!
ما الذى أخذك منَّا يا صاحبي؟
ردّ مستغرباً: ألم تسمع مقطوعة الصيَّاد؟ لقد رقص الشباك.

على ماذا يتشاوف هذا الطاووس؟
لقد هزمته الظلال.

رجعت الغيلان وفى قلبها غُصَّة،
كان الراقصُ ساحراً، وموته فاتناً.

من ألواح البحر... وُلدَتْ أشجارُ البركان.

فى ساحة السرايا رأوا الجزَّار يهرب والحِبال فى أَثَرِه.
وأخيراً، أخذوا الجَنين المولود الوردى الصوفى المُعافى... وحقنوه بالخريف! فالتبس الأمر على الناس، وعادت بابل من جديد.

غزة فزَّاعة الخائف، ومقصلة الفزع، وياقة الجنرال الأجير،
وغزة مداخلة الكارهين وارتعاش الحقد مع الرصاص..
وغزة عمامة الكفر وقناص الحوامل ومخاض الولادة المشوَّهة، وقابلة الأسكدنيا والقراصيا الحمراء، ورؤية السجود والقمح، وغزة شامة الكون.
القرارة مجنونة السياج، وطرحة اللوزة، وريحانة العتبات، ومعبر سجادة النعمان، ومكنسة الجنة...
وحى الدرج فاتحة الأطلس، وسورة البسيطة، وترويدة الرجع المذبوح.
وبيوت حى الرمال كنزة الصوف التى غزلتها أمى قبل اغتيال الطاووس.
بنى سهيلة تصفيق النار المُرابية، وصفقة الزلزال مع الخراب، وأغنية الغراب..
وحى النصر طيْب الصوفى وبردة المعتكف، ومنبر العرفانى المفتوح، ومحراب البلّورة المصقولة.

يزجِّجون حاجبى رفح وقد سَملوا عينيها، وسرَّحوا جدائلها بعد أن جزُّوا رأسها وصبُّوا العطر على قمصانها، وهى عارية فى خيام العار.

نخلة الغريب فى الأندلس تبكى أمَّها فى القطاع.

الدنيا دون غزة ناقصة وبشعة وخرقاء.

غزة فرس الخرافة.. بلا حصان.

أنا ذئب المدينة الأليف، أشمُّ دمها الذى يخرُّ فى القصب،
وأنا مسحراتى النهار، أوقظ الناس من النزيف،
وأقدِّم لهم وليمة الحوت،
وأدقُّ على صفائح الأنقاض،
وأنتظر العشبة التى رنَّقها الشريان.

دم الطريدة الدافئ يتصبَّب.. والضباع تتلمَّظ بقهوتها الحمراء.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة