اللوحات للفنان: أحمد نوار
اللوحات للفنان: أحمد نوار


نجوى العتيبى .. قصتان

أخبار الأدب

الإثنين، 08 أبريل 2024 - 05:57 م

التورط فى الأجل
أراد تدوين الأفكار التى تأتيه وهو نائم قبل أن تفزعه بصفير الشاحنة والتحامها بأجزائه. كل يوم كان ينسى تلك الأفكار فلا يذكر سوى أثرها الرائع على يومه، وكل يوم يعتذر لنفسه عن فقدانها، ويتحججُ بموته هناك فى المكان الذى وجب عليه التقاطها فيه، وأن أطرافه وخلاياه انعجنت بتلك الشاحنة المسرعة فكيف سيتذكرها.

 لا ترد عليه الأفكار بشىء، إنما تعترضُ على حظها معه عبر صداع مزمن، فينتابه ألمٌ مستمر لا يهدأ إلا حين يصعدُ على عتبات المنام مجددا، فى رحلته للقبض على فكرة رائعة كاملة.

 يباغته الحلم ذاته كل مرة، فلا يتذكر غير خروجه من جسده ورؤيته تحت الشاحنة. ولم يتدخل لإنقاذه فيعيده إلى الحياة سوى صوت منبهِهِ، ذلك المؤقت الذى يصيح لمرات ومرات.. فلا يمل من إعادة تشغيله لنفسه.. كأحلامه تماما.

اقرأ أيضاً | وفاء السعيد.. المستقبل كغرفة انتظار

 مؤخرا؛ دأبَ على ضبط المنبه قبل الموعد المتكرر بدقيقة، فلا يذكر أين قرأ عن آجال الأحلام التى لا يتجاوز واحدها ثلاث ثوانٍ على أكثر تقدير، فقرر أن يسبقها بسبع وخمسين ثانية ليلتحم بها على طريقته!

 لكن الكوابيس ظلت تأتيه قبل الموعد بثوانٍ، وصار المنبه ينقذه من صفير الشاحنة وحسب، وصار يراها فى مناماته فاهًا مفتوحًا يركض باتجاهه، فَمًا عريضًا يطلبه وحده، منحرفًا عن الخط السريع فى مشهد مرعب.

 واظب على تقديم دقيقتِهِ، وواظبت الكوابيس على ملاحقته.. شعر بنجاح خطته حين كفت الشاحنة عن الصفير، وظلت تبتعد فى الأحلام مترا مترا حتى صار يسمع صفيرها من بعيد..
 لم يعرف ما الوقت المناسب بين التخلص من صوت الشاحنة وموعد الأفكار الرائعة؛ فأحيانا يصحو قبل موعدهما سويا فيفوتهما ويحزن، وأحيانا يصحو وأذنه تؤلمه من إزعاج الشاحنة التى اقتربت أكثر مما ينبغى؛ فيضطرب يومه بأكمله. لكنه لم يفترْ عن الثناء على الله لإفلاته حتما من الانسحاق تحتها حلما.

وهكذا، حافظ على تقديم ساعته حتى انعدمَ نومه، وقل تطلبُهُ للأفكار الرائعة، فأصبح يغفو بشكل متقطع على الأريكة وهو يمسك بهاتفه، خائفا من اختلال الوقت والوقوع تحت الشاحنة.
 أصابعه دخلت المنافسة فصارت تقطع خط السباق قبل أن يصيح المنبه، وعيناه كذلك إذ صارتا متأهبتين لصد الشاحنة عن الخط السريع قبل أن تنحرف تجاهه.

وكلما توانى عن الاستعداد للسباق رأى الشاحنة غاضبة أكثر؛ فلا يسعفه الوقت للهرب منها فى الحلم.. فصار يجتهد فى الهرب منها مرة بعد مرة حتى اختفت تماما واختفت تلك الأفكار الرائعة معها.

وعندما حصل ذلك؛ ما عاد المنبه ليصيح، وما صار النوم خيارا متاحًا، وأحس بأن الراحة التى يحلم بها قد وجدها أخيرا.. إذ باغتته الشاحنة، فرأى الأفكار الرائعة كلها تجتمع معا فوق جسده، وهى تحدق فيه دون أن تقول شيئا.. والدماء التى تسيل من كل مكان.
 

علاقة عن بعد
لا أجد اسما لعلتى كأن المعاجم قاصرة. ثمة مشاعر غير مبررة أحيانا، تجتاحنا كالمرض أو كطقس عابر، وأحيانا تخذلنا المصطلحات فلا نصِفُها بشىء يُعرَف فورا، ولعل الأمومة لا تحتاج إلى تبرير، بالتأكيد هى كذلك…! هكذا يشعرنى صوتُ طفلِ جارنا حين أسمعه مهتاجا ممن حوله، فأُحس بأننى أُم لصغيرٍ لم ألتقِ به ولا أعرف كيف يكون، لكننى أسمع صوته معترضا دائما، وقلما ضحك.

تختلط علىَّ الأزمنةُ أحيانا؛ فأصحو من نومى لأبحث عنه، أو أعد له كوب حليب دافئ، لا ألبث أن أشربه وأنا أضحك، ثم أربت على بطنى مستغرقة فى منامات اليقظة.

أفطن متأخرةً لتوهمى وجوده داخل المنزل، لكن الحنان لا يستأذن قلبَ أحد، ويدفع بالمرء إلى التصرف بعفوية قد يعجَبُ هو نفسه منها. هو شعورٌ نقى لا يمكن استزراعه، بل ينبتُ فجأة فى الموسم المناسب، كنبتةٍ برية لا تنتظر يدًا.

لكنه كان طفلا حقيقيا رغم تعذر رؤيتى لوجهه، أسمعه يصرخ دائما قرب نافذتى بمعجم أسماء عريض، عرفتُ أنهم إخوته الذين يخذلونه رغم جهلى باسمه.

عوقب فى مرةٍ لمناداتـه أبيه باسمـه دون كلمة «بابا». حــاولتُ إيهامهم بتدخلاتى فألقيتُ بكلمة «بابا» نيابةً عنه، لكننى فشلتُ حين سمعته يبكى.. لا شك بأنه عوقب مع تدخلى.

يثير عطفى دائما وأرغب بتهدئته وإعطائه ما يريد، ليس لأننى أرغب بإسكاته ثم أستأنف نومى، بل لسبب مجهول ظل يُشعرنى بأمومتى له، كأن المشاعر لها أواصرُ خاصة تصِلُها ببعضها بطريقةٍ مجهولة. وهذا الشىء يزلزنى حتى بدأتُ فى محاولاتٍ عديدة للفتِ نظره.

ألقى له أحيانا ببعض الحلوى الصحية اللذيذة، أو رقائق البطاطس لينتبه لى، وربما حسبها تسقط من السماء مستبعدا صلته بمشاعرى؛ إذ سمعته يناديها ذات مرة أن تعطيه كُرَةً معدنية.

 يُثار جنونه بأشياء لا أفهمها؛ فيصرخ بكلمة واحدة فقط ويصر عليها ثم يبكى، يلح بتكرارها كأنه يستدعيها من المعجم لتحضر حالا، فيصرخ مثلا فى الصباحات الشتوية بأنه «بردان… بردان»، وفى منتصف الليل بـ«جوعان… جوعان»، وحين يسحبون منه كرته بأنه «زعلااااان».

 أسمعه يقول أحيانا بأنه سيركلهم بكرةٍ ثقيلة جدا فى أقرب فرصة، فتتدفق الدماء فى رأسي.. أود الصراخ بهم أحيانا: «اتركوه وشأنه».. فهو يعيش على توقيته الخاص مثلي... إنه طفلى بطريقةٍ ما.

لا أعرف اسمه، وحاولتُ التركيز لالتقاطه مرارا.. خمنتُهُ كثيرا وفشلت.. وظللتُ أرخى سمعى أحيانا، وأتخيل فى مرات أخرى اسمًا مناسبا له، اسما يليق بذلك الصوت الغاضب الذى أجد ركلاته فى بطنى كلما اضطجعتُ... فأربتُ عليه ليهدأ، ثم أفكر باسمٍ مناسب لهما، وكم خذلنى معجم الأسماء كما خذله.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة