محمد شعير
محمد شعير


محمد شعير يكتب : مرآة للثقافة المصرية فى صعودها... وانحدارها أيضا أخبار الأدب: 365 معركة فى العام

أخبار الأدب

الخميس، 20 يوليه 2023 - 03:05 م

ثلاثون عاما على صدور أخبار الأدب». عمر كامل، ونادر أيضا لجريدة ثقافية استطاعت الصمود كل هذه السنوات، وتجاوزت الصعوبات والمعوقات التى كان يمكن أن تحول بينها وبين الاستمرار. ولم تغب عن الواقع بل اشتبكت معه، وكان هذا الاشتباك هو شرط حيويتها وتجددها، ومن ثم استمراريتها. 
كانت سنوات السبعينيات وبدايات الثمانينيات فى مصر، سنوات جدب ثقافي، أغلقت تقريبا كل المجلات الثقافية، وأستولى اليمين الثقافى الذى يقف ضد التجديد والحداثة على ما تبقى منها.  وقتها توزع المثقفون المصريون بين العديد من المنافى فيما عرف بـ «التغريبة الكبرى للثقافة المصرية». ولم يعد أمام من تبقى من المثقفين، والأجيال الجديدة من الكتاب سوى مجلات الماستر ذات التأثير الكبير والانتشار المحدود،وشهدت هذه السنوات صعود تيارات الإسلام السياسى والحركات الدينية الأصولية فى العالم العربي، كان العنف فى كل مكان تقريبا.

هكذا صدرت أخبار الأدب، وسط مناخ يعادى حرية الإبداع، تتزايد المحظورات وتتسع بينما تتراجع سلطة الثقافة وتتقهقر أمام ذلك الزخف. 
فى أكتوبر 1992 اجتمع رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم إبراهيم سعده بالروائى جمال الغيطانى من أجل تكليفه برئاسة تحرير أخبار الأدب. فى الاجتماع سأله سعده: فى كم صفحة يمكن أن تصدر أخبار الأدب؟


أجاب الغيطاني: 24 صفحة
وكان الغيطانى يتمنى أن يكون العدد أقل من ذلك. 
أجاب سعده: كل إصدارات المؤسسة لا تقل عن أربعين صفحة، وأخبار الأدب لن تقل عن ذلك أبدا.
فى يومياته يكتب الغيطاني: «بعد انتهاء الاجتماع عدت إلى مكتبى لأتأمل فى هدوء وخوف المشروع الجديد، وكلما تصورت الرقم والصفحات أتوجس ويتضاعف حذري، وعبر شهور عديدة كنت أسمع تلك الصيحة: أربعون صفحة. ومن أين لكم بالمواد التى يمكن أن تغطى هذا الكم أسبوعيا؟ ولكن دارت عجلة العمل».


ما أدهش الغيطانى أنه خلال شهور الإعداد، فوجئ هو وفريق العمل معه بآلاف الرسائل البريدية تحمل نصوصا إبداعية، ودراسات نقدية وترجمات، واقتراحات للجريدة الجديدة يكتب فى يومياته: «يتدفق نهر الإبداع فى كافة المجالات، ونسعى إليه، نحنو على ما يحمله ونحاول قدر الإمكان أن نستوعبه، لقد فاض النهر وطغي، بحيث ضاقت الصفحات الأربعون بالمحاور التى خططنا لها، حتى أن النصوص الإبداعية التى تلقيناها تحتاج وحدها إلى ثلاث سنوات كاملة لنشرها»...وهكذا بدأت التجربة.

كان جمال الغيطانى واعيا منذ تأسيس الجريدة أن أى تاريخ للنهضة الحديثة فى العالم العربى لا يمكن أن يغفل التراث الحضارى الذى خلفته مجلات مثل الثقافة والرسالة والمجلة الجديدة وغيرها، وأن أسئلة الحداثة بدأت من الصحافة التى استوعبت أفكار طه حسين والعقاد والمازنى وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى.. وآخرين، وأن الصحافة هى التى حملت هذه الأسئلة الى الجمهور الأوسع بعيدا عن أسوار الجامعة أو نقاشات النخبة فى القاعات المغلقة، وكانت مجالا لمعاركهم التى أسهمت فى تطوير المجتمع أو على الأقل فى وعيه بذاته وقدراته. 

 


كما أدرك أيضا أن كل مطبوعة تخرج الى الواقع، ما لم تكن هناك حاجة أساسية تلبيها أو رؤية صحيحة تعبر عنها فإنها تولد ميتة. ومن هنا كانت أخبار الأدب هى امتداد لتجارب صحفية ثقافية سابقة، هى ابنه مجلة الرسالة والثقافة والكاتب المصري، والمجلة الجديدة، والمجلة، وهى المجلات التى كان يحررها محمد حسن الزيات وسلامة موسى ويحى حقي، فضلا عن تجربة ملحق المساء الأدبى الذى كان يحرره المبدع الكبير عبد الفتاح الجمل والذى أسهم فى تبنى تجارب جيل الستينات فى الأدب المصري. كان الدرس الأول فى هذه التجارب هو أن الثقافة ليست «قطرية» وإن نجاح أى مجلة او جريدة ثقافية يعتمد على قدرتها على الانفتاح على التجارب الإبداعية الجديدة فى العالم العربى كله وليس فى مصر وحدها، ومن هنا لم تكن تجربة أخبار الأدب مصرية خالصة وإنما عربية أيضا.


لم يكتب الغيطانى فى الأعداد الأول بيان تأسيس للجريدة يبين الهدف منها أو اتجاهاتها إذ ترك مساحته فى العدد الأول لنجيب محفوظ الذى كتب يحيى الجريدة الوليدة، وما يتمناه ويتوقعه منها: «آمل أن تكون ميدانا فسيحا لالتقاء الأصالة بالمعاصرة، وفتحا شاملا للإبداع والنقد والقضايا الفكرية. كونوا شعلة لنهضة جديدة». بعد عام كتب الغيطانى ما يشبه الدستور الذى يحكم العمل فى أخبار الأدب: «وحدة الثقافة العربية التى تستمد قوتها دائما من تكاملها، احترام الدين والوقوف فى وجه محاولات توظيف الإسلام بأهدافها الصغيرة التى تضعه – ظلما- فى موقع النقيض من حرية الإبداع، تنمية الإحساس بالجمال كقيمة توشك أن تختفى بعد أن اعتادت العين القبح أو كادت تعتاده، وأخيرا الانفتاح على كل التجارب الإبداعية الهامة فى أنحاء الوطن العربي».


عبر هذا الدستور خاضت الجريدة معارك لا حصر لها دفاعا عن حرية الإبداع، وضد منطق الوصاية، منذ الأسابيع الأولى هاجمت فتاوى التكفير ومواقف شيوخ مثل الغزالى ومحمد عمارة من الثقافة، وضد مصادرات الكتب التى تقوم بها مؤسسات رسمية. انحازت الى نصر أبوزيد فى أزمة ترقيته الشهيرة مع جامعة القاهرة والتى انتهت باختياره المنفي، وفى معارك مصادرة رواية وليمة لأعشاب البحر أو غيرها من معارك، فضلا عن حوارات وسجالات فكرية بين أبرز الكُتاب فى مصر والعالم العربي. كان شعارها 365 معركة فى العام، أى معركة كل يوم. ولكن لم تكن المعارك الثقافية وحدها هى شعار الجريدة، وإنما تقليب التربة كما قال الغيطاني، أى البحث عن الأصوات الجديدة فى كل مجالات الأدب وتقديم نصوصها، وعرض هذه النصوص على النقاد للكتابة عنها، ومثلما أسهم الملحق الثقافى لجريدة المساء ومجلة المجلة فى تقديم جيل الستينيات الأدبى ونشر أعماله، أسهمت أخبار الأدب فى تقديم جيل التسعينيات، أو تقديم الأفكار الجديدة فى النقد والإبداع فى كل العالم. 

كانت تجربة أخبار الأدب منذ تأسيسها أشبه بخشبة مسرح، يؤدى فيها الجميع دورا غير مكتوب، مسرح مرتجل، تدرك الجريدة أخطاءها أولا بأول، وتصححها على الفور. حالة من التجريب المستمر فى الإخراج الفني، والتبويب، والصياغات والمادة المنشورة …واختيار الكتاب وغيرها. لم تكن تجربة جامدة، أو تتعالى على النقد الموجه إليها من الداخل (فى اجتماعات التحرير) قبل أن يكون نقدا خارجيا من مثقفين أو كتاب.. كان لدى الجميع إدراك أنك لن تستطيع أن ترضى الكل. فى ذلك السياق عمل الجميع وفق قاعدة من الثوابت التى اتفقوا عليها.. كان أهم هذه الثوابت أننا ضد كافة أشكال للرقابة، ضد الفساد الثقافي، مع تبنى المبادرات الجديدة فى الفن والأدب، أن نظل على يسار المؤسسة الثقافية الرسمية، ما يسمح بوجود مساحة من نقدها. لم تفرض هذه الثوابت على أى من محرريها بل كان الجميع على توافق وانسجام فكرى واضح، وإن احتفظ كل محرر بأفكاره الرئيسية. 


وربما كان هذا "التقارب الفكري" وتلاشى الفوارق الإيديولوجية بين محرريها هو الذى حمى الجريدة لتصبح مرآة حقيقة للثقافة المصرية فى صعودها وانحدارها.
ربما اسهم ذلك فى تبنى أفكار راديكالية أحيانا، ولكن لم يحدث انقسام واضح حول القضايا الرئيسية فيما بينهم، وهو ما مكنهم من اتخاذ مواقف متشابهة فى كثير من الأحيان وخاصة فى العام الذى أستولى فيه الإخوان على السلطة فى مصر، كان هناك اتفاق واضح على الالتزام بثوابت الجريدة مهما كلفهم ذلك. وبالفعل كما يعرف الكثيرون كان هذه العام كئيبا، توقف فيهم الجميع عن العمل عندما استحالت قدرتهم على الالتزام بالثوابت التى تأسست عليها الجريدة. 

كما كانت أخبار الأدب تجربة خاصة، كان جمال الغيطاني- أيضا- رئيس تحرير مختلفاً. كان مكتبه مفتوحا دائما، ليس لديه سكرتارية، لم تكن لتلتقيه وفق موعد مسبق. كما لم يكن ليغضب لاختلاف الآراء، التوجهات، أو يفرض علينا وصاية ما. فى مكتبة ألتقينا مئاتاً من المبدعين العرب الكبار مثل أدونيس ومحمود درويش، بل أسماء ذات ثقل عالمى مثل أورهان باموق، أو باولو كويلو. كان اجتماعنا الأسبوعى فى الثانية عشرة كل خميس، نبدأ بمراجعة العدد الذى خرج لتوه من المطبعة، ما الذى ينقصه ليكون أفضل؟ ما الأخطاء التى وقعنا فيها؟ كيف يمكن تلافيها؟ ثم يتطرق الحديث إلى العدد القادم موضوعاته، وأهم الأحداث التى ستتم تغطيتها، ثم يتطرق النقاش الى الأفكار الاستراتيجية للأعداد القادمة والملفات التى يجب العمل عليها. وحينما يكون مزاج الغيطانى رائعا، تبدأ الحكايات، لم تكن مجرد قصص يُزجى بها الكاتب الوقت، لكن تتسع الحكايات ليحلق بنا شرقا وغربا. ولا ينتهى العمل دائما بصدور العدد أو بالاجتماع الأسبوعي، على الهاتف نتابع ردود الأفعال، ونتلقى التكليفات، ولا تنتهى المناقشات أبدا. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة