د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران


يوميات الأخبار

نوم القيلولة فى بون

د.محمد أبوالفضل بدران

الخميس، 20 يوليه 2023 - 08:01 م

إن الجو يفرض على الألمان الاستيقاظ مبكرا والعمل وقت الصباح وأخذ قيلولة وقت الظهيرة فمع الحر الشديد لا يقدر الناس على الأداء كالمعتاد لوجود مشكلات فى التركيز وبهذا صرنا فى القيلولة سواء

• الإثنين

لم أنم فمع الساعات الأولى لصباح الأثنين كنت بالمطار أجتاز البوابات كى أستقل الطائرة إلى صوفيا..

بمجرد أن جلست على الكرسى رحت فى إغفاءة لعلى أستريح، أى مشاعر تلك التى أحملها مع اقلاع الطائرة... الرحيل السفر...الوداع مبتدأ الألم والطريق قصير مهما طال، والنهايات تبدأ بالبدايات.

بدت الطائرة مسرعة -هكذا خُيّل إلى- وأنا أنزل مطار صوفيا كى أمكث فيه ساعات للسفر إلى ألمانيا...بدت صوفيا كعروس فى ليلة زفافها.

• الثلاثاء

وصلتُ إلى ألمانيا.. كان مطار فرانكفورت كما عهدته، الوجوه المبتسمة،والوجوه الجادة أيضا، هذا المطار مدينة كاملة تحت المطار محطة قطارات تنزل السلالم الكهربائية لتستقل القطار المتجه إلى وجهتك والمترو والباصات أيضا، مئات الطائرات تهبط وتعلو فى أرضه وفضائه يوميا، وجدت بعض الأصدقاء فى انتظارى أخذنا القطار أنصح كل مسافر لأوروبا أن يسافر بالقطارات فى تنقلاته كى يستمتع بالجمال، فاملأ عينيك بالجمال.. بدا نهر الماينز متعانقا مع نهر الراين بينما راح القطار يخط سطرا على ضفاف نهر الراين.. بدت قلعة Lorely لتذكرنى بأسطورة «لوريلاى» التى سأحكيها فيما بعد ومررت على مدينة Boppard بوبارد التى كانت أول مدينة ألمانية أعيش فيها لتعلم اللغة الألمانية وهى مدينة أشبه بقرية تقع على نهر الراين وبها معهد جوته بعيدا عن صخب المدن الكبرى ... وصل القطار إلى الحبيبة بون...صحوت مبكرا ورحت نحو جامعة بون التى درَسْتُ ودرَّسْتُ بها، لم تكن السيدة دنتر آنذاك موجودة، فقد تقاعدَتْ، كانت هناك سكرتيرة جديدة،.. حيانى أستاذى البروفيسور اشتيفان فيلد وتحدثنا حول عدة نقاط علمية وصحبنى للغداء فى مطعم الجامعة
• أربعاء بون

كان هناك شىء من الفراغ تركه سفر صديقى اشتيفان كوت الذى تصاحبنا معا فى رحلتنا للدكتوراه على يد مشرف واحد بجامعة بون وذهب مديرا للمعهد الألمانى بتركيا. فرحتُ كثيرا برؤية الصديق المستشرق كرستيان سِزكا الذى يعد من أفضل من يتحدثون العربية وصار أخا وحرمه أختا عزيزة علي.
وتذكرتُ المرحوم أ.د. كمال رضوان المستشار الثقافى المصرى ببون عندما كانت بون عاصمة ألمانيا قبل أن تنتقل لبرلين، وكان عالما كبيرا ومحبا لمصر وتذكرتُ حديثا معه حول مصر وألمانيا ولماذا هناك بَوْن شاسع بين البلدين كان رأيه: فى مصر ينجح الأفراد ويفشل المجموع بينما ينجحون هنا كفريق، وافقته فى هذا التحليل تماما.

القيلولة: الموتة الصغرى

مذ كنت طفلا كانت نومة القيلولة الموتة الصغرى طقسا مقدسا فلا حركة ولا صوت، ينام أبى والبيت كله ساعة الظهيرة لنصحو على أذان العصر ثم يأتى شاى العصر وقد حافظت على نومة القيلولة وشاى العصر، واليوم الذى لا آخذ فيه قيلولة ولو نصف ساعة أغدو متعكر المزاح غير قادر على مواصلة اليوم وأظل فى فتور حتى أنام ليلا، ربما ضبطت مزاجى على هذا النمط لكن المشكلة بدت معى فى ألمانيا فلا نوم إلا ليلا وحتى فى أيام العطلات والإجازات فلا ينامون نهارا ولو رأونى نائما نهارا فهذا يعنى أنى مريض فى عيونهم، لكن عندما عملتُ استاذا زائرا بجامعة بون كنت أخلد إلى القيلولة على أريكة بمكتبى وكانوا يسمونها القيلولة الصغرى ولذا فكم تعجبتُ عندما قرأتُ قبل أيام مطالب الأطباء الألمان بإدخال نظام القيلولة خلال أوقات العمل بألمانيا فى ظل ارتفاع درجات الجو فقد صرح الدكتور يوهانس نيسن رئيس الاتحاد الألمانى لأطباء خدمة الصحة العامة: «إن الجو يفرض على الألمان الاستيقاظ مبكرا والعمل وقت الصباح وأخذ قيلولة وقت الظهيرة فمع الحر الشديد لا يقدر الناس على الأداء كالمعتاد لوجود مشكلات فى التركيز وبهذا صرنا فى القيلولة سواء.
الشيخ الشرقاوى وديوانه الشعرى

«للهِ رجالٌ» كلمة أسمعها كثيرا منذ الصغر، وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا يشقى جلسيهم ولا يملّ مُحبّهم ولا يحزن سامعهم فهم فى بحر المعيّة خالدون، وهم أركان الأرض الذين يثبّتون دعائهما بعلومهم وبأدبهم وبسلوكهم وبدورهم التربوى الذى يتحول إلى معالج نفسيّ يُروّح عن هموم النفس ويُعلى من القِيم ويغرس مكارم الأخلاق فى النفوس فهو يجاهد من أجل الوصول إلى المقامات فيمنحه الله الأحوال؛ فالمقامات مكاسب والأحوال مواهب، ولذا فكم أسعد كثيرا بقراءتى «ديوان أبى الوفاء الشرقاوي» الذى جمعه وحققه تلميذى النجيب د. سيد حشمت فى صبر وبمنهج علمى صارم لاسيما أن صاحب هذا الديوان شيخ من عائلة الأولياء فإذا ما قال شعرا فهو إلهام المحبوب وقطرة من سقيا الوجد وفيض من بحار الوجد وجذب من الصوفية النقية.

الولى أبوالوفاء الشرقاوى

يعد الشيخ أبوالوفا الشرقاوى (1897-1961) من كبار المتصوفة بصعيد مصر وقد وُلد فى إحدى قرى فرشوط فى أسرة صالحة وكان والده من العُبّاد العلماء وانتقلوا إلى نجع حمادي، حيث أقاموا هناك ولهم ساحة عامرة لا تزال تستقبل ضيوفها بكل كرم وترحاب، وقد أثَّروا فى المجتمع إيجابًا ومحبة فهم يُصلحون بين المتخاصمين ويهدون الناس إلى صراط الله المستقيم، وكان الشيخ أبوالوفا الشرقاوى يقرض الشعر وله ديوان شعر نشر الشيخ حسنين مخلوف والشيخ محمد فؤاد شاكر والدكتور محمد على المصرى بعض قصائده.

وقد عكف د. سيد حشمت أبوفرغل على نشر ديوان شعره كاملًا، ومن يقرأ قصائده يشاهد أحواله ومقاماته وتمكّنه اللغوى والبلاغى والعروضى وقد كان- رحمه الله- بجانب زهده وتعبّده صوفيًا سياسيًا يشغل نفسه بقضاء مصالح الناس وقضايا بلده وأمته، ولا يزال موقفه السياسى من مؤازرة الزعيم سعد زغلول الذى نزل فى ضيافته بل رافقه فى رحلته من جرجا لأسوان فى باخرته ونزل سعد فى بيته بنجع حمادى فأكرمه مُتحديًا الاستعمار والقصر وأعوانه ونادى خطابةً وشعرًا مطالبًا بانتهاء الحماية ودحر الاحتلال، ووجوب مقاومته حتى استقلال البلاد، وقد تبعه فى هذا الموقف الوطنى الشجاع جمهور الناس ومحبو الشيخ ومريدوه وقد حفظ سعد زغلول للشيخ أبوالوفا هذا الموقف المعلن الجريء قولًا وفعلًا وشعرًا. فقد تحمّل الشيخ كثيرًا من المصاعب فى سبيل مواقفه الوطنية الشجاعة التى كان منبعها فهم الدين الصحيح وتغليب مصلحة الوطن على المصلحة الشخصية؛ كما أن هذا الموقف يرد على هؤلاء الذين يرون الصوفيين منعزلين عن قضايا بلدهم وحوائج الناس، ودراويش التكايا فهو مثل واضح على الصوفى الزاهد الشجاع الرائد. وقد جهر بقوله مؤيدًا ثورة 1919 ومفوضًا سعد زغلول من قبل قائلًا:

لجنة التحقيق إنّا/ قد أَنَبْنا الوفدَ عنّا

فاسْألوا «سعدا» يُجِبْكمُ / لا جواب اليومَ مِنّا

أنا وعمر الخيام

حينما كنتُ طالبا بالفرقة الأولى بكلية الآداب قرر علينا أستاذنا الدكتور شعبان طرطور أمد الله فى عمره بدايات اللغة الفارسية التى كنا ندرسها لغةً ثانوية وفى نهاية العام الدراسى قرر علينا بعض رباعيات الخيام الذى أسرنى بعشقه وحكمته وفلسفته وكم كنتُ متيما برباعياته التى شدَتْ بها أم كلثوم من ترجمة مدهشة من شاعر العامية أحمد رامى الذى صاغها فى لغة فصحى يعجز عنها شعراء الفصحى ليجد فيها رياض السنباطى رؤاه الفلسفية تلحينا فيبدع الثلاثى رامى وأم كلثوم والسنباطى فى تحويل كلمات الخيام وأحاسيسه وافكاره ورؤاه الجمالية فلماذا لا أقوم بترجمة النصوص المقررة؟ فقمتُ بهذا وقد لقيتُ ترحيبا من أستاذيُ العالمين الكبيرين أ.د. شعبان ربيع طرطور وأ.د. سعيد الباجورى أمدُ الله فى عمريْهما وجزاهما عنى خير الجزاء، وقد ترجمتُ هذه الرباعيات شعرا وآمل أن أكون قد وُفقتُ فى هذا واليكم نفحات الخيام كما ترجمتُها:
ترجمتى رباعيات الخيام
فَلْتسقِنى قلبى إليكِ مَشُوقُ.. هاتى شفاهكِ فالكؤوس تعوقُ
وتمتَّعى فغدًا سيصنعُ عظمُنا.. كأسـا لغانيةٍ ليُسـقَى صديقُ
الكونُ يرقصُ إذْ تمرُّ فتاتي.. والخمر يعزفُ مُطربا أشتاتي
اليوم ألهو فى الخميلة شاديا.. مَن ذا سيلهو عابثا برُفاتي؟
الكأسُ ذاك لكمْ تألَّم عاشقا.. مثلى وكان أسيرَ حُبِّ فتاةِ
هذى اليدُ اللاتى تُرى محنيةً.. كانت تضمُّ حبيبَها قُبُلاتِ
كمْ مرَّت الأيامُ فى عمرى سواءْ.. والعمرُ حتْما سوف يعقبه انتهاءْ
الحزن لا يُجدى على يومٍ مضى.. وغداً أخبئُهُ لألهوَ ما أشاءْ
لكنَّ عُمرى قد تضاءلَ وانتهى.. يا ويح أيامي، ويا تَبًّا لها
يا ربِّ ما قدمتُ خيرًا يُرتَجَى.. لكنَّ جُودك ما لهُ منْ مُنْتَهى
فى النهايات تتجلى البدايات
قال أبوالوفاء الشرقاوى:
عجبتُ لغائبٍ وأراهُ دومًا
بعين الروح، ثاوٍ فى فؤادى
وإن أبصرتُه يومًا قريبًا
فلا ينفكُّ شوقى فى ازديادِ
فليس القُربُ يطفئ نار شوقى
وليس البُعدُ يحجبُ عن مُرادى

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة