عبدالرحيم كمال
عبدالرحيم كمال


يوميات الاخبار

البيت والشارع

الأخبار

الأحد، 23 يوليه 2023 - 07:23 م

عبدالرحيم كمال

ظهر الميكرفون فغاب الصوت الحنون، وظهر التكييف فغاب الشباك والسطح، وظهرت الفضائيات فغابت حكايات الجدات

فى الصيف تزداد درجة حرارة الجو وتسبب هذه الحرارة ضيقا فى نفس وسهولة فى استفزاز المشاعر اعتادت الاجسام على برودة التكييف بعدما ذاقت حلاوتها وكانت فى الماضى الأقرب تستمتع بالمراوح وفى القريب بفتح الشبابيك والنوافذ على البحرى.. ويبدو أن كل من ذاق نعمة لا يستطيع أن يستغنى عنها.. وهكذا اعتدنا على النعم حتى إننا نفشل كثيرا فى تصور حياتنا قبل التليفون المحمول وقبل الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعى. الحاضر يفرض سيطرته على كل شيء حتى فى شكل المعمار كان الشباك والبلكونة والفراندة فى العصر السابق تصنع ويراعى فيها ان تكون عملا فنيا متكاملا وعبر الخشب الارابيسك تكون المشربية حيث توضع القلل التى يحول فخارها الماء الى ماء بارد سائغ للشاربين وكذلك يكون الشباك نفسه إطارا فنيا رائعا منه تنظر العيون الى العالم وخلفه تستتر وجوه النساء وتحت الشباك ينظر الرجال لأعلى لتلك اللوحات الفنية الحية، كان الجمال جزءا من التصميم ولكن حينما أغلقت الشبابيك بعناية حتى يعمل التكييف بكفاءة صارت المتانة والعزل هما الصفتين الأهم فى الشبابيك والنوافذ فاستبدل الخشب بالالوميتال وصارت العمائر توابيت زجاجية تقف بالطول لتقاوم الشمس والهواء وانتهت علاقة الجالس بجوار الشباك مع العالم، كنا نتابع الشارع من الشباك فنعرف عنه الكثير ولكننا منذ أغلقنا أبواب الشقق علينا ومنعنا التعامل مع الشارع ولو حتى بالنظر وهجرنا البلكونات وصرنا ندب فى الشقة المغلقة بين الغرفة والصالة والمطبخ والحمام، نأكل ونشرب ونتحرك دون ان نتواصل مع الشارع والجيران، طقس شرب الشاى فى البلكونة لم يكن أمرا بسيطا، بل كان معايشة يومية لتفاصيل شارع أنت جزء منه وتصل اليك رسائله وتغيراته يوما بيوم ولحظة بلحظة..

هنا عاد اليوم جارنا المريض من المستشفى وفتحت زوجته الشبابيك احتفالا، وهنا ما زال النقاشون يجهزون شقة العريس الجديد.. وهنا يطرق الصبية الباب ليجمعوا نقودا من الشقق لتعليق زينة رمضان.. وخلف هذا الشباك زغردت أم لنجاح ابنها فى الثانوية العامة.. وعلى تلك الناصية وقف الأب يوزع الشربات.. وفى تلك العصرية صرخت الفتاة المراهقة فى بلكونتها واحتضنتها الأم منهارة وعلم الجميع أن الجار الطيب قد لقى ربه، لم يكن الشباك مجرد طراز معمارى جميل لوضع القلل وتبادل النظرات لكنه كان جهازا إعلاميا كاملا ومصدرا من مصادر الحزن والفرح، المحزن فى الامر فى عصرنا الحديث حينما تنقطع الكهرباء لا نفقد فقط نسمة الهواء الباردة القادمة من التكييف لكننا نشعر اننا فى سجن ضيق ليس به شباك جميل قادر على الوصل والتواصل ولكن ننظر لبعضنا البعض وقد أفاق كل واحد منا فجأة من على شاشة تليفونه المحمول ونتبادل النظرات كأننا لا نعرف من نحن، ثم نلوذ بالصمت منتظرين فى صبر أن تعود الكهرباء ليعود معها الانترنت والحياة كما اعتدنا عليها، فى القديم لم تكن هناك تلك الغربة، كانت هناك نوافذ وكان هناك سطح وكان هناك أيضا شمس وقمر ونجوم كنا نستطيع ان نرى السماء بوضوح، نمسح العرق بكفوفنا وننظر للسماء كأننا فى حلم من أحلام اليقظة والجدات يرشدننا ويحكين لنا عن حركة النجوم يسمين كل مجموعة باسم فهذه نجمة الراعى وخلفها قطيع من غنم وماعز، وهذه نجمة السقا وخلفها دلاء مملوءة بالأحلام، وهذه نجمة السيدة العجوز تدفع بعصاها مجموعة من النجمات الصبايا.. ونحن نستمع الى جداتنا بين الشك والتصديق والشرود والضحك وينتقل الكلام من حال الى حال وتناول كل جدة وكل أم حبل الحكايات الى سيدة أخرى ونحن مشدوهون ننظر للسماء البعيدة نتخيل فيها ما نسمع من قصص حب عن حسن ونعيمة وليلى والمجنون والجن وبنات الفوال وصاحب ثوب الريش الذى كان يرتديه كل ليلة ويطير لحبيبته ويتغير لون السماء فوقنا من اسود مرصع بالنجوم الى رمادى ثم يأخذ اللون فى التغير بالتدريج حتى يظهر الفجر ومعه صوت واهن يزداد قوة بالتدريج هو صوت المؤذن الذى يصعد المئذنة وهو يكح ويتثاءب ويبدأ بالتكبير ويظن من يسمعه أن الرجل يحتضر ثم يتمالك نفسه ويكمل الأذان برقة وجمال يزداد تدريجيا فيعلم الجميع أن الليل قد انقضى وأن النهار الجديد قد أقبل، ظهر الميكرفون فغاب الصوت الحنون، وظهر التكييف فغاب الشباك والسطح، وظهرت الفضائيات فغابت حكايات الجدات وأمسكت الأيدى بالريموت كنترول تبحث به عن القنوات واختفى دليلنا على حركة النجوم وحرم البيت من الشارع والسطح.


حرص على الأخلاق أم قسوة مفرطة؟!
انتشر مقطع على مواقع التواصل الاجتماعى لشاب وفتاة فى حالة من القرب والعشق تلصصت عليهما سيدة وقامت بتصويرهما وهى تسبهما بأفظع أنواع السباب وتتهم الأفلام والمسلسلات بأنها السبب فى ذلك الانحلال من وجهة نظرها وراحت تصور نفسها كداعية للحق وقامت بنشر ذلك الفيديو الذى حقق نسبة مشاهدة عالية جدا لا أظن مطلقا أن هؤلاء الملايين من المشاهدين بسبب ما نشرته وصورته أبدا فى ميزان حسناتها بعد أن تخلت عن كل قيم الستر ومراعاة حق وخصوصية الاخر وأصرت على التصوير بغير إذن والحكم عليهما بغير حق ومهاجمتهما والتشهير بهما لا سند من ضمير أو دين، إن هذين الفقيرين اللذين ضاقت عليهما الأرض بما رحبت فلما يجدا سوى ذلك المكان وقامت السيدة بفضحهما وشاركت العالم تلك الفضيحة لم يكن ابدا يليق بها ان تتصرف معهما تلك السيدة بذلك الأسلوب الخالى من القيم الإنسانية متناسية كل التراث الدينى الذى ينهى عن الفضح وينصح من يرى مثل ذلك ان يتحلى بقيم الستر لكنها راحت تصرخ كمن وجدت ضالتها فى سب واهانة الشاب والفتاة وكأنها هى الشاهد والقاضى والمشرع، لم تلتمس عذرا واحدا، لم تطرح فكرة ماذا لو كانت تلك الفتاة ابنتها هى أو أن ذلك الشاب هو ابنها بأى لسان لحظتها كانت ستتكلم؟ وهل كانت ستقبل أن تفضح ابنتها او ابنها؟ وماذا لو ان نفس الفعل كان فيه سيارة فارهة مرت بجوارها هل كانت ستنطق؟ وماذا لو كان نفس الامر حدث امامها فى الساحل الشمالى أو فى منطقة من مناطق الأغنياء؟ كانت ستضع لسانها فى فمها، لكن الفقراء الحيارى دائما يثيرون رغبة قليلى العقول فى تأديبهم، هى ليست غيرة على الاخلاق إذن.. لكنها ربما غيرة مطلقة غيرة من شاب وفتاة ما زالت لديهما طاقة وقدرة على الحب حتى ولو أخطآ فى الزمان والمكان والطريقة، انهما لا يثيران الغضب والرغبة فى الانتقام لكنهما يثيران الحزن والتعاطف: حزنا على انهما لا يجدان ما يمكنهما من الزواج، وتعاطفا لانهما فى ذروة الشباب والحب ويطاردهما فى كل دقيقة كل شخص يدعى الفضيلة والشرف.


مسكين ذلك الشاب ومسكينة تلك الشابة والأعجب من كل هذا أن السيدة المتلصصة التى تجاوزت الحدود وفضحت ولم تستر الا انها هى أيضا مسكينة جدا وتثير الشفقة أيضا، فلابد انها حياة بائسة التى عاشتها امرأة مثلها حياة جعلتها تكره أفعال المحبين ولا تكاد تجد لهم عذرا بل تلقى عليهم الاتهامات ليس هذا فحسب بل تلقى تبعة كل ذلك على المسلسلات والأفلام ونسيت أن تجيبنا عن سؤال مهم:
إذا كنتِ يا سيدتى مقاطعة لتلك الأفلام والمسلسلات التى افسدت المجتمع فمن علمك كل تلك القسوة والقدرة على الفضح والإيذاء؟!
لحظة
فتح الباب فجأة دخل عليه أحدهم مكتبه مسرعًا دون استئذان وقال له: يا هذا اكتب بسرعة لا تتوقف عن الكتابة.


قال الجالس مرتبكا: أكتب عن ماذا؟
قال: اكتب عن الرحمة.
سأل الجالس: أية رحمة؟
قال الواقف: اكتب فالرحمة أكبر من القلب.. الرحمة أكبر من الذنب.. الرحمة أكبر من الدنيا.
رد الجالس: ومن يصدقنى؟ الناس تريد شيئا آخر.


قال الواقف: الناس لها عقول وآمال وطموحات ورغبات لا تعنيك لكنها تعنيهم وهم أولى بها.. فلا تكتب لهم ولا تكتب عنهم.. ولكن اكتبهم.. ارحمهم واكتبهم.
سأل الجالس: هل تظنهم يقبلون؟ إنهم لا يحبون الرحمة.
قال الواقف: لا يهم انهم لا يحبونها.. لكنهم فى حاجة اليها.
هز الجالس رأسه فى شك: الناس تميل للحساب.. يعشقون أن يحاسب بعضهم البعض.. ويحبون ان يكون فى آخر الحساب حكم رادع وقاس.
همس الواقف فى تعاطف: لكن الناس لا يريدون العذاب.
ابتسم الجالس فى أسى: لكن عدد أنصار أن يعذب الناس أكبر من عدد أنصار أن يرحموا.. أنصار وجود النار أكثر من أنصار وجود الجنة.
قال الواقف فى حسم: اكتب عن انصار وجود الرحمة.


قال الجالس فى ضيق: الناس تستمتع بالثأر والانتقام ويرون الرحمة ضعفا أو ظلما لا يليق بأعدائهم… وكل الناس أعداء لكل الناس.
قال الواقف ناصحا: اكتب لواحد منهم فإذا صدقك فقد نجوت.
رد الجالس معترضا: نجوت أنا ونجا هو… وهلك الخلق؟
ابتسم الواقف: اكتب ولا تبالِ… نجاة واحد نجاة للجميع.
قال الجالس فى حزن: كتبت عن الحب وسخروا… كتبت عن العدل ففرحوا.
قال الواقف: اكتب عن الرحمة فهى حب يحتاجه العدل.
قال الجالس: ومن يرحمنى إذا كتبت عن الرحمة وحاسبنى أهل العدل؟!
ابتسم الواقف: اكتب عن الرحمة فإنها لا تتخلى عن صاحبها أبدا.
أغمض الجالس عينيه وغمرته الرحمة.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة