بهاء طاهر
بهاء طاهر


عائشة المراغى تكتب| موعدان ضد النسيان

بوابة أخبار اليوم

السبت، 28 أكتوبر 2023 - 04:48 م

«كل ما نفترق... تجمّعنا الطُرق».
 جُملة غنائية يكررها محمد الحلو بصوته، لمدة لا تتجاوز بضع ثوان، كفيلة -كلما سمعتها- بأن تعيدنى لما قبل ثلاثين عامًا تقريبًا؛ حين عُرض مسلسل «خالتى صفية والدير» لأول مرة. كنتُ وقتذاك دون الخامسة من عمرى، لم أع شيئًا آخر من العمل سوى تلك الكلمات وموسيقاها، وصوت نواح نسوة يرتدين ملابس سوداء، تشبه ما كنت أراها فى الصعيد حين يصطحبنا أبى لزيارة العائلة.
بعد عشره سنوات، أو أقل قليلًا؛ لفت انتباهى صوت اللحن والكلمات، تتبعته إلى أن تسمَّرت أمام شاشة التليفزيون ورُحت أشاهد فى فضول؛ كل يوم فى الموعد نفسه، إلى أن فاضت روح «حربى» ومن بعده «صفية». تلك المرة أزاحت ذكريات الطفولة قليلًا، وزرعت بدلًا منها ألمًا ينغز قلبى من فرط القسوة والمعاناة؛ ظلَّ ملازمًا لى طوال فترة قراءتى لرواية العظيم بهاء طاهر، فقد منحنى أبى طبعتها عن مكتبة الأسرة بعدما لاحظ اهتمامى بالعمل الدرامى.
هكذا التقيتُ ببهاء طاهر للمرة الأولى، ولم يكن فى حسبانى أنى سألتقيه بشكل آخر بعد سنوات قليلة، وأحتفل معه بعيد مولده الثمانين، فى حوار امتد لما يقارب الساعتين؛ منقسمًا إلى موعدين فصل بينهما ثلاثة أسابيع.
١
قبل الموعد الأول اتصلتُ على رقم هاتف المنزل، فأجابتنى زوجته «ستيفكا» قبل أن تناوله السماعة. طلبتُ موعدًا فلم يمانع أو يتأخر، بل أخذ يخبرنى بالأوقات المتاحة لنتفق على أحدها. 
على الموعد وصلتُ إلى باب شقته فى الزمالك، فوجِئت أنه من يفتح لى الباب، إذ كانت «ستيفكا» لا تزال فى الخارج. وقبل أن نبدأ فى أى حديث أصرَّ أن يضيِّفنى بكوب من مشروب ساخن.
لم تكن فكرة إجراء الحوار مع بهاء طاهر بالأمر الهيِّن لى، لكنه جعلها كذلك. لم يخاطبنى سوى بكلمة «بنتى»، وابتسامته لم تختفِ أبدًا، حتى فى لحظات شعوره بالإرهاق. خاصة أنه خلال تلك الفترة أجرى العديد من الحوارات؛ ورغم أن بعضها لم يظهر على المستوى المُرضى له، لكنه تعامل مع الأمر بمرح وهو يقول ضاحكًا؛ لابنته دينا عبر الهاتف: «علىَّ إقبال شديد اليومين دول؛ بمناسبة الخصم».
بعد إنهاء المكالمة اعتذر منى -بتواضع جم- عن المقاطعة وإضاعة وقتى، فأخبرته أننى خصصتُ اليوم لأكون فى حضرته. 
كان حديثه عفويًا دون تجمُّل، لكن مسحة الحنين الدائمة التى اكتسى بها صوته فاجأتنى، وكأنه يسير فى طريق لا يوافق إرادته، فرغم أنه صار الكاتب الكبير صاحب الجوائز والنجاحات العالمية، إلا أن غصة ابتعاده عن مصر كانت لا تزال عالقة فى حلقه. حين سألته شرد قليلًا قبل أن يؤكد إيمانه بقضاء الله ورضاءه بمشيئة القدر، وهو يقول: «ليس هناك مقارنة بين ما أكنت أبغيه وما صِرت عليه. المقارنة عبثية ودون جدوى. الأهم هو تقبُّل الواقع».
 أما القضية الأبرز له فى الحوار والتى انتفض لأجلها؛ فكانت غياب الناقد، أو كما أسماه «الوسيط»، يقول: «فى عملية الإبداع؛ يوجد دائمًا مبدع وقارئ ووسيط، هذا الوسيط هو الناقد والإعلام، الذى يسلِّط الضوء على الجيد وينبّه للردىء، وقد كنا محظوظين كجيل أن لدينا نقاداً عظماء كالدكتور محمد مندور والدكتور عبد القادر القط والدكتور لويس عوض، وغيرهم، هذا الوسيط الضرورى ما بين المبدع والمتلقى لم يعد موجودًا للأسف».
مع اقتراب وقت الحوار من الساعة؛ بدأ التعب يتملك من الأستاذ بهاء، فاخترتُ بعض الأسئلة لأنهى بها هذا الموعد، مع اتفاق بالاستكمال بعد أيام. 
٢
فى الموعد الثانى لم أكن وحدى؛ رافقنى الكاتب الصحفى طارق الطاهر -رئيس تحرير أخبار الأدب آنذاك- والصديقة منى عبد الكريم؛ الفنانة التى وثَّقت تفاصيل اليوم بعدستها. 
كنا فى ذلك اليوم على بُعد أيام قليلة من العيد الثمانين لميلاد بهاء طاهر، فلم يفُت الأستاذ طارق أن يحضر فى طريقه إلينا «تورتة» للاحتفال، أضفت على اللقاء مذاقًا مغايرًا.
اتخذ طرح الأسئلة منحى آخر، ينطلق من «دردشة» أثناء عملية التصوير. فمن سؤاله لمنى عبد الكريم حول أجواء مجموعتها القصصية؛ كان تصريحه بمحبته لقصصه القصيرة، قائلًا: «القصة القصيرة هى أرقى فنون السرد، أعتز بقصصى أكثر من رواياتى، لأنها تجربة مكثفة فى عدد محدود من الصفحات، لغتها أقرب إلى لغة الشعر. والأهم بالنسبة لى؛ أننى مدين لها بعودتى إلى مصر، من خلال «بالأمس حلمت بك»، بعد أن نسيَنى الناس نهائيًا لغيابى الطويل». 
لكنه فى المقابل لا يعترف بالقصص القصيرة جدًا، التى لا تتجاوز سطوراً، بالضبط كعدم اعترافه بقصيدة النثر، رغم ما شهدته من جهود على مدار السنوات السابقة. المبدعون فيها حسب وصفه «قليلون جدًا»، وحين يصادفه نص يثير إعجابه؛ يهاتف صاحبه قائلًا «أنا لا أحب قصيدة النثر، لكن قصيدتك أعجبتنى».
وبنفس النبرة الضاحكة كان يجيب على دعوته السنوية لحضور معرض القاهرة الدولى للكتاب، قائلًا «لا يمكننى. أنا الآن من متحدى الإعاقة». لم يكن لديه إلا سؤال واحد يوجهه على الدوام، سواء فى المعرض أو أى مؤتمر، حول تعليم الديمقراطية، لكنه لم يُجَب أبدًا؛ كيف يمكن أن يتحول التعليم إلى مدرسة لتعليم الديمقراطية؟ هذا السؤال الذى استمده بهاء طاهر من فكر طه حسين وعبَّر عنه فى كتابه «أبناء رفاعة» لكنَّ أحداً لم يفهمه، أو كما همس: «ربما فهموه؛ ولذلك طلَّعوا روحه».
بين الأصوات المتعالية بالضحكات؛ رن هاتف الأستاذ بهاء، فالتقطه سريعًا ليردَّ على الحاج «عبد الهادى» القاطن فى محافظة الأقصر، والذى عايده طاهر قبل أيام بالمولد النبوى الشريف. تبادلا المزاح والسؤال عن الصحة والأحوال، فتذكرتُ فورًا حوار الموعد الأول، حين قال «أحب صلة الرحم.. وأحب أهلى فى الصعيد». 
وانسدل ستار اللقاء بالعصفور، الذى طلبت منى عبد الكريم من بهاء طاهر أن يتخيله واقفًا خلف الشباك، فنظر إليه متأملًا ومبتسمًا، بعدما رفضت «ستيفكا» منحه «ساندويتش الفول والطعمية» لأنها تجهِّز «السُفرة» للاحتفال والحلويات!

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة