العربُ والفيسبوك
العربُ والفيسبوك


د. يوسف رحايمى يكتب : العربُ والفيسبوك ... قصةُ نضالٍ عنوانها «حِيلُ اللُّغَةِ»

بوابة أخبار اليوم

السبت، 04 نوفمبر 2023 - 12:45 م

أعلن الكاتب ميشال فوكو ذات كتاب قولته الشهيرة «حيث توجد سلطة لا بدّ من وجود مقاومة» وهى إشارة نلتقطها فى هذا السياق للإحالة على سلطة المحتل القائمة على القهر والاستعباد والظلم التى تقابلها سلطة المقاومة القائمة على كافة أدوات القول والفعل المتاحة. يحيلنا هذا الفهم أيضا إلى تصوّر آخر بناه العالم السياسى وأنثروبولوجى الأمريكى جيمس سكوت (James Scott) حين أشار فى كتابه "المقاومة بالحيلة، كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم» إلى أنّ شكل المقاومة يعتمد أساسًا على شكل السلطة، وهو فهم يُوحى بأنّ أشكال المقاومة تينع فى ظروف إنتاج السلطة وطرقها، ومن هذا اقتبسنا عنوان مقالنا الذى يسلط الضوء على حيل اللغة ودورها فى تقويض الخطاب والفعل السلطوى عامّة.

 ليست هذه الإشارة إلا عتبة أولية لما يُراد أن يُقال فى خضم هذا المقال، فجوهر الأمر أننا ومع خوضنا حرباً مع الكيان الصهيونى الغاصب بالسلاح والعتاد، نعيش فى الضفة الأخرى حرباً كلامية (التعبير والرأي) مع منصة فيسبوك، التى تمارس ضرباً من القهر الإلكترونى، إذ تتجه إلى تعطيل حسابات البعض والقيام بممارسات جذرية لكل من يقف ضد هذا الكيان بأسلوب ما، هذا فضلاً عن اتجاهها نحو إخفاء المنشورات والتضييق عليها، وإغلاق صفحات وتتبع كل العبارات الداعمة للقضية الفلسطينية من قبيل طوفان الأقصى، حماس. وتقول الإحصائيات: إنه تمت ما يقارب 500 عملية إزالة على إنستجرام وفيسبوك.

فى البدء وقبل ولوج عمق المقال لابد أن نلفت نظر القارئ إلى أنَّ الواو فى العنوان ليست عطفاً، فلم يحدث فى تاريخ العطف النحوى أن انحاز المعطوف على المعطوف عليه مثل ما يفعل الفيسبوك مع العرب. أما عن تخصيص العرب دون غيرهم، فهذا يأتى فى سياق ما يُمارس علينا من قمع إعلامىٍ فى استهداف واضح لحرية التعبير والرأى وبناء المغالطات المضللة. 
وبالعودة إلى مسرح الفيسبوك -ومنذ انطلاق عملية طوفان الأقصى- نجد حرباً محتدمة بين النشطاء العرب وهذه المنصة، ويعود أصل الحرب إلى جملة من الممارسات التى اعتمدها الفيسبوك فى محاولة منه إلى إرضاء طرف (الكيان الغاصب) دون آخر (القضية الفلسطينية)، حيث يتجه يومياً إلى غلق حساباتٍ تحاول أن تدعم القضية أو إقامة حواجز للنشر من خلال التضييق والتتبع والرقابة. ما يثير فضول الكتابة عن هذا الأمر هو قدرة الجماهير على ابتكار أدوات نضالها بنفسها، حيث أنتجت ما يمكن أن نعدّه استجابة بليغة بلغة بلاغة الجمهور، وهى استجابات أصنفها فى خانة "التمويه اللغوي» من خلال اتجاهها نحو بناء لغة رقمية جديدة تدخل تحت لعبة الغموض الاستراتيجى.

◄ اقرأ أيضًا | مصطفى كامل يناشد المواطنين للوقوف اليوم أمام المنصة لدعم أهل غزة

وقد يسأل سائل: أين يمكن أن نرصد هذه الاستجابات القائمة على حيل اللغة، فنشير له إلى أن الجماهير اتجهت نحو بناء خطاب مقاوم، حيث تصرفت فى لغة الكتابة بشيء من الفطنة والتمويه حتى تفلت من التعقّب الذى يهدد وجودها. لقد تجلت هذه الاستجابات المقاومة لعملية القهر الالكترونى من خلال الكتابة باللغة العربية الخالية من التنقيط، وهى حيلة لغوية تنسج مناولاً بلاغياً مقاوماً، مما يجعل رصد معانى العبارات أمراً صعباً إلا لأبناء هذا اللسان. ومن طرافة هذه الحيلة أنها بُنيت على التشويش على العقل المسير للفيسبوك (خوارزميات). وفى أرقى تجليات الحيلة باللغة، قام رواد الفيسبوك العرب من انتهاج مسلك لغوى آخر من أجل إيصال مقصدها، وهذا المسلك يعتمد على الكتابة المتقطعة، أى ترك فراغات بين الأحرف من قبيل (ط و ف ا ن) أو (ص ه ى و ن ى ة)، وقد اتجه البعض الآخر إلى وضع علامات ترقيم بين الأحرف (ص @ ى و ن ى ة).

يذكرنا هذا الصنيع اللغوى بضربٍ من ضروب المقاومة اليومية التى اعتمدتها النساء الفلسطينيات فى مقاومة سلطة الانتداب البريطانى، وهو ضرب قائم أساسًا على حيل اللغة والتلاعب بالمضمون اللغوى الموجّه إلى أزواجهن القابعين فى سجون المحتل، وذلك من خلال ما يُعرف بالترويدة الفلسطينية التى تُعدّ صنفاً من أصناف الغناء الشعبى المعتمد أساسا على آلية التشفير الخطابى من أجل التمويه والإلغاز. 

وبالعودة إلى رؤية جيمس سكوت القائلة بأنّ «شكل المقاومة يعتمد أساساً على شكل السلطة»، يتبيّن لنا أنّ المقاومة تبتكر أدواتها فى إطار ما يُحاك لها من جهة السلطة. هذا الفهم تدعم جهوده بلاغة الجمهور التى ترى أيضاً أنّ للجماهير قدرة على مقاومة أى سلطة (فعل/خطاب) وذلك من خلال إنتاج ردود أفعال (استجابات بليغة) تقاوم بها ما يُمارس عليها من ظلم أو إكراه. وفى هذا السياق نعود بالذاكرة إلى ضرب من الفلكلور الفلسطينى متمثلاً فيما دُرج على تسميته «الملولة» أو «الترويدة» وهى نوع من الغناء الشعبى بُنيت كلماته على أساس التشفير والإيهام بحيث تبدو كلماته غير مفهومة وغامضة، ومردّ ذلك أنّ سلطة المستعمر البريطانى كانت تمنع زيارة الزوجات لأزواجهن، فاستنبطن هذا الضرب من الغناء لإيصال جملة من الرسائل التى تهم شأن المقاومة، ويقال: إنّ التعامل بتلك الشفرة استمرّ حتى بعد النكبة وإلى الآن يوجد كثير من سكان المخيمات لا يزالون يجيدون التحدث بتلك اللغة بطلاقة.

إن ما تقوم به النساء فى هذه الترويدة هو ضرب من دسائس اللغة (التشفير الخطابى)، حيث تقوم الترويدة على أساس قلب الحرف الأخير من كل كلمة وإضافة حرف اللام فى نهايتها، وتلك الترويدة كان يغنيها أهالى الأسرى لتبشير المعتقلين الفلسطينيين فى سجون الاحتلال البريطانى بِاقتراب خلاصهم.

وأنا ليليلبعث معليلريح الشمالى لالى يا رويللووو (وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي)
ياصليلار ويدورليللى على لحبيليلابا يا رويللووو (يوصل ويدور على الحباب يابا)
يا هللوا روح سلللملى على للهم يا رويللووووو (يا هوا روح سلملى عليهم)
وطالالالت الغربة الليلة واشتقنا ليلى للهم يا رويللوووو (وطالت الغربة واشتقنا لهم)
وقد مثلت أغنية (يا طالعين الجبل) بشرى لأسرى فلسطين، حيث تسرد تلك الأغنية واقعة تحرير بعض الفدائيين من الأسر فى منتصف الثلاثينيات، وتعتمد فى بنيتها على نفس التكوين السابق بإضافة حرف اللام للتمويه.

يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار***بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح
ما بدى منكى لللكم خلعة ولا لالالا لابدى ملبوس***بين للل يامان يامان
عين للل الهنا يا روح***ما بدى منكى لللكم خلعة ولا لالالالا بدى زنار
بين للل يامان يامان***عين للل الهنا يا روح
وفى هذه الأغنية أخبرت النسوة «المحبوس» أن «الغزال»، تقصد الفدائيين، آتون فى الليل لتحريرهم، وأن إشارة بدء العملية هى عندما يرون النار موقدة. حتى يفهم الأسرى الرسالة، وينتظروا تحريرهم الذى لم يطل كثيرًا. ففى ظل تضييق الخناق من قبل الانتداب البريطانى وممارسة الفعل السلطوى القهرى التجأت النساء الفلسطينيات إلى بناء خطابهن بطريقة مخصوصة فى القول، وهى طريقة قائمة الإيهام، ونعد ذلك استجابة بليغة على حدّ قول عماد عبد اللطيف. 

ورغم أنَّ «ميتا» قد صرحت قائلة: «سياساتنا مصممة لإبقاء الأشخاص آمنين على تطبيقاتنا مع توفير منبر للجميع.. نطبق هذه السياسات بالتساوى فى أنحاء العالم ولا حقيقة فى الإشارة إلى أننا نتعمد تكميم الأفواه» إلا أنّ حقيقة الميدان قد عرتْ الانحياز الواضح للكيان الغاصب، وهذا من شأنه أن ينبهنا إلى إعادة النظر فى جدوى هذه المواقع الافتراضية ومدى موضوعيتها فى بناء خطابٍ عادلٍ تجد فيه جميع الأطراف حقّها فى القول والتعبير. ويبقى فى الأخير ضرورة الإشارة إلى إنّ للجماهير بلاغتها الخاصة التى بها تنتصر على كل خطاب سلطوى ظالم مهما ادعت هذه التكنولوجيا الحديثة قدرتها على السيطرة على الجماهير وتوجيهها. 


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة