خالد محمود
خالد محمود يكتب: أيام مع «السادات» .. ولماذا طلب منى أحمد زكىحلاقة «شنبى»؟
الجمعة، 24 نوفمبر 2023 - 12:46 م
لم يترك نجم تأثير كبير بداخلي مثلما ترك أحمد زكي، لا أعرف لماذا على وجه التحديد؟، لكنه يقينا ربما يكون صدق المشاعر المتبادلة في لحظات مثلت محطات فارقة من العمر، هو يحلم ويتمسك بحلمه حتى لو كان نظريا مستحيل وتحيطه عقبات كبيرة، وأنا أصدق حلمه وألمس بداخله الأمل في تحدى الصعاب، كان يلهمني الإرادة، كان ينتظر أن يمنحه الآخر صك التشجيع والإعجاب لما يفكر به ويعمل عليه .
ذات فجر أحد أيام عام 2001، رن جرس التليفون لأجد صوت أحمد زكي يطلب منى أن احضر إليه في غرفته الصغيرة بفندق “هيلتون رمسيس”، التي كان يقيم فيها، وبعد أن تبادلنا التحية، قام على الفور بتشغيل جهاز “الكاسيت”، وكانت مقطوعة موسيقية، وظل صامتا يترقب شعوري تجاهها، وبادرني بالسؤال: “إيه رأيك؟”، قلت له: “مبهرة جدا.. رائعة”، فقال: “دي موسيقى ياسر عبدالرحمن لفيلم (أيام السادات)”، والحقيقة أنها كانت موسيقى تصويرية ملهمة ومعبرة، شعرت أن قلبه اطمئن، وعرفت أنني لم أكن الوحيد الذي أخذ رأيه، كان يريد أن يخرج هذا الفيلم في أبهى صورة، فيلم كامل الأركان.
في عام 2000، وعندما كان في مرحلة الإعداد للفيلم، ذهبت إليه لإجراء حوار كان قد وعدني به، وفي بهو نفس الفندق ظللت أطرح عليه أسئلتي بهدوء، وسمح لي ببعض التعليقات على إجابته، وظل يراقبني في طريقة كلامي.. حركة يدي.. نظرتي.. وفجأة وقف وقال لي: “أرى فيك أحمد بهاء الدين.. ما رأيك تجسد أنت شخصيته بالفيلم.. أراك هادئ مثله ورزين”، وأحضر نظارة وألبسها لي، وقال: “أنت الآن بهاء.. بس تحلق شنبك.. لازم تحلق شنبك.. وتجيني بكرة”، اندهشت، وبعد ثواني من الصمت، قلت له: “مش هقدر احلق شنبي فقد تعودت عليه”، فقال: “أنا شايفك بهاء.. أنت عارفه”، قلت له: “أنه مثلي الأعلى”، فقال لي: “فكر وقلي.. أنت هتدخل التاريخ.. هتبقى جزء من (أيام السادات)” .
أكملنا الجلسة والحوار وتركته وطوال الطريق افكر فيما قاله، كان لدي شعور بالفرحة أن أقترب من شخصية كاتبي الصحفي المفضل، لكني لم أستطع أن أحلق شنبي، واعترف أنني شعرت بالندم على تلك الفرصة، وبالتحديد عقب مشاهدتي الفيلم، وعندما رأيت المشاهد القليلة التي ظهرت فيها شخصية أحمد بهاء الدين، والتي جسدها الفنان أحمد الطمأني، أدركت أنها ليست صعبة، وكان من الممكن أن أقوم بها، لكنه الإحساس بالخوف الذي يلازمني في الكثير من المواقف .
مازالت حوارت أحمد زكي معي حول فيلم “أيام السادات” تتنفس حياة، وكأني اسمع صوته وصمته.. كان لقائي به ممتد على فترات، لكنها تشكل شهادة لفنان ولعصر ولنمط حياة.. في إحدى ضواحي حلوان عندما كان يصور مشهد الحفر بالجبل بالفيلم، دار بيننا حوار طويل حول المستقبل، وكيف عانى إنتاجيا في هذا العمل الذي يتمنى أن تشاهده الأجيال، وأن تقف الدولة بجانبه وتساعده في تحقيق الهدف .
تذكرت هذا اليوم الآخر الذي كنا فيه بجامعة المنيا, حيث قرر تلبية دعوة طلابها وأساتذتها بحضور عرض فيلم” أيام السادات”، وإقامة لقاء يتحاور فيه مع الشباب.
كنت أجلس بجانبه في صالة العرض، وفي لحظة ما طلب مني الخروج معه، شعرت بالقلق وسألته: “هل حدث شيء؟”، قال: “هذا المشهد لا أريد أن أراه الآن.. فكلما شاهدته شعرت بقشعريرة.. ولم أتمالك دموعي.. فقد كان موقفا صعبا.. ولم يخبرني ما هو المشهد.. لكنني عرفته فيما بعد”.
خارج القاعة طلب أن يشرب كوبا من الشاي الثقيل، وذهبنا مع عامل البوفيه وجلسنا في مكانه الضيق حسب رغبته، وسألني: “في رأيك ما أهم 3 مشاهد وقفت إنت عندها بالنسبة لي؟”،
وكانت مفاجأة لي، صمت لثواني، ثم ابتسمت وقلت له: “هناك مشاهد كثيرة وصل فيها الأداء لحد العبقرية، وتفوقت فيها على نفسك يا أستاذ.. ثم لماذا 3 مشاهد فقط؟”، سألته مستفسرا، فقال: “لكي أسهل عليك الموضوع.. أنا شخصيا لدي إحساس ببعض المشاهد التي تعبتني وأرهقتني في آخر أعمالي”.
حاولت بفضولي الصحفي أن أستدرجه وأجعله يجيب، وقلت له: “أنا بسمعك يا أستاذ”، لكنه ألح، فقلت له: “إذن سأقول ما شعرت به من بعض المشاهد وأنت تعلق عليها”،
وقلت له بصراحة: “أنا كنت شديد الإنبهار بمشهد خطبة الأزهر في فيلم (ناصر 56)، كنت أري تعبيرات مهمة بعينيك، عينيك كانت زائغة تنظر للعالم كله عبر الكاميرا، كانت كأنها لا تخاطب الجمع الذي يجلس أمامك في ساحة المسجد، خاصة وأنت تقول: (الله أكبر.. الله أكبر)،
كان المشهد بحق مهولا، مستنفرا، مليئا بالمشاعر، بداخله نبرة الصوت ضعف وقوة، شعور لا يوصف لإستلهام المجتمع كله للدفاع عن مصر الكبيرة،بل إنني أكاد أحفظ هذا المشهد المحفور في ذاكرة شريط سينمائي وفي وجدان كل من شهد الفيلم”، هنا قال أحمد زكي: “عندك حق كان مشهدا صعبا جدا.. مشهد الفيلم كله.. قبل تصوير هذا المشهد كان بداخلي حيرة.. مثل شخصية ناصر تماما.. فإما أن يكون أو لا يكون.. جلست بمفردي ساعات طويلة أسأل: (كيف أواجه هذا المشهد الصعب؟).. وقبل أن أصعد على المنبر بثوان شعرت أنني نسيت الكلام.. وفور أن دارت الكاميرا صمت لثوان ثم وجهت خطابي للأمة.. أقصد خطاب ناصر”.
وهنا وجدت أحمد زكي الفنان يعيد إلقاء المشهد بحذافيره:
“في هذه الأيام التي نكافح فيها من أجل حريتنا.. حرية شعب مصر ومن أجل شرف الوطن.. إن مصر كانت دائما مقبرة للغزاة لجميع الإمبراطوريات التي مرت عليها علي مر الزمن.. وأنتهت الإمبراطوريات وبقيت مصر وبقي شعب مصر.. اليوم ونحن نقاوم عدوان الظلم والاستعمار الذي يريد أن ينتهك حريتنا وإنسانيتنا وكرامتنا, ونحن نقاوم هذا العدوان إنما نطلب من الله أن يلهمنا الصبر والإيمان والثقة والعزم والتصميم على القتال.. إن الموت حق على كل فرد منا, ولكن إذا متنا يجب أن نموت بشرف.. العمر بيد الله.. ما حدش يقدر يغير من أجله.. أنا معاكم في القاهرة ولادي معكم ما طلعتش بره.. نبني بلدنا.. تاريخنا .. مستقبلنا النهاردة.. شعارنا دائما الله يقوينا.. بنجاهد وسننتصر.. الله أكبر.. الله أكبر”.
هنا يشير أحمد زكي إلى أهمية الموسيقى التصويرية في وصول المشهد بالصورة الدرامية إلى المشاهد، وقال: “ياسر عبدالرحمن متميز جدا في الموسيقى التصويرية.. وأنا أعتبره موسيقارا، وأعتبر أن الموسيقى التصويرية سيناريو.. وقد قدم معي ياسر في بداية حياته فيلمي (الإمبراطور) ثم (الباشا) وأيضا (أيام السادات)”.
المشهد الثاني الذي لا ينساه أحمد زكي، ولا أنا، مشهد خطاب ”الكنيست” في “أيام السادات”، كان بحق صعبا للغاية, وكان هناك رأي بأن يتم أخذ المشهد الحقيقي gلسادات نفسه ـ بخطابه الشهير ـ وذلك نظرا لأن “الكنيست” كان مليئا بحضور السياسي الكبير, ولابد من ظهور تلك الشخصيات في المشهد, لكن الفنان أحمد زكي اختفى 3 أيام وإنعزل بمفرده، وأحضر شريط خطاب “الكنيست”، وظل يشاهده عشرات المرات، ثم ذهب لمحمد خان, قال له: “سأصور المشهد بنفسي”.. أحمد وقف كثيرا أمام المرآة وعمل المشهد وحفظه عن ظهر قلب.
وقال: “كانت لحظة صعبة وفارقة.. فتلك الخطبة كان العالم كله يشهدها, وكان إستحضارها صعبا, بل وكان الذهاب لإسرائيل ـ حتى في السينما - أمرا مزعجا مع مجتمع لا يحترم كلمته”.
وهنا سألته: “أي منطقة في هذا المشهد الطويل كانت صعبة في الأداء”، قال: “الجزء الأخير منه، حيث تفاقمت المشاعر والأحاسيس، أمسكت بالمنديل ومسحت عرقي.. حاولت أن أواصل المشهد على (شوط) واحد.. وللمرة الثانية يفاجئني أحمد زكي بحفظه للخطاب”.
ونظر إلى جهاز “الكاسيت”، وقال لي أنت بتسجل، فقلت “نعم”، فأنخرط في الأداء، وعاد بالزمن لمشهد كان به أكثر من رحلة حسية في الأداء، قال أحمد زكي وعلامات الفخر تبدو على وجهه: “السلام لنا جميعا بإذن الله.. لقد جئت اليوم على قدمين ثابتتين لكي نبني حياة جديدة, لكي نقيم السلام وكلنا على هذه الأرض.. أرض الله.. كلنا مسلمون ومسيحيون ويهود.. نعبد الله ولا نشرك به أحدا.. وتعليم الله ووصاياه هي حب وصدق وطهارة وسلام”.
صمت أحمد زكي، وصفقت أنا، لأن شريط الصورة قد مر أمامي، كيف تباينت انفعالات أحمد زكي من جملة إلى جملة ومن إحساس إلى إحساس ومن طريقة أداء إلى أخرى.. متى كان ينظر للأمام ومتى كان يخفي عينيه، إنها محطة مهمة في رحلة “النمرالأسود” مع التمثيل.
قال لي أحمد زكي: ”كانت هناك ولادة متعثرة.. كان بها آلام كثيرة، وكان أملنا أن المولود ما يطلعش مشوه، والحمد لله الجنين طلع مش بطال.. نحن نخدم عليه ونربيه ونطلعه للناس كويس، المهم هو النتيجة..
الحقيقة هناك دائرة عصبية في جسمي لو قطعت بأقول (Stop).. عايز أعمل المشهد تاني، وكل من حولي كان يستغرب ويندهش ويصدم ويرددون: (طب ما أنت ماشي كويس).. وأقول: (بس الصدمة بتاعة الكهرباء هديت.. تأثيرها لسه قدامكوا باين بس أنا بقيت بره).. الحقيقة المشهد لم يجعلني أنام.. الفنان بيبقى عايز مجهوده يروح للناس.. كنت عايز فيلمي يوصل”.
كان الوهن يبدو على نجمنا، ربما إرهاق, لكنه سرعان ما لمح السؤال على لساني، فقال لي: “أنا شلت المرارة ونصف الكبد.. عارف إايه اللي يضبطني.. العمل.. أنا صحتي بتتوزن مع الفن.. نفسي ييجي فيلم بطله واحد صحته حلوة علشان أعمل رياضة، وأنتبه لنفسي.. نفسي أروح مكان أمشي فيه حافي وأترك لحيتي وأرتدي شورت وأنزل الميه.. دماغي شغالة طول الوقت عايز.. ماعرفش!!”.
نعود إلى المشهد الثالث الذي أرتدى فيه أحمد زكي أزهى رداء الأداء التمثيلي، كون الشخصية تتحول من النقيض إلى النقيض في السلوك والإيمان وأشياء أخرى, وذلك عندما تأثرت شخصية “مصطفى خلف” المحامي بظلم من حولها, بل بظلم أقرب الأقربين إليه، وهو ابنه.. “مصطفى خلف” في فيلم “ضد الحكومة” كان قد تلاعب بالقانون وبالحياة, وكان المشهد داخل المحكمة, حيث وقائع جلسة حادث دهس قطار لأتوبيس المدرسة..
“هذا المشهد عندما أشاهده في كل مرة أشعر أنني أشاهده لأول مرة وانفعل به”، هكذا قلت لأحمد زكي، وقال: “أنني قدمت شخصيات كثيرة درجات ظلمها وقهرها متفاوتة, لكني أؤكد لك أنني تأثرت بظلم الحياة والمجتمع لشخصياتي أو ظلمها لنفسها ومجتمعها.. كنت أنفعل معها، كنت أشعر بعد كل أداء لهذه الشخصية أن بداخلي ثورة.. أو أن هناك ثورة لابد وأنها ستقام سواء من الشخص على نفسه أو على المجتمع أو المسئولين عنه، وتذكروا شخصيات هامشية عميقة يكمن بداخلها المواطن المصري وكبريائه وبراءته، بداخلهم القناعة والطموح”.
هناك شخصيات في حياتك تبقى معك حتى نهاية المشوار وتؤثر فيك إلى الأبد، وأحمد زكي من هذه النوعية من البشر إذا دخل حياتك لا يمكن أن يخرج منها حتى بعد وفاته.
الكلمات الدالة
الاخبار المرتبطة