د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران


يوميات الأخبار

أمريكية مع أولياء الله

د.محمد أبوالفضل بدران

الخميس، 29 فبراير 2024 - 08:50 م

لو نظرنا إلى الموالد التى تقام فى مصر والتى تزيد عن 2850 مولداً فى السنة لأدركنا مدى ما يكنه المصريون من حب لآل البيت والأولياء

فاليرى فى صعيد مصر

فى صعيد مصر حيث يذهب السائحون ليروا حضارة مصر القديمة دون أن يلتفتوا إلى مصر المعاصرة تسافر امرأة أمريكية إلى مناطق وَعِرة حيث الجبال والثأر والقبلية، لكن VALERIE J. HOFFMAN فاليرى هوفمان الأستاذة بجامعة إلينوى فى كتابها عن التصوف والصوفيين والمقدسين فى مصر الحديثة تذهب إلى أسيوط وإلى قنا والأقصر وجبل حميثرا، حيث تطوف بالأضرحة وتلتقى الشيوخ تحاورهم لكى تكتب لنا هذا الكتاب الممتع الذى قسَّمَته إلى عدة فصول تدور حول التصوف فى عصر التغير وتجارب الصوفيين وأساليبهم ومناهجهم ومدى تأثير آل البيت الروحى فى المصريين ثم تتناول الأولياء والطُّرق الصوفية وأسسها ومفاهيمها ودور المرأة فى التصوف؛ تورد أمثلة من الأولياء كالشيخ أحمد رضوان (ت 1967) ودوره فى التصوف المعاصر فى الصعيد حيث التقت الكاتبة بابنه الشيخ محمد الذى تحدث لها عن تجربة والده الروحية ومراحلها الثلاثة «الجذب والعلم والاطمئنان» حيث درجة الولاية ثم تحدثت عن الشيخ محمد الطيب الحسانى (ت 1988) الذى زارته فى أيامه الأخيرة بخلوته فى القُرنة غرب الأقصر حيث ذكرت أنه يمثل المتصوف الزاهد الذى يعيش معظم أيام السنة صائما يتقوى على رشفات من اللبن وكيف أنه عالِم وذكرت أن معظم الصوفيين يعدونه قطب العصر بعد وفاة الشيخ أحمد رضوان وقد حضرتْ إحدى مجالس الذِّكر وقالت إن طريقته الخلوتية تتميز بالانضباط والأدب وليس فيها خروج عن التصوف كما تحدثت عن خلفاء الشيخ أحمد رضوان ومن أهمهم الشيخ أحمد ابو الحسن (ت 1994) الذى التقت معه فى مولد الإمام الحسين بالقاهرة وسط آلاف من أتباعه الذين نزحوا من صعيد مصر كى يلتقوا بشيخهم ويحتفلوا بمولد الحسين وقد قال لها «التصوف هو جوهر الإسلام» وحكى لها عن قصة حياته من الضلال إلى التوبة فالولاية فى رحلته الصوفية. كما التقت الشيخ عز العرب الهوارى والشيخ أحمد الشرقاوى ويلحظ أنها قد ركزت على الصوفيين فى صعيد مصر وهذا فى حد ذاته جانب إيجابى إذ قلّما تتناول الدراسات الصوفية مشايخ التصوف فى صعيد مصر وحتى الأولياء الذين وفدوا من العراق كأبى الحجاج الأقصرى (ت1244) أو الذين وفدوا من المغرب كعبد الرحيم القنائى (ت1258) لم يجدوا أتباعاً كثيرين مؤيدين إلا فى صعيد مصر، وكذلك الإمام أحمد الدردير (ت1777) الذى نشر الطريقة الخلوتية فى صعيد مصر.

بيد أن الكاتبة فاليرى هوفمان لم تركز إلا على المشايخ دون المريدين ونسيت بعض المشايخ كالشيخ حسين معوض وأحمد التونى وهؤلاء لهم مريدون كُثر ولم تتوقف حيالهم.

وقد ذكرتْ بعض الشيخات كالحاجة زكية (ت1982) وأثرهن فى التصوف المعاصر كذلك تحدثت عن بعض المقدسات القبطيات كإليزابيت إبراهيم؛ وفى آرائها عن التصوف نجد فهما دقيقا وموضوعية بحثية واضحة.

التصوف فى الصعيد

تعد هذه الدراسة من أهم الدراسات التى تناولت التصوف فى مصر وبخاصة فى صعيد مصر، ويلعب التصوف دورا كبيرا فى الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والثقافية فى مصر فلو نظرنا إلى الموالد التى تقام فى مصر والتى تزيد عن 2850 مولداً فى السنة لأدركنا مدى ما يكنه المصريون من حب لآل البيت والأولياء؛ والمولد هو مناسبة اجتماعية إذ يتلاقى المريدون وغير المريدين لخلق مجموعة اجتماعية خارج أطر النظام القبلى أو العائلى أو المعرفى؛ كما أنه محاولة للتنفيس عن الضغوط النفسية التى تصاحب الإنسان منذ مولده حتى وفاته إذ يقوم المجتمع بدور الرقيب المحافظ الذى لا يسمح بالضحك أو الرقص أو الفرح حيث تقوم أساسياته على الرزانة أو على حد لهجة المصريين «التُّقل»!

أستطيع أن أصنف هذا الكتاب تحت أدب الرحلات إذ تحدثت فيه عن مشاهداتها ويرى د. عويس فى مقاله «الطرق الصوفية فى المجتمع المصرى (الهلال 6/1985) «أن أكثر من نصف سكان مصر يحضرون الموالد» ويندر أن توجد مدينة أو قرية أو نجع فى كل مصر دون شيخ وقبة وضريح ومولد، وقد استطاعت هذه الاحتفالات أن تنمو وتزدهر.

الموالد الصوفية

وُجدت الطرق الصوفية فى مصر والتى تزيد عن 67 طريقة فى الموالد وسيلة للدعاية للطريقة ولشيخها ومريديها كما أن المشهورين من المنشدين فى الأذكار يتبرعون بإحياء ليالى الموالد مجانا على سبيل التبرك والدعاية. وتنشأ الموالد من خلال كرامات تُحكى عن الولى المتوفى وسرعان ما تتناقلها الألسن حتى يتم الاعتراف بالشيخ وبمقامه ومولده، وقد نقلت فاليرى هوفمان VALERIE J. HOFFMAN أن الشيخ أبوالقصان المدفون فى «غرب الأقصر» قد ظهر لأحد ضباط البوليس فى المنام وقال له «فى مولدى لا للمخدرات ولا للسلاح!» وقد أجرت عدة حوارات مع مشايخ الطرق الصوفية وهى حوارات ممتعة إذ صرّح فيها المشايخ عن بعض خواطرهم وجوانب حياتهم وانتقالهم من المعاصى إلى الايمان والولاية وهى أشبه بالسّير الذاتية.

ولم تغفل فاليرى هوفمان المرأة ودورها فى التصوف إذ التقت مع نسوة مريدات ووليات وحكت لها واحدة من المريدات أنها رأت أمها المتوفاة- التى كانت من الأولياء- فى المنام وقالت لها: «يجب أن تتبعى قطب العصر فى كل الأرض» وحاولَت –على عجالة- أن تلقى ضوءا على التصوف المسيحى واليهودى والجماعات الأصولية فى الإسلام ولكن جاء سريعا وربما كان مبرر ذلك أنها تهدف إلى دراسة التصوف الإسلامى المعاصر فى مصر.

عاشقة التصوف

تحدثت فى كتابها عن مشاهداتها وشعورها ويتضح من الكتاب أن السيدة فاليرى هوفمان قد عشقت التصوف لحد أنها آمنت بالكرامات التى وقعت معها شخصيا ومنها ما ذكرته أن الشيخ الشرقاوى قد أخبرها بما جرى بينها وبين رفيق سفرها الذى شك فى تجربتها الروحية كما حكت أن طفلتها الصغيرة تركتها بصحبة أبيها فى القاهرة وعانت من غيابها كثيرا ولكنها أردفت «وآمل فى النهاية أنها ستكسب من بركة الشيوخ؛ كما روت كرامة الشيخ عز العرب التى أعانتها على عبور الطريق دون أن يُقتلوا أو يُسرقوا لخطورة المنطقة فى الصعيد وغير ذلك رغم أن الشيخ أحمد بن الشرقاوى قد ذكر لها فى حوارها معه: «إن ٩٩٪ من الكرامات التى تُحكى «كذب» وقد وصفته فاليرى هوفمان بأنه إنسان كامل.وفى مناقشتها عن التصوف والحداثة رأت أنهما لا يلتقيان وهو حُكم يجب مناقشته إذ يحاول بعض مجدّدى التصوف إيجاد علاقة بين التصوف والحداثة، وعلى هذا فإن مقولتها: «إننا لا نستطيع أن ننكر أن الطرق الصوفية قد خسرت كثيرا من نفوذها السياسى والاجتماعى بالنظم الاقتصادية والاجتماعية الحديثة» هذه المقولة فى حاجة إلى المراجعة وقد لمستُ فى الآونة الأخيرة الأخيرة عكس ما ذكرته إذ التف الشباب حول الطرق الصوفية التى تنتشر فى صفوفه لأسباب كثيرة. يبقى للباحثة جهدها الكبير فى إلقاء الضوء على ظاهرة التصوف المعاصر ومحاولتها تقييمه من عين مُحبة للصوفية على غرار المستشرقة الألمانية أنَّمارى شيمل ANNEMARIE SCHIMMEL التى ترى أن التصوف هو جوهر الحياة الروحية فى الإسلام؛ ولعل المتصوفين أنفسهم فى حاجة إلى إظهار السماحة الصوفية الحقيقية ليراها الغرب وأوربا، ولعل المتصوفين أنفسهم فى حاجة إلى عقْلنة التصوف إن كان الأمر مستطاعا؛ متى نرى هذا الكتاب مترجما للعربية؟

الكتاب ما يزال

أكثر من خمسة ملايين زائر زاروا معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته الأخيرة، خبر أفرحنى كثيرا لأنه ردٌّ علمى على هؤلاء الذين يشيعون أن الكتاب الورقى انتهى دوره ولم يعد له قُراء وأن التابلت والتليفون والنت قد حلُّوا مكانه ولم يعد له وجود؛ هناك من يدّعى أن الشعب لا يقرأ وأن الثقافة قد أضحت من الماضى التراثى العتيق، وأن شباب الأجيال الحالية لا يعرف الثقافة والكتاب وهو كلام مردود عليه أن معظم زوار معرض الكتب من الشباب ولم يفرض عليهم أحد أن يزوروا المعرض وإنما يذهبون فرحين، قد لا يشترون من الكتب إلا من القليل أقلا.. نعم، لغلو سعر الكتب لارتفاع سعر الورق وحبذا لو دعّمت الدولة دور النشر لأن الكتاب لا يقل أهمية عن الخبز، أعود إلى معرض الكتاب الذى أضحى طقسا سنويا تأخذ الأسرة أبناءها ويذهبون، الطلاب والشباب يروحون فُرادى وجماعات والأطفال يمرحون بين أرفف الكتب ويستمتعون بالأنشطة الفنية والثقافية، هذا الحضور البشرى الكثيف يفرض تفاؤلا بالأجيال القادمة وبمستقبل التنوير لذا أهنئ أخى الأستاذ الدكتور أحمد بهى الدين رئيس الهيئة العامة للكتاب وفريق عمله على هذا النجاح المفرح الذى يؤكد دور مصر الثقافى الريادى وقوتها الناعمة كما أسعدنى دور الشباب المتطوعين الذين يرشدون الزائرين المترجلين وأصحاب السيارات نحو مقصدهم مع كثرة قاعات العرض وهذا الشاب الواعد مصطفى عز العرب الذى جمع آلاف الشباب يقودهم فى عمل تطوعى فى مودة واحترام وحسم وهذه من صفات الريادة التى يتمتع بها وزملاؤه الذين التفوا حوله من محافظات مصر كافة. أعود للكتاب الذى سيظل سِفر الخلود وكنز المعرفة وبَوْح الأسرار وهمسة العاشق ودمعة المحزون وآهة الشاكى ورقصة الفرِح.. مرحى بمعرض الكتاب وبقوة مصر الناعمة وشباب مصر الذين يبهرون الرائى.. هى دى مصر.

فى النهايات تتجلى البدايات

قال النّفرى: «إنما أحدثك لترى فإذا رأيت فلا حديث»

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة