صورة موضوعية
صورة موضوعية


د. بهاء الدين فوزى.. ذكر مثقوب

أخبار الأدب

الإثنين، 04 مارس 2024 - 03:07 م

دَخلت إلى غرفة الطبيب برأسٍ مرفوعٍ كأنه ليس بها شىء!.. ومن خلفها أمها تلفُّ جسدها الممتلئ فى إزارٍ فضفاضٍ من الصوف حالك اللون كأنه كفنٌ أسود، تجرجرُ قدميها فى تثاقل وصلصلة خلاخيلها تدق مع خطواتها كأنها أجراس تُنبأ بالخطر، يعترى وجهها الشاحب أمارات القلق والريبة..بالأسابيع الفائتة كلما زادَ انتفاخُ أحشاء بنتها التعسة الصَموت رَبَضَ الخوفُ بصدرها وتنامى فيه كأنه ورمٌ خبيث يحتشد!

اشتم الطبيبُ الحاذقُ رائحةَ الخطرِ فى أنفاسِ الفتاة النحيلة كما عودِ الخيزرانِ.. زفراتُها الطويلة والعميقة تنفثُ أنينًا يصفّر كالأكيارِ حين تنفخ فى النيران، أمرها بالاستلقاء على السرير نظرَ إلى أسفل بطنها مُنهيًا مهمته سريعًا فى أقل مما ينفذ فيه صبرُ أمها التى كانت تقف خلفه كغيمة سوداء مجنحة تتعجل العاصفةَ لترمى بوابلها فوق الرؤوس.

همسَ الطبيبُ بصوتٍ خافتٍ..هى فى الشهر الثالث!
صرخت الأم صرخةً مدوية خرقت الجُدُر إلى أُذنِ أبيها الجالس فى صالة الانتظار بالخارج.. جثت على صدرِها وأنشبت حوافرَها الحادةَ فى وجهها تَنحتُ فيه جيوبًا من الدم بينما كانت ضحيتها مستسلمة تحتها لا تقاوم ولا تنطق كأنها صخرةٌ صلداء.

اقرأ أيضاً | اليوم.. سحر رامي ضيفة «واحد من الناس» مع عمرو الليثي

اقتحم الأب ضخمُ الجسدِ قاسى الملامحِ باب الغرفة، احمّر الشرُ فى عينيه لما رأى المشهد..اندفعت الأم الهائجة نحوه تدكُّ صدرَه العريض بقبضة يدها عدة مرات كنقر المعاول فى أرض متحجرة..دنا من ابنته الراقدة محدقًا فى وجهها المتوارى خلفَ خيوط الدم.. أفعلتِها؟

اعتدلت بظهرها وصوبت ناظريَّها بحدة إلى حيث تستقرُ عينه..عينٌ بعين..فى تحدٍ سافرٍ أومأت برأسها دون أن تحرك فكيها، انسل من بينهم هرول مختبئاً فى ذعره أحس بأن العارَ وحشٌ مسعورٌ يلاحقه وينهشُ فى ساقيه، اختفى بسرعةِ البرقِ كأنه تبخر!

عادت الأمُّ تلطم على وجهها تارةً وتحجل بساقها كغراب كسيح تارةً أخرى.. سقطت بُردَتُها من على ظهرها إلى الأرض تكوَّمت على شكل جسدٍ ملتوٍ حولَ جذعه فى وضعية تشبهُ السجود..حاول الطبيب إخراجَها بالقوة فلم يقدر فقام باستدعاء من يستطع ذلك، أغلق الباب مقتربًا منها يحاول تضميد شىء من جراحِها بينما كانت هى تنفرُ يدَه كنمرةٍ شرسة تتلذذ بشواءِ العذاب فى حشاها كلحمٍ ينضجُ على جمر.

 مُربتًا على وجنتيّها بيديه الدافئتين ألقى إليها نظرةً هادئةً. حاول أن يروّضَ نفورَها منه بسطوةِ عينيه اللامعتين وينقّبَ بداخلها عما يفك به ألغاز حيرته فلم يرَ عليها سِحنةَ الخزى التى دأبَ على أن يراهُ فى أعين (الخاطيات) اللواتى رآهن من قبل بسنواتِ عمله الطويلة! كانت هى الأخرى أيضًا تضمرُ عوزًا لِأنْ تفرغَ ما بأغوارِها كى تُساق غير مُثقلةٍ إلى قدرِها الأخير.. فى النهايةِ لانت جوارحها ومددت ظهرها مرة أخرى على السريرِ وشَرعت فى الحكى لشريكِها الأوحد بقصتِها الآن وربما يكن الأخير بدنياها التى دهست روحَها بِلا هوادةٍ.

كنتُ مع أبى كتفًا بكتف نزرعُ ونقلع معًا..ذات ظهيرة كنا نستظلُ تحت نخلةٍ وحيدةٍ فى غيطنا من طول الكد والكلل نتجرع الماء البارد ونأكل من سقطِها يبدو أن العطب بدأَ يلتهم جزءًا منها..أبى عرفَ بالأمر منى عندما مددتُ له يدى وبها حفنةٌ من رطبِها اليابس وقد أصابته العفونةُ والسوادُ.. أغلق يدى سريعاً لأخبئ ما بها عن أعين عمى المار بنا فى طريقه غاديًا لمنزله من أرضه المجاورة لنا.. فى أعقابه يسير أبناؤه الذكور الثلاثة بانتظام كطابور عسكرى، يتقرّح جوفُ أبى كلما رأى مشهدَهم!

لما زالَ أثرُهم وضع يده اليمنى على جبهته كمن يلوحُ بتحية الجُندِ ليتفادى عَمَى الشمسِ وأمعنَّ النظرَ فى نخلةِ عَمى القريبة فرآها مخضرّة ومثمرة فرَاحَ يقلبُ كفيه لمدةٍ من الوقت..عُدنا بعدها للدار نمتطى حمارنا كان صامتًا يمورُ النكدَ والنقمَ بشقِ قلبه بينما كان السخطُ على أمى يختمرُ على مهلٍ فى الشق الآخر.. فى غبشِ الليل اصطحبَ أبى إلى دارنا رجلاً مُسنًا رثُّ الثيابِ يقال له الشيخُ فلان وأثناء تناوله لقيماتٍ من وجبة العشاءِ استقرَ أبى عند كتفه وفى عينه سؤال باغته الشيخ.. افرغْ ما بجوفك.. فأشارَ إلينا.. أربعةُ بنات وأُمُهن (خمس ولايا يا مولانا) هل يُرضيك أن يقاسمهن فى الميراثِ كتيبةُ أخى؟

أخفضَ الضيفُ اللقمةَ من فمه وشدّ أذنَه اليسرى ووسوسَ فيها ثم غادرنا على عجلٍ.. لم يأبه لمغادرته وكأن الأرضَ دارت به دوراتَها.. بعدها ببضعة أيامٍ أخبرها بأن بناتها الثلاث وسمّاهن إلاى لأبناء عمهن الثلاث، انتفضت أمى.. والرابعة وهى أكبرهن! ثم نظرت إلىَّ بإشفاق.. وكنت حينها فى موضعٍ لا يرانى فيه أبى اذرُ العلف فى المخول للبقرة والحمار.. أردف هذا شرط أخى ورغبة أولاده لإتمام الصفقة.. والشيخ أيضًا قال لا حرجَ فى ذلك وأن انتظار زواج البنت الكبرى بدعة.. والبدعة كُفر يا بنت الكفرة!

همّ بالخروج ثم أدار ظهره لأمى ألا ترينها عجفاء كحبل من الليف لو انتظرناها لن يتزوجن بناتك ليوم الدين حتى ولو لم تتم هذه الزيجة التى تحفظ لهن ولذراريهم الأرض كلها.. على كل حال انتهى الأمر واتفقنا ثلاثة مواسم حصاد.. كل موسم حصاد نزوج واحدة.. نهّق الحمارُ فالتفت للزريبة ليجدنى متجمدة بمكانى وعيناى يسيلُ منهما الدمعُ يحرّقُ خدى ثم يمضى، منزلقًا بفمى شعرتُ به مالحًا كمواساةِ أمى الفارغة!

مَضت ثلاثةُ مواسم بطعم الصبرِ والمُر كانت حياضُ الأرض تحبل فيها وتلد قمحًا وذرة كذلك بطونُ أخواتى تفيض ذكورًا وإناثًا.. أما أنا فحالتى كانت تسيرُ للأسوأ فى صمت.. فى الموسم الرابع صرتُ كنخلتنا التى كانت قد غزاها اليبس من كل جانب وغدت مائلةً توشك على السقوط مثلى تماماً.. لا تعلم متى يخرج التمردُ المتكوم بداخلك من قمقمه.. فى هذا اليوم توّعك أبى وعدنا من عملنا مبكراً ثم جاءت أوامره التى مررها لى عبر أمى الصاغرة دائما بعودتى فى قيظِ الظهيرة لأمر النخلة المائلة سيقصها ابن المرحوم صابر الجمّال ويأخذُ جذوعها أما طرحَها الناشف سيتركه لنا علفًا للبهائم.

النخلة كانت تواسينى وتصدر فحيحًا عندما كنت أشكو حالى لحالها كأن روحًا تسكن بها تأنى معى.. قلتُ لأمى لن أذهب لقطعها.. شهقت.. فتابعت ومن اليوم لن أذهب ثانية للعمل بالغيط، سأجلس بالبيت! أخواتى المتزوجات لم يعملن بالأرض لذلك تزوجن.. ألا تخافون علىَّ من الذهاب فى هذا الوقت الساكن، أليس بزوجك الراقد هذا دماءً ونخوة.. ألستُ بنتًا؟ كوّرت يدها لتلكمنى بوجهى أمسكتها وقبضتُ عليها فأوجعَتها.. فردت بالبصقِ فى وجهى، وقالت بل أنتِ لستِ إلا ذكرا مثقوبا.

انفلتت الكلماتُ منها وضعت يدها فوق فمها لتكتمها عبثًا، انكسرت حينها رغبتى فى المقاومةِ.. امتطيتُ الحمارَ الضخم أركله فى بطنه بقوة مثلما يفعل الرجال أفكرُ فيما قالت مبللةً الطريق بدموعى.. هل هى محقة؟ أليس جلدى صار متشققًا مثلهم.. وشعرى الخشن.. واللحم الذى يكتنز بذراعى وساقى.. وصدرى الممسوح.. وأردافى الضامرة.. وصوتى المحشرجُ كصبى فى طورِ البلوغ.. أليس هذا ما جعلها تفوهت بما شرَّخت به روحَى!

عندما وصلتُ سارعتُ بمسحِ دموعى، فتشت عن الشاب الأجير فوجدته عارى الجسد لا يستر إلا خصره بسروالٍ بالكاد يصل إلى ركبتيه.. معلق برأس النخلة كلما ضرب بذراعه المفتولة تتساقط العراجين كقش يتطاير من عش عصفور أصابه المطر!

لما أحسَّ بوجودى رُسم بعينيه خجلٌ لم أبادله بمثله كنت أراقبُ جسدَه بنهم كزوجةٍ تنظرُ لرجلها فى ليلة عُرس.. وعندما نزلَ أمامى عاريًا لا يغطى جلدَه النَضِر إلا حباتٌ من العرقِ تفوحُ منه رائحةَ الفحولةِ تسمّر بمكانِه يتلعثم لسانهُ فلا يقولَ شيئًا فبادرته: لِمَ تأخذ الجذوعَ أجرًا لك دون المالِ؟ فأخبرنى بأن أباه لم يتركْ له ولإخوته إلا هذا الجملَ وبيتًا بلا سقفٍ! سألتهُ بجرأةٍ ولسانى يتلوى بين شفتىَّ الرَطبتين: ومتى تتزوج إذن؟ قطبَّ جبينَه وطأطأَ عينيه حيث تقف قدميه: عندما يكتمل السقف!.. ثم رفعَهما ثانيةً وتعلقتا بملامحى العطشَى مليًا.. بينما أنا أحملقُ إلى شىءٍ يتحرك بأسفله التفت هو فجأةً إلى شىءٍ آخر يتحرك بالأعلى كأنه حبلٌ متلفف يتدلى من قُبةِ النخلة كان ثعباناً أوشكَ على السقوطِ فوق رأسى دفعنى بكل عزمه حتى انكفأتُ أرضًا وراحَ هو يُجهزُ على الثعبان الساقط بضربةٍ واحدةٍ من بلطته الغليظةِ الحادة.

أقبل على يشدُنى إلى أَعلى ويعتذر بينما أنا متثاقلةٌ عن عمدٍ مرات حتى سقطَ فوقى فاشتبكا جسدانا وحدث بيننا ما يروى ظمأَ سنوات مرت، كل ذلك كان تحتَ أعينِ السماء الصافية وأمام جَملِه الذى كان يهدر ويجفل، ما أن انتهى حتى جلسَ بجوارى يلهث وتسرحُ فى عينيه الندامة..ولملمتُ شتات ثيابى ولكزته بكتفه ألن تأخذ جذوعك حتى تسقف بيتنا؟ توثبَ من جلسته ونفضَ ما بعينيه وراح يضربُ بعنفوان حتى قصّ جذوعَه وشذٌبها ووازنَ أحمالها فوق جمله وساقهُ بعيدًا تاركًا لأبى الطرحَ الناشف!

تقابلنا بعدها عدة مرات كان الشوقُ سيدها وإبرامُ الوعودِ محرابَها يطمئننى أنتِ زوجتى والسماءُ والجملُ شهودُنا.. وأخيرًا اكتمل سقفه المخروق وأقبلَ يزفّ لى بشراه.. تهيئى لحلو الأيام.. لكنه لم يعلمْ أن شر الأقدار المخبوءة كانت ترسمُ لنا الأيام بلونٍ آخر.. ففى ليلة فاحشة السواد سقطت جذوع نخلتنا على رأسه النائم فأخمدتها للأبد كانت أملاً هشًا ومن بعدها لم أرَ جدوى من بقائى فى هذه الحياة إلا تجرعَ المزيد من صنوفِ الكَمد والتعاسة.

فجأةً انتصبت من رُقادها وقالت: أين موضع ابنه يا دكتور؟ فأشارَ متأسيًا إلى حيث موضعِ الرحمِ: هنا.. تسللت يدُها المرتعشة إلى حوضٍ معدنى مستطيل فوق طاولةٍ بجوار السريرِ ثم التقطت منه مقصًا جراحيًا وأودعته حيث أشارَ إصبعُه.. تهاوى جسدُها مضرجًا فى دمائهِ بجوار بردةِ أمها الساجدة..أقبل الأب وبيده مسدس صدئ صار بلا فائدة الآن.. فلما رآها جسدًا هامدًا بقى فيه بصيصًا من النبضِ فلفَّها بكفنِ أمها الأسود وحملها على كتفه تتبعهُ دموعُ أمها النائحةِ ومن خلفهم جميعاً خيطٌ من الدمِ الحار يقتفى الأثر!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة