إلياس كانيتى
إلياس كانيتى


إلياس كانيتى: الكتابة ضـد الموت

أخبار الأدب

الجمعة، 10 مايو 2024 - 12:25 م

أحمد الزناتى

في مطلع ثلاثينيات القرن الماضى أرسل شاب حاصل على درجة الدكتوراه فى الكيمياء من جامعة فيينا مخطوط روايته الأولى إلى أديب نوبل توماس مان، مـسـتطلعاً رأيه. اعتذر مان اعتذاراً مهذباً عن النظر فى الرواية لضيق وقته وكثرة مشاغله. بعد أقل من نصف القرن، سافر الرجل نفسه إلى ستوكهولم لاستلام جائزة نوبل فى الأدب سنة 1981. نتحدث هنا عن الكاتب الألمانى اللسان، الإسبانى الأصل، الحائز على نوبل فى الأدب إلياس كانيتى (1905-1994). 

انشغل كانيتى طوال حياته بمسألة الموت، وكانت أعماله الأدبية محاولة منه للإجابة عن هذا السؤال. قرأت لكانيتى عمله الروائى الوحيد «خطف البصر»، وكتبتُ عنه هنا قبل ست سنوات أو أكثر. 

كانيتى مشهور بكتابة السيرة، وجل أعماله سيرية الطابع، هذا فضلًا عن تدوين الشذرات والتأملات.. سجل كانيتى على مدار حياته ملاحظات وتعليقات عفوية عن زملائه المبدعين، وأقصد بالزملاء من العصور الأدبية كافة: أريستوفانيس، سوفوكليس، دانتي، فلوبير، كافكا، وروبرت فالزر، وجمع فى تلك التدوينات بين التاريخ الأدبى الشخصى للمراقب الدقيق وبين ذات الحالم إلياس كانيتي.

اقرأ أيضًا| القراءة غذاء للروح وشفاء للجسد

فى شخصية كانيتى ملمح عجيب، ألا وهو العاطفية المسرفة، حيث تعامل الرجل مع الأدب انطلاقًا من دوافع سنتمنتالية واضحة، فأعرب مثلًا عن نفوره من أعمال شتيفان تسفايج وتوماس بيرنهارد، بينما أظهر شغفًا هائلًا بأعمال كافكا وروبرت فالزر. ربما لم يكتب أحدٌ عن حياته الشخصية وذكرياته بكل تفاصيلها كما كتبَ كانيتي. تُرجِمَت لكانيتى أعمال قليلة، أشهرها: محاكمة كافكا، والحشد والسلطة، ونار الله، وهو عنوان الترجمة العربية المنشورة مؤخرًا للرواية التى أشرت إليها أول الكلام (واسميتها خطْف البصر). خلَّف كانيتى تركة أدبية هائلة لم تُنشر إلا بعد وفاته، من بينها هذا الكتاب الذى بدأ العمل عليه فى سنة 1937.



ثمة ملاحظة طريفة تكلمت بشأنها مرة مع صديقى الكاتب والمترجم القدير أحمد فاروق وقد أسرتنى ترجمته لكتاب «فهود فى المعبد» وكلام المؤلف عن كانيتي، أما الملاحظة فهى نبرة صوت كانيتي. ثم بعثت إليه بفيديو وجدته على يوتيوب يتكلّم فيه كانيتى بصوت مشبَّع بلكنة إسبانية «مِسَرسعة»، ضاربة إلى نمساوية ممطوطة، تُشبه لكنة المدير «السالزبورجي» فارع الطول، إذ يخاطب الشاب الغَرَّ فى ربيع الزمن الآخر من باب الهزار ويقول له لكسر جديته المفرطة: Achmed, lach net!

شدَّنى هذا العمل تحديدًا، لأنه عمل غير منته، فرأيت فيه مجازًا لما يمكن أن نطلق عليه مهمة الحياة لو صح التعبير؛ عمل واصَلَ المؤلف تنقيحه وتعديله وتزويده بالتعليقات حتى وافته المنية سنة 1994 ولمّا ينته منه. ولم ير هذا العمل النور إلا فى سنة 2014 (أى بعد وفاته بما يقرب من عشرين سنة) عن دار Carl Hanser Verlag. يذكّرنى أسلوب كانيتى (فى بناء الكتاب، وليس أسلوب الكتابة) بكاتب سويسرى تكلمت عنه مطولًا فى كتابى «خدش عظم الحياة» اسمه لودفيج هول. هنا يلتقى بحر الأدب ببحر الحياة.

أشد ما أسر انتباهى فى نصوص كانيتى الشذرية هو إدراكه حقيقة أن هذا الطابع المتشظى هو تعبير عن الكتابة فى أنقى صورها كما سنرى فى الشذرات التى ترجمتُها. بحسب تجربتى المتواضعة يُختزل إبداع أعظم الفلاسفة والكُتاب فى نهاية المطاف إلى جملة أو فقرة أو فكرة واحدة عليها القيمة، وننسى ما سوى ذلك. وأى واحد قرأ أكابر الأدباء والفلاسفة فلن يذكر منهم سوى سطورٍ معدودةٍ، هذا إن تذكّر شيئًا.

> > >
لا يتخذ كانيتى من فعل الكتابة وسيلة لطمأنة نفسه أو بث السكينة، بل كسلاحٍ ماض لمواجهة الموت، وكأنه يُخرج له لسانه قائلًا – وكان كثيرًا ما يخاطب الموت - حتى لو أخذتَنى أيها الموت فستبقى كلماتى دليلًا على أنك لم تهزمني. النقطة الثانية هى اتخاذه من فعل الكتابة وسيلة لإحياء الراحلين بشكلٍ مجازي، على نحو ما نرى فى كلامه إلى أمـه بعد وفاتها. 

رؤيتى لموقف كانيتى إزاء الموت على طرف النقيض. لا يمكن منح أى معنى للحياة، والموت مجرد مرحلة تالية للحياة وجزء متمم لها إلا لو نظرنا إلى الضفة الأخرى.  كل حياة ستبقى خلوًا من المعنى ما دامت مفتقرة إلى كيفية العبور إلى الضفة الثانية. لودفيج فيتجينشتاين تنبّه إلى هذه الحقيقة عندما قال: إن كل شيء سرى وغامض نطلب له تفسيرًا مقنعًا فى حياتنا إنما يكمن تأويله فيما لا نقدر على فهمه، ولكنه مع ذلك حق اليقين.

 شيء يشبه كلام وردزورث إذ قال: إن قوس الوجود البشرى الذى يمتد مثل مدار الشمس الظاهرى من الشرق إلى الغرب، لا بد أن يستمر فيمتد  من الغرب إلى الشرق فى مكان لا تدركه الأبصار.

سألت نفسى ذات مرة: لِمَ يتعلق البشر بالسرد والحكايات؟ السبب – فى رأيى - أن الجزء الذى لم يُروَ من القصة يثير على الدوام فضولنا، لذا نـرى فى موت أحبائنا أو فى احتمالية غيابنا عن القصة – بسبب موتنا – شـرًا مبرمًا، لأننا إما أننا نريد معرفة نهاية القصة، وإما أننا لا نريد للقصة الجميلة أن تنتهي. الإنسان ابن الفضول، ولذلك يفزع إلى الكتابة، فيما أظن.

أما بالنسبة للمُرحبين بالموت، والمدركين أن الموت مجرد خطوة أولى فى طريق طويل.. طويل فخاتمة القصة معروفة. خُلق الإنسان للأبدية، لا للفناء. ومصير كل إنسان بيده. وكلما اعتصرنى ألم أو ألَمَّ بى حزن أتذكر أجمل ما كُتب فى الأدب، أقصد آخر جملة من كارامازوف، فبعد دفن صديقهم وأخيهم الولد الشجاع الفقير إيليوشا عند الصخرة، يقول كوليا: (كارامازوف: هل صحيح ما يعلمنا الدين إياه أننا سنبعث أحياء بعد الموت فى يوم من الأيام فيرى بعضنا بعضًا ونرى إيليوشا؟ قال أليوشا: نعم..نعم.. هذه حقيقة مطلقة، لا تقلق.. سنلتقى جميعًا ذات يوم وسيقُص بعضنا على بعض ما وقع له بفرح ومرح، بهذا أجاب أليوشا)، نلاحظ أن أليوشا/دوستويفسكى قال عمدًا (سيقصُّ بعضنا على بعض)، أى أن الذاكرة/الحكاية موجودة حتى فى النشأة الأخرى، والنص القرآنى حافل بإشارات دالة على وجود سَـرد لما وقع لنا فى الدنيا.    

> > >
اخترتُ الفقرات التالية من كتاب كانيتى ضـد الموت:
«اتخذت اليوم قرارًا بتدوين أفكارى المناهضة للموت كما ترد على ذهنى عفو الخاطر، دون أن أخضعها داخل سياق بعينه ودون أن أفرض عليها خُطة متسلِّطة. ليس فى مقدورى ترك هذه الحرب أن تمضى إلى حال سبيلها دون أن أزرع فى قلبى سلاحًا قادرًا على هزيمة الموت. وسيكون ذلك عذابًا مقيمًا خبيثًا يليق به».

 «فى السرّاء كنت أمارس هذه المسألة على سبيل المزاح أو من باب التهديد الوقح. تخيلت ذبح الموت وأنا فى حفلة تنكرية. كنت سأشق طريقى نحوه متسلحًا بالمكائد المعلنة، متخفيًا داخل خمسين رداء تنكرياً. لكن الموت ما يلبث أن يغيّر أقنعته المرة تلو الأخرى، غير قانعٍ بالانتصارات المستمرة التى أحرزها اليوم، ضاربًا بيده ذات اليمين وذات الشمال، يُغربل ما فى  الهواء والبحار، الكبير والصغير فى عينه مقبول ومريح، يعبُّ فى جوفه كل شيء، ولا يمهل وقتًا لأى شيء. ومن ثم فلا وقت أمامى أنا الآخر. عليّ الآن الإمساك به ومَـسْمَرته فى أول عبارات ترد بخاطري».

«فى مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات ماتت أمي. ومنذ ذلك الحين انقلبت الأرض رأسًا على عقب. أشعُر أن ذلك حدث بالأمس. أأكون قد عشت خمس سنوات حقًا وهى لا تعرف عنى شيئًا؟ أريد إخراج جثمانها من التابوت حتى لو اضطررتُ إلى فكّ كل برغى من البراغى بشفتي. أعلم أنها ماتت، وأعلم أن جسدها تحلّل. لكنى لن أصدَّق ذلك أبدًا. أريد إعادتها إلى الحياة. أين يمكننى العثور على أجزائها؟ معظم أجزاء جسدها كائن بجسدى أنا وأخوتي. لكن هذا لا يكفي. أريد العثور على من كان يعرفها. أريد استعادة كل الكلمات التى قالتها. عليَّ دخول أماكنها، وشمّ زهورها. أريد تجميع المرايا التى انعكست صورتها عليها ذات مرة. أريد معرفة كل مقطع لفظى يمكن أن تكون قد نطقته أمي، وفى كل لغة ممكنة. أين راحت ظلالها؟ أين ذهب غضبها؟ سأعطيها أنفاسي، وسأمنحها قدماى لتمشى عليهما».

شيدتُ مكتبة ستستمر طوال ثلاثمائة عام. الشيء الوحيد الذى أحتاجه هو تلك السنوات.

نحن لا نموت من الحزن؛ بل نواصل حياتنا من مادة الحزن.

أردت العزلة. والآن ها هى بين يدىّ. هل هذا هو ما أريده الآن؟ العزلة موجودة فقط لمواجهة الأحياء. لا توجد عزلة لمواجهة الأموات. الأموات موجودون دائمًا وأبدًا.

كل الفنانين بلا استثناء أكلة لحوم أسلافهم.

آه..رأيت موت بيروتس (يقصد الكاتب النمساوى ليو بيروتس مؤلف رواية حبل الروح) على طاولتى بالمقهى. 

«مع كل ساعة تقضيها بمفردك، ومع كل جملة تصوغها بقلمك تستعيد جزءًا مفقودًا من حياتك. لم يُخلق مَن هو أسعد مِن إنسان يكتب، لاسيما لو كان يكتب كتابة مسترسلة دونما توقف، ولم يُخلق من هو أشدَّ بؤسًا من إنسان عَزَف بإصرار وعبث عن سعادة كهاته. اكتُب حتى ترتخى أجفان عينيك، أو حتى يسقط القلم من يديك. اكتب دون أن تضيَّع ثانية فى التردد أو التفكير كيف على الكلمة أن تخرج من بين أصابعك.

اكتب بوازعٍ من شعور بالضيق من حياةٍ غير مستغلة، من حياة انتفخت وتضخّمت حتى صارت كجبل أشمَّ جاثم على روحك. اكتب دون أن تدبِّر لنفسك مائة خطة ولا أن تقيد نفسك بمائة قيد، مسكونًا بخطر ألا تستمر عملية الكتابة أو أن تتفتّت الكتابة نفسها.

اكتب لأنك لا تزال تتنفّس، ولأن قلبك لا يزال ينبض، حتى لو كان قلبك معتلًا. اكتبْ حتى تخرّ الجبال الجاثمة فوق قلبك هدًا، اكتُب لأن أمـة من العمالقة تنوء بحمل ثِقَل الجبال الراسية فى أعماقك. اكتب حتى تغمضَ عينيك إلى الأبد. اكتب حتى لحظة الاختناق».

«فقط عبر الجمل المبعثرة المتناقضة يمكن للمرء أن يجمع شتات نفسه؛ يمكنه أن يصير مخلوقًا مكتملًا دون أن يفقد الجوهرى من ذاته، ولا أن يكرر نفسه، أْن يتنفّس بحق من دون أن يبرّر نبرة كتابته، ولا أن يرتدى أقنعته، ولا أن يخشى حقائق  وجوده، ولا أن يحول أكاذيب حياته إلى حقائق. أن تكتب يعنى أن تصبَّ جامّ غضبك على الموت، ثم تختفي.

الموت هو:
القاتل الذى لا يستطيع إفلات كلمة قاسية من بين شفتيه
القاتل الذى يذبح الأبرياء قبل أن يصيروا آثمين
القاتل الذى يُنقذ ضحاياه.
القاتل الذى يُبدى الحزن الحنون على كل من خلَّصهم.
القاتل الذى يشيّد المقابر لِمن أنقذهم.

> > >
ينتابنى الفضول بشأن المحادثة الأخيرة فى حياتي. تراها مع من ستكون؟
ما فائدة الماضى الذى تبذل نفسك لأجله لو لم يكن ثمة مستقبل؟ أم هل فى مقدور الإنسان أن يصرف عن ذهنه صورة نـهر الزمن المتدفق مرة واحدة إلى الأبد وأن يخرجها من رأسه؟

أن تتخيل الزمن غرفة تهب عليها الرياح من هنا وهناك، غرفة لا نهر فيها. 

أسأَل أولئك الثابتين الصامدين: كيف نجحتم فى فعلها؟
أسأَل رابطى الجأش: مِن أى معدن صُنعتم؟ وعندما تمضى الأمور كيف تتنفسّون؟ وعندما يعمُّ الصمت ماذا تسمعون؟ وحين لا يقوى المتعثّرون على النهوض مجددًا كيف تذهبون إلى حال سبيلكم؟ كيف تعثرون على الكلمات؟ ما الريح التى ترِفُّ لها أجفانكم؟ عندما تغرُب شمس الأعين أين تجدون نوركم؟ 

> > >
هو رجل يذرف الدموع على صديق نسى اسمه.
العلاقة بين الموت والحب علاقة جمالية محضة، وإنها لخطيئة لا تُغتفر أنْ كان الحب سببًا لتعظيم قيمة الموت. 

سألنى رجل صالح عن الطريق. فما كان جوابى إلا أن قلت إنى لا أستطيع إخباره. شيّعنى الرجل بنظرة ودودة وعلى وجهه أمارات الدهشة. لم ينبس بكلمة وبدا راضيًا بما أخبرته. مضى فى طريقه، ومن الطريقة التى كان يمشى بها استنتجتُ أنه لن يسأل شخصًا آخر. بقيت أتابعه ببصرى حزينًا. هل كان عليَّ إخباره بالحقيقة؟  كنت أعلم أنه يمشى فى طريق الموت لا محالة، أن الموت كان فى انتظاره على أية طريق كنتُ سأشير عليه بها. ولو كان يعلم ذلك لما حرَّك ساكنًا. كان فى الوقوف خلاصه الوحيد. هتفت به: توقّفْ. 

سمِعَني، ولكن بما أننى قد صددته آنفًا لم يتوقف وتابع المشي. صِحتُ فيه: توقّف، فهرول الرجل مسرعًا، فرفعتُ عقيرتى بالصياح، وأنا أتألم لذنبى وشرعت فى الجري.

 أنقِذنى يا كافكا! لن تنقذني؟ هل تحتقر وزنى وشهوتى وكِبَر بطني؟ ألم يكن فلوبير أثقل منى وزنًا، هل كانت شهوة فلوبير للجنس أشدَّ مني؟ أين أعمالكَ؟ أسمعكَ تقولها. آه ، لا وجود لها، لا وجود لها.

هل السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة هو الزهد؟ لم أتخذ كيركجارد ولا فلوبير قدوةً قط؟ بل اتخذت ستندال وجوجول وأريستوفانيس، ولم يكن هؤلاء بأقل من الأوليْن قيمة؟ الكتابة صلاة أيضًا بالنسبة لي، فهى الشيء الوحيد الذى أعرفه. وقضيتى [الإشارة إلى رواية كافكا فى اعتقادنا] فى موتي، وملف القضية لا يزال مفتوحًا [ربما لا تخفى على القارئ إشارات كانيتى إلى قصة كافكا فنان الجوع، وإلى محبة كافكا العميقة للكاتب الفرنسى فلوبير وفق يومياته، وإلى عبارة كافكا الشهيرة الكتابة ضرب من الصلاة، وأخيرًا إلى رواية القضية]. 

رجل مات فى أثناء نومه! فى أى حُلم إذن؟ يودّ لو مات فى أثناء الكتابة، قبل أن ينتهى منها تمامًا. يودَّ إكمال جُملة، ثم الزفير قبل الجُملة التالية، يودّ لو مات بالضبط بين اللحظتين.

أنت أقل مصداقية من كافكا لأنك عِشتَ زمنًا طويلًا.

ولكن؛ لو كان كل هذا عبثًا بحق، ولو كانت ثمانية وثمانون عامًا ذهبت أدراج الرياح، ولو كانت كل ساعة من كل يوم وكل شهر، و كل سنة صارت هباءً منثورًا، فلِمَ تواصل تدوين ما يزعجكَ دون انقطاع ؟ 

[أقول]: ألم تُكتب هذه الجُمل ليقرؤها إنسان ما، ولتخترق حواسّه، وليأخذها بقوة، وليضَعها فى اعتباره، وليضع نهايةً لها؟

> > >
من بين ما لفت انتباهى وأنا أطالع الكتاب رسالة بعث بها إلياس كانيتى إلى الروائى النمساوى الشهير توماس بيرنهارد (وليكن الله فى عونى على هذيانه الفنى الملعوب!) ينتقد فيها موقفه الأخير من مسألة الموت، ربما تقرّب إلينا فكرة كم كان كانيتى عاطفيًا مسرفًا فى عاطفيته. تقول الرسالة:

3 مارس 1976
عزيزى توماس بيرنهارد،
لقد انتقدتكَ بقسوة، وها أنتَ الآن تخبط خبط عشواء. إنك تعرف جيدًا مدى جديتى فى التعامل مع أعمالك. وكنتُ شديد الانبهار كما أخبرتكَ بنفسى بـ»الأثر المزعج» فى أعمالك، حتى قرأت عندك العبارة التالية: «الموت هو أفضل ما لدينا».

صدمَتنى تلك العبارة بوصفها تجسيدًا لنزعة تشاؤمية (كلبية) بشعة، خرجت من فم رجل كان على مرمى حجر من الموت، ونجح فى الإفلات منه. ولا أحـد أفضل منك يعرف كم نحن ملوثون بالموت. وإنك باتخاذك موقف المحامى المدافع عن الموت يملؤنى بعدم الثقة فى أصالة أعمالك. لأننى على اقتناع بأن هذا الموقف يُضعفها، ولهذا أردت إخبارك برأيى على الملأ. أعلم إنك تنفجر غضبًا إزاء أى لون من ألوان النقد. ونظرًا إلى أننى لستُ صحفيًا متملقًا، فقد فكّرتُ أنَّ لكمة قوية من جانبي، تحسُّ بها على أرض الواقع أكثر مما تحسُّ بها وأنتَ تصرخ، ربما تردّكَ إلى صوابك. أليس بجانبك من يصارحك بالحقيقة؟ أم تُراك صِرتَ غير مبالٍ بها؟
المخلص إلياس كانيتي

> > >
من أواخر ما كتب كانيتى فى كتابه ضـد الموت (1994)
ها قد حان الوقت لأعيد تذكير نفسى ببعض الأشياء. من دون الكتابة أتلاشى. أشعر بأن حياتى تتحول إلى تنظيراتٍ قاتمة مملّة، لأنى لم أعد أكتب أشياء عن نفسي، لكنى سأسعى إلى تغيير ذلك.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة