بول أوستر
بول أوستر


رجوع الشيخ إلى قَصر الورق

أخبار الأدب

الأحد، 12 مايو 2024 - 05:23 م

محمد عبد النبى

«بعد حادثة ورحلة علاج طويلة، يبدأ هذا الكاتب، واسمه نِك فى التعافي، ويُراود الكتابة عن نفسه، فى محاولات مضنية، ليخرج من الأزمة المالية ويستعيد نفسه وحياته.

يعثر بضربة حظ على دفتر كتابة برتغالي، فى متجر اسمه قصر الورق يملكه صينى غريب الأطوار. تعجبه الدفاتر البرتغالية، بل تفتنه. كانت بسيطة ومتينة، اختار الأزرق. يقول الصيني: لا برتغال بعد اليوم. ويقصد إنه لن يرد إليه شحناتُ أخرى من تلك الدفاتر. فى اليوم نفسه، وفى غرفة عمله، تأتى الكتابة، ببساطة. وتتابع الدوامات الصغيرة المتشابكة، حبكات تتفرع عنها حبكات، رواية أخرى داخل الرواية. ثم يصل بطلنا إلى طريق مسدود. اتخذ الدفتر الأزرق قراره الخاص، ولا كلمة واحدة أخرى، لا مزيد.»

ما سبق جزءٌ من رجوع الشيخ، [روافِد-2011]، محاولتى الروائية الأولى المكتملة والمنشورة، حيث يُطلُّ شَبَح بول أوستر، عبر الحَبكة الأساسية لروايته ليلة التنبؤ. 

إن كانت لديَّ قائمة من عشر كتَّاب معاصرين تركوا أعظم الأثر عليَّ وأمتعونى كقارئ أولًا، فلا بدَّ أنَّ أوستر سيكون من بين أوَّل خمسة. لا أذكر الآن إن كان لقائى الأوَّل معه كان فى ثلاثية نيويورك أم ليلة التنبؤ أم بلاد الأشياء الأخيرة، وعلى كلٍ فالدهشة كانت هى رد الفِعل المبدئي، الذى تواصلَ بدرجة أو بأخرى مع كل كتاب له سواء رواية أو مقالات أو كتاب سِيرى غير تخييلي. 

أوستر ليس ناثرًا استعراضيًا ولا يحكى حكايات مُبهرة من حيث الغرابة أو الغموض، لا يرسم شخصيات مفارِقة ونادرة المثال، لا يختال أمامَ عينى قارئه بقاموس مفرداته وتراكيبه البلاغية وأسلوبه المنمَّق، لكنه مع ذلك يعرف كيف ينسج شَبكة سِحْره الهادئ مع كل كلمة، فما يلبث قارؤه حتَّى يجد نفسه مغمورًا ومغموسًا بالحكاية والعالَم والشخصيات والنبرة والتوجُّه النَفسى العام للنص. 

أوستر أيضًا أحد أسطوات الميتاليترشر-  metaliterature ، وهو الأدب الذى يتناول طبيعة الأدب وموضوعاته، عندما يستحيلُ النص الأدبى إلى نوعٍ مِن نَرجس (نارسيوس) ذلك الفتى الجميل الذى يتأمَّل صورته على سطح الماء حدَّ الافتتان وربما الجنون. 

فى رجوع الشيخ كانت الكتابة الروائية نفسها بطلًا إلى جانب شخصية أحمد رجائي؛ وهو شيخ يكافح لإنهاء روايته الأولى بعد سلسلة طويلة من المحاولات المخفقة وغير المكتملة. فى لحظة نزق اشترى دفترين لتسجيل فكرته الجديدة، عن حياته ورحلته، دفتر للنَص وآخَر لأفكاره حول النص، وفى السياق يتذكّر حكاية الدفاتر البرتغالية التى نفدت فانحبست معها مياه الإبداع لدى نِك. 

أتقاسَم مع أوستر الميل للكتابة عن الكتابة داخل النص الأدبي، بدرجات مختلفة فى كل نص، كما أتقاسم معه الافتتان بالأدوات المكتبية وخصوصًا الدفاتر، له كتيب بديع فيه بضع مقالات عن المصادفات فى حياته اسمه الدفتر الأحمر، أو بالأدق الكراسة الحمراء. 

يكتب أوستر أعماله أولًا بيده، بالقلم فى دفاتر لها نوع وشكل محددين، قبل أن يبدأ فى تحريرها ونسخها على الكمبيوتر أو الآلة الكاتبة. هذا ما صرَّح به فى حواره الممتاز مع الباريس ريفيو والذى ترجمه العزيز أحمد شافعى فى كتابه بيت حافل بالمجانين (الجزء الأول منه، الهيئة العامة للكتاب، 2015). 

يضفى هذا على فِعل الكتابة مِسحة ذاتية حميمة، بل تكاد تكون فيتشية، ويحتفى بطُرق عَمل تكاد تندثر، بعد كَم من السنوات بعد الآن لن نعثر بالمرة على مخطوط كامل بخط يد كاتب راحل؟ كما أنَّ الكتابة لديه تتخذ شكل الجهد البدنى إلى جانب ارتحال العقل والخيال، لطالما ربطَ بين فِعل الكتابة والمشى فى الشوارع، التسكَّع شيء أساسى لديه ولدى شخصياته، والتقدم خطوة بعد أخرى على أرصفة نيويورك يشبه كثيرًا التقدّم كلمة بعد أخرى على السطور.

بطريقةٍ ما، أوستر دَقَّة قَديمة فى كتابته، حتَّى فى طرائق سَرده، لا مانع لديه أن يعتمد حبكة بوليسية وأن يستعين بفواتح شهية مجلوبة من عالم الألغاز الرخيصة أو الأفلام التجارية، لكنه يحوّلها إلى شيء آخَر بمجرد أن يدخل فى التفاصيل. يعتمدُ الإخبار منهجًا غير مكترث بمتعصبى الكتابة المشهدية السينمائية، يوقف السرد ببساطة ليصف شخصًا أو مكانًا، ثم يعود للحكاية بكل بساطة وأناقة، ومع ذلك لا تكاد تشعر بوجوده ككاتب، أوستر نفسه شَبح، إلَّا حينما يصبح هو نفسه مادة لكتاباته غير الخيالية، فيتجسَّد ويتأنسن.

كانت فرصة سعيدة للغاية، بالنسبة إليَّ، أن أترجمَ له أحد أعماله، تمكبتو، التى لم تخلُ من ثيماته المفضَّلة، التشرد والجنون وكاتب محبَط يعقد علاقة صداقة عميقة مع كلبه السيد بونز [عِظام]، تروى القصة على لسان الكلب الذى يواصل حياته من مكان لآخر، بعد رحيل سيّده. كما لم تخلُ أيضًا مَن الدفاتر، الدفاتر التى جمعها ويلي، الشاب المضطرب عقليًا، وأرسلها إلى معلّمته فى المدرسة الثانوية التى كان يراسلها وتشجعه على مواصلة الكتابة. 74 كراسة «ضمَّت قصائد وقصصًا ومقالات ويوميات وشذرات وتأمّلات فى سيرته الذاتية والألف وثمانمائة بيتٍ الأولى من ملحمة قيد العمل، هى أيام الشريد...» 

لن يعرف ويلى أبدًا مصير تلك الدفاتر، لا هو ولا كلبه السيّد عِظام، كلاهما الآن شبح. أمَّا نِك، ذلك الكاتب فى ليلة التنبؤ، فسوف يبقى بطله محبوسًا، فى مخبأ عتيق تحت الأرض، مخبأ مقاوم للقنابل الهيدروجينية، بحوائط مزدوجة سمكها أربعة أقدام، والوحيد الذى يمتلك مفتاح هذا المخبأ ويعرف بوجوده هنالك يُسلمُ الروح فى المستشفى. لا مزيد، إنها لعنة الدفاتر البرتغالية. تلك بعض أشباح أوستر وبعض دفاتره التى اكتملت الآن وأطلقها ترفرف مثل طيور ملونة فوق رؤوس القراء، ووضعَ قلمه وعاد إلى بيته الأصلي، ربما فى وسعنا أن نتخيله قصرًا من ورق. 

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة