بول أوستر
بول أوستر


أوستر.. والنسخ الأخرى من الواقع

أخبار الأدب

الأحد، 12 مايو 2024 - 05:34 م

أحمد سعداوى

لم أكمل بعد قراءة كلّ الأعمال المنشورة لبول أوستر، ربما لأننى أوفّرها لأيام القراءة الجيّدة؛ فى السفر أو أوقات الإجازات، حيث تعلم يقيناً أن الكتاب الذى يرافقك سيضمن لك متعة ازجاء الوقت بقراءة فاعلة ومشبعة.

يحدث إرجاء القراءة هذا مع ساراماجو وبضعة كتّاب آخرين أحتفظ بكتبهم، التى لا أرغب أن أخوض معها مجرد قراءة عشوائية ومتقطّعة.

مع ذلك فإن أوستر، يصطفّ مع قلّة من الكتّاب المحليّين أو العالميين الذين أثروا على مسار تجربتى بشكل كبير. أتذكر المرّة الأولى التى تعرّفت فيها على رواية لبول أوستر.

كان ذلك فى منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين كنّا، فى العراق الخاضع للعقوبات الدولية، والمحاصر من كلّ اتجاه، نتبادل الكتب ولا نشتريها، وننسخ من خلال أجهزة الفوتوكبى تلك الكتب النادرة التى تعبر الحدود إلينا.

كانت هناك نسخة واحدة حملت بصمات أيدى قراء عديدين من رواية (بلاد الأشياء الأخيرة) قد وصلت الى يديّ. كنت ممتناً أنها نسخة أصلية وليست مصوّرة. قرأتها خلال يوم واحد، ثم أرجعتها إلى صاحبها فى اليوم التالي. وكانت تلك القراءة السريعة ضرورية لضمان حركة الكتب المستعارة، وديمومة هذه الشبكة من تبادل الكتب من دون مشاكل.

بعد سنوات، فى منتصف 2004 فى زيارتى الأولى لدمشق، عثرت على النسخة ذاتها، من منشورات دار الآداب البيروتية، فى إحدى المكتبات فسارعت إلى اقتنائها على الفور. اشتريت معها العديد من الكتب والروايات التى قرأتها مصوّرة بالفوتوكوبى سابقاً. كان الأمر أشبه بإعادة الصلة الطبيعية مع الكتاب، ومغادرة «أشباح» الكتب فى فترة الحصار الخانقة.

مثّلت لى القراءة الأولى لـ(بلاد الأشياء الأخيرة) ما يشبه الغطسة العميقة فى عالم من الصدمات الجمالية والذهنية، لعدّة أسباب، لعلّ منها؛ أن بول أوستر كان يحكى فى الرواية عن مدينة هيتروتوبية تشبه بغداد فى تلك الفترة. مدينة مغلقة تستهلك وتجترّ نفسها مع أناس مشوّهى الأرواح يفكّرون بالموت أغلب الأوقات أو بمحاولة الهروب والنجاة، كما فعل بطل الرواية فى نهاية المطاف.

كذلك فإن هذه الرواية ومعظم أعمال أوستر التى قرأتها لاحقاً سايرت مزاجى الخاص فى الروايات والقصص المفضلة، وهو ما غدا لاحقاً المساحة التى عملت عليها فى أعمالى الأدبية، ألا وهي؛ ذلك المزج الحرّ بين الوقائع وممكنات الخيال غير المحدودة. تلبس النقد الاجتماعى والسياسى والفكرى مع استعارات غرائبية وفانتازية. فحص الأسئلة الوجودية الكبرى عن الذات والعالم من خلال الفرضيات الخيالية.

هذه التوصيفات كانت عناصرها ومفرداتها تمتدّ بالطبع، فى نسغ متدفّق من الأساطير القديمة وألف ليلة وليلة والحكايات الشعبية والملاحم وحكايات الديكاميرون إلى كافكا وأدغار آلان بو والموجة العاتية لأدب أميركا اللاتينية وعرّابهم خورخى لوى بورخس، ثم مع كتّاب معاصرين مثل ساراماغو وانطونيو تابوكى وباتريك زوسكند ويان مارتل وبول أوستر.

يكتب أوستر رواياته فى حيّ مانهاتن بنيويورك، بحريّة كاملة كما يمكن أن نتوقّع، فى قلب العالم المعاصر، أو حسب ما يصف توماس فريدمان نيويورك، بأنها: روما العالم الحديث.

ولكنه يصف عالماً كئيباً ومنقسماً، مهدداً فى أيّة لحظة بالتلاشى والانهيار (رواية رجل فى الظلام، وفى فكرة مقاربة نفّذت الكندية مارغرييت إيتوود روايتها «حكاية الأمَة»). إنه على الأغلب يتواصل مع تلك الطبقة العميقة من الحياة التى يعيشها، أو تلك التجربة الانسانية المشتركة، التى لا يختصّ بها وحده، وإنما آخرون فى أصقاع أخرى من العالم. إنه كاتبٌ غير راضٍ عمّا يراه، ويقلّب الخيارات الأخرى المحتملة التى كان يمكن أن تحدث. وهى ذات الفكرة التى عاد إليها مرّة بعد أخرى حتى عمله الأخير (4321).

إنه غير راضٍ أيضاً عن سطحية الاقرار بأن العالم الواقعى بمجرياته التى يمكن رصدها بالعيان، هى كلّ ما لدينا عمّا نصفه بأنه «واقع».

الواقع، حسب أوستر وكتّاب آخرين يمتد مشغلهم التفكيرى حتى جماعة الرواية الفرنسية الجديدة، هو كلّ ما يدور فى الواقع العيانى وما يدور فى دواخلنا مع أحلام وافتراضات وهو أمرٌ رسّخته الرواية الحداثية ابتداءً من جويس وفولكنر وبروست وفرجيينا وولف ولكنه اتسع لاحقاً حتى قلب كتّاب مثل بورخس الطاولة كاملة، وصارت المقترحات المقموعة للواقع والافتراضات والكوابيس والأحلام هى العنصر الأساسى فى الحكاية عن الواقع.

يثرى بول أوستر بهذه المقترحات الصورة الشاملة عن التجربة التى عايشها ويقدم لنا شهادة عنها، يوسّع من قماشة الحياة المعاشة بتلك الأجزاء التى ألقيت جانباً، كما فى النسخ المتعدّدة من حياة آرتشى فيرجسون فى (4321).

رحل عنا بول أوستر، ولكنه ترك لنا رفّاً عظيماً من الروايات التى تستحقّ القراءة، وتضمن مع أى كتابٍ منها متعةً ذهنية وجمالية تعزّز عندك من أهمية القراءة وفائدتها، وقدرتها على تقليب الواقع المعاش وفحص الجوانب التى يميتها الاعتياد والروتين، وتحفّز اليقين عند المشغولين بالكتابة بأن هناك دائماً الكثير مما لم يكتب بعد وما يجب كتابته.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

مشاركة