دانتي يحمل الكوميديا في لوحة دومينيكو دي مشيلينو
دانتي يحمل الكوميديا في لوحة دومينيكو دي مشيلينو


كائنات «أبو معشر البلخى في الكاتدرائيات القوطية

أصداء «رسالة الغفران» في لوحات عصر النهضة| «النعيم والجحيم».. رؤية المبدع المسلم وصلت أوروبا

آخر ساعة

الجمعة، 24 مايو 2024 - 03:20 ص

■ كتب: رشيد غمري

منذ بدايات عصر النهضة، تضاعفت اللوحات والجداريات التى تصور تفاصيل الجنة والجحيم. وهى الآن بالمئات، وتشكل معظم مخيلة الغرب عن الحياة بعد الموت. ويعتقد الكثيرون أنها تمثيل بصرى لنصوص الكتاب المقدس، كغيرها من موضوعات بدء الخليقة وفق العهد القديم، أو سيرة المسيح وحياة القديسين نقلا عن الأناجيل. لكن مجموعة معتبرة من الباحثين فى تاريخ الفن ترى أن أغلب تلك اللوحات والجداريات التى تصور الآخرة في كنائس وكاتدرائيات أوروبا، تنطلق من تصورات إسلامية. فلماذا، وكيف انتقلت تلك الصور إلى الفن الغربى؟

◄ أثر المعراج الإسلامى يظهر في تصورات الغرب عن السماء 

فى كتابها «فن الأبدية» ترى فيكتوريا تشارلز أن الإيمان ببقاء الروح، يقود إلى اختلاف حياة الإنسان فى الآخرة وفق عمله فى الدنيا، وما إذا كان طيبا أو شريرا. أما تفاصيل ذلك فتختلف حسب العقائد والتصورات الثقافية والأخلاقية. وتحفل المخيلة الغربية بتصورات عن عالم سفلى مخيف ترتع فيه الأشباح تحت الأرض، كما صوره الأديبان اليونانى والرومانى القديمان. وبعضها له جذور فى حضارات مصر والعراق. كما يوجد رافد أحدث، تمثل فى كتابات ورسوم علماء وأدباء المسلمين التى تناولت العالم الآخر. ومنها كتب الفلكي والمنجم من العصر العباسى، أبو معشر البلخى، بكائناتها المخيفة من العالم الآخر، التى تحيلنا إلى بعض شخصيات الجحيم في الفنون الأوروبية اللاحقة، وحتى التماثيل المخيفة في عمارة الكنائس القوطية. ونظرا لرعب وقسوة العصور الوسطى، فقد حظى الجحيم باهتمام أكبر من نعيم الجنة فى الفن الغربي.

◄ قيامة الغرب
فى عام 1307 رسم الفنان الفلورنسى «جيوتو» جدارية «الدينونة الأخيرة»، بكنيسة «سكروفيني» في «بادوفا»، التى يعتبرها البعض نقلة فى تاريخ الفن، حيث تنبض بالحياة والطاقة والمشاعر على خلاف تسطيح ونمطية الجداريات البيزنطية. وهى تصور المسيح فى نهاية العالم وهو ينفى العصاة إلى الجحيم فى الأسفل، ويصطفى المؤمنين إلى الجنة. ووفق المؤرخ «جورجيو فاسارى» فقد كان الفنان صديقا للأديب الإيطالى «دانتى» وأنه شاهد الجدارية.

وفى متحف «سان ماركو» بفلورانسا كتاب بعنوان «الدينونة الأخيرة» أيضا، يرجع لأواخر القرن الخامس عشر، ويتضمن رسوما للفلمنكى «سيمون مارميون» منها رسم بعنوان «آلام الجحيم» يصور عذاب الكهنة والراهبات غير الملتزمين بالعفة، ويصورهم فى عدة فجوات تحت الأرض، يتلقون ألوانا من العذاب. وفى الدرك الأسفل يقبع الشيطان آكلا أحدهم. أما «حديقة المسرات الأرضية» فهو عنوان لوحة من ثلاثة أجزاء، تتناول صورا للنعيم والجحيم، رسمت فى القرن الخامس عشر للفنان «هيرونيموس بوش»، وله لوحتان أخريان بمتحف «دوكالى» بـ»فينيسيا» هما «الجحيم اليائس» و»صعود المباركين» عن الموضوع نفسه.

◄ الدينونة الأخيرة
كذلك هناك لوحة «الدينونة الأخيرة» لفنان عصر النهضة الأشهر «مايكل أنجلو» بكنيسة «سيستين» بالفاتيكان، التى رسمت قبيل منتصف القرن السادس عشر، تتناول الموضوع نفسه. ولوحة «التكريم الإلهى للقديس «إغناطيوس» من أواخر القرن السابع عشر، وتصور الجنة كمكان لتكريم القديس. وفى القرن التاسع عشر لوحة الشياطين مع «دانتى» و«فريجيل» بجانب البركة، التى تصور الدائرة الثامنة من الجحيم حيث يتعذب السياسيون الفاسدون فى نظر «دانتى».

وهى تذكرنا بلوحة الفنان «دومينيكو دى ميشيلينو» من القرن الخامس عشر، التى تصور «دانتى أليجيرى» وهو يمسك نسخة من كتابه الشهير «الكوميديا الإلهية»، وفى خلفيته مشاهد من مدينته فلورانسا ومن الجنة والجحيم. وبشكل عام يعرف دارسو تاريخ الفن تأثر أغلب تلك اللوحات بـ»الكوميديا الإلهية» لـ»دانتى»، وليس الكتاب المقدس. والسبب فى ذلك وفقا لـ«ديل تى إرفين» رئيس المدرسة اللاهوتية فى نيويورك هو عدم وجود صور تفصيلية لمفهومى الجنة والجحيم فى العهد القديم، ولكن فقط «شيول» الذى يشبه مكانا للنوم، مقابل جنة عاش فيها الإنسان يوما ما. أما فى العهد الجديد فالموت نوم تعقبه قيامة عامة وعودة للأرض، مع وصف للجحيم فى إنجيل متى بأنه فرن نار.

وهو يرى أن «الكوميديا الإلهية» بدت غريبة برؤاها ومشاهدها التفصيلية والحسية حول العالم الآخر. وقد عبر الفن منذ ذلك الحين عن ذلك العالم العلوى بين السحاب الذى جرى تصويره طوال عصر النهضة مستلهما «دانتى». 

◄ كوميديا دانتي
يعتبر «دانتي أليجيري» الأب المؤسس للأدب الإيطالى، وأول من كتب بالإيطالية التى كانت عامية منبثقة عن اللاتينية الرسمية. وهو ابن فلورنسا، ويعتبره البعض من آباء النهضة الأوائل رغم عيشه بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قبل اتضاح مظاهرها. و«الكوميديا الإلهية» هى أشهر أعماله. ويقصد بلفظ «الكوميديا» هنا النوع الأدبى الذى يبدأ بالمصاعب والأحزان، وينتهى نهاية سعيدة، على عكس التراجيديا.

وهى ملحمة شعرية تنقسم إلى ثلاثة أقسام هى الجحيم والمطهر والنعيم، مجموعها مائة أنشودة، وتتضمن 14233 بيتا. وتحكى قصة خيالية قام بها «دانتى» فى العالم الآخر بصحبة الشاعر الرومانى «فيرجيل» - صاحب «الإنياذة» الشهيرة، الذى عاش فى القرن الأول قبل الميلاد - حيث قضيا يومين فى الجحيم، وأربعة فى المطهر حيث يكفر عن الذنوب، ويوما فى الجنة. وهى تعالج الموضوع من منظور أخلاقى كاثوليكى، ووفق فلسفة العصور الوسطى.

وتسند أصل الشر فى العالم للشيطان العاصى، كما تدعو البشر لاكتشاف الشر فى قلوبهم ممثلا فى الحسد والبخل والطمع. وتظهر فيها «بياتريسا» حبيبة «دانتى» وملهمته الراحلة، تعاون «فيرجيل» فى قيادة الأبرار نحو الخلاص، رغم أن الأخير لم يلحق بالمسيحية، لكنها وحدة الحقيقة الإلهية عند «دانتى» التى يرى البعض أنه تأثر فيها بابن عربى الذى سبقه بنحو قرن، وكذلك بما أورده أبو العلاء المعرى عن مصير بعض الشعراء الذين لم يلحقوا بالإسلام فى «رسالة الغفران»، التى تعتبر حلقة الوصل الرئيسية بين المنظور الإسلامى عن الجنة والجحيم وبين وصف «دانتى» للعوالم الأخروية. وقد وصف «دانتى» الجحيم باعتباره هاوية ذات درجات تنازلية، يقع الشيطان فى أدناها، ويقيم الخطاة فيها حسب خطاياهم. كذلك تناول مسرات وملذات الجنة، بتفاصيل رأى البعض أنها لا تستند إلى الكتاب المقدس بقدر ما تستلهم التراث الإسلامي، وخصوصا رحلة المعراج كما وردت فى الأحاديث النبوية وشروحها، التى تصف ما رآه النبى محمد صلى الله عليه وسلم خلال المعراج.

◄ رسالة الغفران
فى كتابه «علم الأخرويات الإسلامى فى كوميديا دانتى» الصادر عام 1919 يرى المستشرق والقس الإسبانى «آسين بلاثيوس» أن أثر التصور الإسلامى لعالم الآخرة واضح فى كوميديا دانتى، سواء فيما يتعلق بأجواء المعراج أو طبيعة الجحيم والجنة وتفاصيلهما الحسية. وهو ما ليس بمستغرب على الفترة التى عاشها «دانتى» حيث كان تأثير الثقافة الإسلامية قد بلغ مداه. وهناك تأييد كبير بين مفكرين ونقاد أوروبيين للفكرة، وإن اختلفوا حول ما إذا كان تأثره برسالة الغفران حدث بشكل مباشر أم عبر وسيط. كما أشار «بلاثيوس» أيضا إلى تأثر «دانتى» بكتابات ابن عربى، وإن كان الأدب المقارن ما زال يختلف حول مدى هذا التأثير.

و«رسالة الغفران» هى عمل نثرى يصف الجنة والجحيم والأشخاص الذين يعيشون بهما من الشعراء والرواة وغيرهم. وقد كتبها كرد على رسالة «ابن القارح»، معاصره الذى عاش بين الشام ومصر والعراق. ورسالته ليست طويلة كرد أبى العلاء، وفيها شكا له حال أهل زمانه، وضمنها تذكيرا بمصير من وصفهم بالملحدين والزنادقة فى دار الإسلام، وعدّ منهم المتنبى والحلاج وابن الراوندى وابن الرومى وأبى تمام. وأعرب له عن رغبته فى لقائه، كما حاول أن يصلح من سوء سمعته لدى المعرى، كناكر للجميل. وجاء رد المعرى برسالة الغفران التى جعل فيها «ابن القارح» يلتقى فى الجنة بفحول الشعراء، ويتعرف على الأسباب التى أدخلتهم الجنة وينعم معهم بمسراتها، ثم يذهب إلى الجحيم ليلتقى بآخرين ويعرف أسباب خلودهم فيها. وقد ذكر الدكتور طه حسين كون بعض «كتاب الفرنجة» قد أشاروا إلى تأثر «دانتى» برسالة الغفران، دون استفاضة أو تفنيد، على خلاف عادته.

◄ التواصل بالفن
أما المفكر المغربى «عبد الفتاح كليطو» فاستبعد أن يكون «دانتى» قد اطلع عليها، لأنها لم تترجم حتى عصره. وعلى العكس يطرح رأيا طريفا مفاده أن كوميديا دانتى هى التى أثرت على «رسالة الغفران»، لأنه منذ أشار الإسبانى «بلاثيوس» إلى تأثر دانتى بها، حظيت بالقراءة والاهتمام، وأعيد قراءتها فى ضوء الكوميديا بعد أن كانت مهجورة. والحقيقة أن من يقرأ العملين سيشعر بالتشابه الذى يصعب ألا يكون استلهاما مباشرا، أو توارد خواطر من نوع نادر. وعلى كل حال فالرؤية الإسلامية للجنة والجحيم قد تسربت دون شك إلى الفكر الغربى قبل عصر دانتى، وتنضح بها كوميدياه، التى صارت الملهم الأول للوحات وجداريات الغرب عن الآخرة. 

وأخيرا فليس مستغربا أن يكون الفن مجالا لتواصل التصورات بين الشرق والغرب، فالفنون بطبيعتها تعكس الروح العميقة للبشرية، وتنهل من التراث المشترك للإنسانية. وربما لهذا نجد روابط بين مبدعين تفصلهم وتباعد بينهم أزمنة وأماكن وثقافات.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 
 
 
 
 

مشاركة