صورة موضوعية
صورة موضوعية


في ديوَانىْ «حامِل المِرآة» و«يا هذ اااا تكلَّم لأراكَ»

أخبار الأدب

الأحد، 02 يونيو 2024 - 04:12 م

توحُّد الشاعر بنصِّه الشِّعْرِيّ، هو بين الاستعارات البليغة التى يمكن أن نصف بها تجليات الأثر الشعرى  فى الاعمال  الشعرية لصلاح بوسريف، وهو أثر يبلغ مطلق تجسيداته فى عملين شعريين وهما «حامل المرآة» و«يا هذ اااا تكلم لأراك».

ينفتح ديوان «يا هذ اااا تكلم لأراك»، على عنوان له دلالة رمزية تفضى بنا الى جوهر هذه الاستعارة، و العنوان هو «قطار عابر للماء» ص ـ 9، ويُخْتَتم العمل بالمُنَاصِص المُسْتَقَى من مقول لشمس الدين التبريزي، هذا نَصَّهُ  «ابْحَثْ عَنْ مِرآةٍ لِنَفْسِكَ». 

ومن مجازات هاتين الإشارتين، صُغْنَا وَصْفَ «عُبُور المرايَا»، باعتباره المَيْسَم البَلاغيَّ الذى يحبك نسيج العَبْر ـ نَصِّيَّة، فى تعالُقِ الشِّعرى والصُّوفِيّ، وفى انْبِنَاء نَصَّانِيَّة العمَلَيْـنِ المذكورين .

فى «حَاِمل المِرْآة»، يأخذ مَجازُ عُبُور المرايَا، شَكْلَ انْتِحَاءِ اللغة الميتا ـ شعرية، حيث نرجس الأنا الشِّعرى ينعكس فى غَيْرِياتِ مرايا القول الصوفى   (الحلاج – ابن عربى – السهروردى – جلال الدين الرُّومى – حافظ شيرازى – النُّفَرِيّ…)، و بموجب  هذه الدينامية الميتا ـ شعرية لتلاقى الأصوات واللُّغات والذَّوات فى متخيل عُبُور المرايا، يتحول القول الشعرى إلى أثر طِرْسِيّ / بَرْزَخِيّ، عابر لخرائطياتِ الذاكرة الشِّعرية، منشغلا باعادة تأسيس المعنى الشِّعرى فى إبدالٍ اخْتِلافيٍّ جديد، مُتجاوِزاً بذلك نمطية توظيف الرمز – القناع الصوفى توظيفا أيديولوجيا، كما ساد فى بعض التَّجارِب الشِّعرية التى انْكفَأَتْ على سِجِلِّ الخطاب الصُّوفِيّ، بحثا عن صورة البطل / الشهيد، وحيث مفهوم الغربة الصُّوفِيَّة يُماثِل وَعْياً اغْتِرابِيّاً أيديولوجيا، مع سياقِ الاسْتِرْفادِ لمفاهيمِ الالتزام، والشِّعر / الأطروحة القضية .

فى عمله الشعرى «يا هذ اااا تكلم لأراك»، يتجاوز الشَّاعِر العتبات الرمزية للتَّأسيسِ الميتا ـ شعرى ويُصَوِّب أفق التلقى نحو التَّماهِى المطلق لِنَرْجِسِ الأنا الشِّعْرِيّ، بالبَحْرِيّ اللُّجِّيّ الذى ينصهر فيه الحدَّان، (العرفان الجمالي، والعرفان الصوفي)، فى كثافة لغةٍ شعرية مُخْتَرَقَة باستطيقا عبور المرايا ـ دلالة القطار العابر للماء، ودلالة العنوان «يا هذاااا تكلم لأراك»  (ماء الشعر، ومرايا المجاز الصوفي).

كُتِبَ هذا العمل الشِّعرى بين مدينة المحمدية، حيث يُقِيم الشَّاعِر، ومدينة اسطنبول، ومرقد جلال الدين الرُّومى وشمس التبريزي، على هضبة الأناضول بمدينة قونيا خلال السنوات 2015 – 2017، حيث فى تجربة الكتابة، ينحو القول الشِّعرى مَنْحًى إسْرائِيّاً ـ مِعْراجِيّاً فى أقاليم المرايا  = مرايا الذَّات ـ مرايا اللغة ـ مرايا الجسد ـ مرايا الرُّوح ـ مرايا الواقع، والعالم، والوجود ـ مرايا التَّاريخ و الذَّاكِرة ـ مرايا الجغرافيات المقدسة، ومرايا الْتِقاءِ الشَّرق العَربِيّ بالشَّرق الأسيويّ.

تَـحْضُر «الرِّحْلَة الرَّمزيَّة» كَسَنَدٍ ارْتِكازِيّ، فى عُبورِيَّات المرايا، من خارج الذَّات، إلى داخلها، ومن داخل الذَّات، إلى خارجها، من معلوم وعيها، إلى مجهول لاوعيها، من انْتِسَابِها الى تُرْبَة التاريخ، إلى انتساباتها التَّجريدِيَّة الرَّمزيَّة  للمطلق الإنسانى. 
>
فى هذه الرحلة الرمزية تتجلى جوهرية السِّيمولاكَرْ المرآوِيّ، كصوتٍ يمحو أثر المُضاعَفَة، وفق سيرورة محو الانعكاس، لصالح لغة شعرية زاخِمَة بأثر الصَّوت الكَوْنِيّ / المتعدد.
نقرأ ضمن هذا التَّجَلِّيّ:  [ص 382 ـ 384]
لَمْ أمْحُ آيةَ اللَّيْلِ
وَلاَ مَحَوْتُ اسْمِى
آيَةُ النَّهارِ تجَلَّتْ فى رَائِهِ
بَلْ
فى هَوَائِهِ
فِى الرِّيحِ الَّتِى مِنْهَا كانَتْ
تَخْرُجُ  أَنْفاسِى
بَلْ
فِى أقْصَى الرِّيحِ الَّتِى     
جَاءَتْ مِنْ  غَيْماتِي.  
اسْمِى صَارَ غِناءً
صَارَ فَرَاشاً
مِنْ غُبَارِهِ تجَيءُ الحُقُولُ
وَشَجَرُ اللَّوْزِ والدُّرَّاقِ
وَالصَّافِنَاتِ مِنَ النَّخلاتِ العَامِرَة بالثِّمارِ
يَاااا بْنَ الرُّومِيّ انْهَضْ مِنْ تَكِيَّتِكَ
اخْرُجْ إلَى الأسْواقِ امْشِ فِيهَا كما تَشَاء
كُلِ الخُبْزَ الذى كُنْتَ بِعَرَقِ أنْفَاسِكَ بَلَّلْتَهُ
لِيَصِيرَ خَمِيرَةَ هَوًى 
بِهِ أَشْعَلْتَ نارَكَ فى كُلّ العُشَّاقِ
(…)
اشْعِلِ المِشْكاةَ
فَالوُجودُ مِشْكَاة    
نُورُهَا الغِنَاء مَا إنْ تَخْرُج أسْرابُ الطَّيْرِ مِنْ وُكْناتِها
حتَّى يَفِيضَ زَيْتُها بِنَارِكَ أيُّها العاشِقُ المُتَيَّم الوَلْهانُ
العِشْقُ فى جَمْرِكَ اللَّهَبُ.

فى هذا العبور  المرآوِيّ «الشَّاعِر ـ جلال الدِّين الرُّومِيّ»، لم يعد الصَّوْت الشِّعْرِيّ يَنْحَجِبُ بترجيع صدى ذاتِه، بل صار يكتمل فى مجازاتِ غَيْرِيَاتِه، يتوحَّد بالرمز فى فَيْضِ العُبور، حيث ماء النَّصّ، فى توَحُّد جريانه، يستعيد ينابيعه الأولى، مُتَمَثِّلَةً فى المعابر العليا للذاكرة الشعرية الإنسانية الكونية، تتوحَّد الكلمة الشِّعرية بنظائرها العليا، و تغدو انْخِطافاً فى بُروق مُهُوُدِ الكلام، وانْبِجاساً من دُكْنَة غيومِ النَّداوَة الطَّلِّيَّةِ، لماءِ أوَّلِ لسانٍ بعد أن يكون الشَّاعِر اخترق مَعابِرَ الاحْتِجَاب وتعرَّف على صوته فى صمته، وفى الهسيس الرَّمزيّ الذى يسبق المجيء إلى اللغة، وحلول الأسماء فى المسميات.

دأب القول الصُّوفِيّ الإشارِيّ على احتضان رمزيةِ سِرّ البَدْءِ والأزَلِ، وامتلاك حقيقةِ أنطولوجيا الوقت. صلاح بوسريف، فى هذا التَّجَلِّى يتَرَحَّل بالكلام من الأثر السَّمْعِيّ، إلى الأثر الرُّؤْيَ. و«يا هذ ااا تكلم لأراك» هو عمل مُرْبِكٌ للمشهد الشِّعري، بمجازات مرايا العُبور التى تضع الحَدْسِيَّ الرُّؤْيَوِيّ على حد الْتِماسٍ لمتخيَّلٍ حَوَاسِّيّ ـ بَرازِخِيّ، خِصْبٍ فى اكْتِنازِ ضَوْئِيَّةِ الإشارة، وشَطْحِ العبارة، حيث يسمع صوت الكلمة بلا صدى، وحيث تتضح الرؤية بلا ظلالٍ تحجب التَّعَرُّفَ على الجوهرِيّ الخالِص.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة