صورة موضوعية
صورة موضوعية


المنسيون بين ماءين

أخبار الأدب

الإثنين، 03 يونيو 2024 - 12:25 م

ليلى المطوع

«إنّا من الماء وإنّا إليه لعائدون»، هكذا أحاول فهم الأسطورة التى تتنبّأ بأن هذه الجزيرة التى ظهرت على حين غفلة، وانحسر عنها الماء، واتّخذناها سكنًا، ستعود إلى البحر. فُطِمنا على هذا النذير. وحين كنت أكتب العمل، أخذت أتأمّل بتأنٍّ التغيّرات الحاصلة فى الجزيرة منذ عقود مضت، لعلّى أعثر - وأنا أنبش الأسطورة - على إجابة لهاجس يسكنني.  

أشعر أن جيلنا خُدِع، هذا ما أقوله حين يسألنى أحدهم عن سبب كتابة «المنسيّون بين ماءين»، فما كنت أظنّه يابسة، أرضًا صلبة، كان بحرًا مدفونًا. ونحن نعرف أن هناك اختلافًا فى التركيبة، فاليابسة ثبات، والماء حركة دائمة.  

هذه الصدمة التى فجّرت لديّ سؤال الهُويّة: إلى أيّهما أنتمى حين يتصارع البحر المنحسر واليابسة الملتهمة لازرقاقه؟ فأنا ابنة جزيرة، والبحر يشكّل جزءًا من هويّتي، وهويّة أسلافي؛ فكلّ الأهازيج، وأغلب طقوسي، ومخاوفي، والحكايات التى تربطنا نسجتها مخيّلة الجدّات، كلّها جاءت مع حركة الموج المندفع والمتراجع. فحين حوصر الماء ودفن، تغيّرت أشياء فى الجزيرة، وغُيّبت الأغانى والأهازيج، وقُطعت روابط الحكاية.  

هناك ذاكرة جمعية تربطنا بالبحر، أذكر أنّى فى طفولتى كنت لا أخرج فى الليل خوفًا من «بو درياه»، وهو جنّيّ مخلّد فى الذاكرة. ولأنّنا فى أرض الخلود، فالخلود له أكثر من شكل، وها هو «بو درياه» مخلّد فى الحكايات، وهو جنّيّ طويل يتنكّر ويغنّى بصوت نسائيّ ليخدع البحّارة، وفى أوقاتٍ يصرخ مستنجدًا فيهرع الرجال لإنقاذ مَنْ ظنّوا أنّها امرأة بائسة، فيتشبّث بأحدهم ويغرقه.  

أستند فى عملى إلى هذا النوع من أساطير الماء التى تمنحنا خصوصيّة مختلفة عن باقى البلدان المجاورة، وأعود فى الذاكرة لأكشف عن حقبٍ تاريخيّة مغيَّبة ومتباعدة، ولكنّ ما يجمعها هو علاقة الفرد والمجتمع بالبحر الذى له عدّة شخوص، فهو الحامى للجزيرة، وهو الغدّار الذى يخطف مراكب الغوص، وهو الذى يفصل الجزر، فلا ينتشر الوباء. 

كنت أتبع الماء وكان البحر يتلاشى، ويبتعد موليًا ظهره. صور التلال الرملية الضخمة، التى صفّت على سواحله لتكتمه، كانت ترعبني، وحين يتحوّل إلى يابسة كان النورس يقف بوفاء كلّ صباح على الرصيف، يذكّرنا أن هذا بحره.  

نعود لهذا التغيّر الذى عاصرته، ولم أعرف كيف يمكننى شرحه، غير أنّنى شعرت بأنّ تغيّرات الأمكنة بهذه القساوة عنفٌ. ولأنّى اعتدت أنّ باب البحر، حين أحتار وتغلق كلّ الأبواب فى وجهي، يبقى مفتوحًا ومشرعًا لنا، ومثلما كنّا نتّبع البحر لنرمى له الأضحية، وهى نبتة فى سلّة من الخوص تسمّى «الحيّة بيّة»، واليابسة تتمدّد لتلتهمه وتحوّل ازرقاقه إلى لون بنّيّ، قرّرت أن أتبع حدود الماء. تتأسّس فكرة الرواية على مقاربة هويّتنا التى شكّلها الماء، وعلى رصد حركة تعاقب الأديان فى الجزيرة، فالآخر يجهل أن هذه الجزيرة بها تاريخ عميق، جاء به موج البحر، وتشرّبته. لكنْ حتّى أكتب كان عليّ معرفة هذا البحر، فكلّ صباح كنت أسير على الماء برفقة الصيّادين، لأتعلّم قراءته، وبحثت فى الذاكرة الشعبية غير المدوّنة وفى التاريخ المغيَّب عن قصص أعدت سردها، وعن حكايات لشخوص غيَّبها الزمن، فوجدت أوّل ذكر لـ«إيا ناصر»، وهو شخصية أدرجتها فى العمل الروائي، على ختم دلمونيّ يعود إلى ٢٠٠٠ سنة قبل الميلاد، يقع قرب مقبرة جماعية تحوّلت إلى طريق مرصوف بالقرب من محلّ إقامتي.

أمّا سليمة فاستوحيت شخصيّتها من بيت شعر يتحدّث عن مقاليت النساء، وهى المرأة التى لا يعيش لها ولد حتّى تطأ دم الشريف، فتقفز يمينًا ويسارًا على جثّته، فيموت الشريف ويعيش ابنها، وفى تاريخ الجزيرة الحديث كانت النسوة، فى حقبة الغوص والبحث عن اللؤلؤ، يقفزن على البيص، وهو هيكل السفينة، ليموت القلّاف ويعيش جنينها.

وفى ذاكرتى الفرديّة أنّ والدى كان يقفز يمينًا ويسارًا على أرض بيتنا الذى بُنى حتمًا على بحر مدفون، يابسة صناعية مخادعة، ليموت البحر الشريف، وتعمر الأرض بنسلنا نحن أهل الجزيرة، الساكنين على الماء. هذه الأساطير العابقة بالخصوصيّة المحلّيّة فجّرت فى داخلى ذاكرةً أحملها، وحرّضتنى على الكتابة.  

حرصت، فى الرواية، على بناء هيكل روائى خاصّ بها، فوضعت هوامش بين الفصول تتناول سيرة الماءين: المالح والعذب؛ البحرين. ثمّ حين تتبّعت سيرة اليابسة وجدت أن هناك يابسةً منحنا إيّاها البحر بكرم، ويابسة اغتصبناها نحن.  

أرثى البحر فى عملي، لقد مات، قتلناه، حوصر بمكعّبات رمليّة ودفن! أرثى بحرنا الذى يتميّز بجغرافيا خاصّة به؛ ففيه بحث جلجامش عن زهرة الخلود، كما أرثى الجزيرة التى كتبت الألواحُ السومريّةُ بعضًا من ذاكرتها، الجزيرة التى كانت الجنّة، فلا ينعق فيها غراب، ولا يقتل المرء أخاه. 

أركّز فى عملى على هذا البحر الذى يراه الغريب ماءً متلاطمًا، مزرقًّا ومخضرًّا فى مواضع، ولكنّه يخفى حقيقته أسفل جلده المائي، ففيه وديان وجبال ورمال متحرّكة، وحياة مختلفة، وماء عذب متفجّر... ومن هذا الماء العذب الذى يتفجّر وسط البحر المالح تتشكّل الأسطورة وهويّتنا واسم جزيرتنا؛ البحرين، فنحمل هويّته فى اسمنا، نحن البحرينيّين.  كلّ هذا ناله التغيير بسبب الزحف العمراني؛ لذلك أتناول، فى «المنسيّون بين ماءين» عدّة شخوص ابتكرتها، لكن خلق البحر هويّتها، وشكّلها بموجه، وأطرح سؤال الصراع الأبديّ إزاء هويّتنا: إلى أيّهما ننتمي: إلى التراب أو إلى الماء، ونحن قد خلقنا من طين وماء؟  

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة