صورة موضوعية
صورة موضوعية


أجيال ممتدة ومتداخلة

أخبار الأدب

الأحد، 16 يونيو 2024 - 03:12 م

ربما لم يتبق شىء من جيل التسعينيات الشعرى، سوى أصداء البحث عن الفردانية/ التجربة الشخصية، غير المسيسة، التى كانت تفرض نفسها على مناخ التسعينيات، وتجزىء المفهوم الشعرى الصوفى المجرد، ببعديه العاطفى، والحكائى، إلى وحدات صغيرة. 

فالحكاية، بمعناها الواسع، كانت جزءا من المشهد الشعرى فى التسعينيات، ومنها استقر قالب السيرة الذاتية، سواء فى الشعر أو فى أنواع الكتابة الأخرى.
 
ربما تبقى أيضا، من هذا العقد، بقايا الصدام العشوائى مع التابو، وبعض خيوط العدمية التى سايرت رحلة هذه الذات. 

من المهم أن لا نتمسك بمفهوم «الجيل الشعرى»، فالجيل الشعرى فى التسعينيات لم يكن مُمثلا بهذا الوضوح الكمى، لكن عبر أصوات فردية، اختصر فيها الجيل. 

ربما مصطلح «الجيل»، بخصيصاته القديمة، لم يعد مناسبا. لذا هناك تحفظ على مصطلح «جيل التسعينيات الشعرى»، فمنذ التسعينيات ومفهوم «الجيل» أصبح سائبا، لا صاحب ولا مرجع نقدى أو اجتماعى يمنحه المصداقية. ربما كانت هناك حقبة / عقد التسعينيات، ولكن ليس هناك «جيل شعرى» بالمعنى التأسيسى المكتمل، كجيل الستينيات مثلا، أو كالأجيال الأدبية التى تكونت عالميا إثر تحولات عميقة فى مجتمعاتها وفى العالم، ضد السلطة، وشكل أنظمة الحكم، كجيل 68.

يمكن أن ننفتح ونقول «جيل كتابة»، باختلاف النوع، بالرغم من امتياز النوع الشعرى فى التسعينيات، فى التعبير عن اللحظة. 

وبالتالى رصد ما تبقى من جيل التسعينيات، لا يمكن حصره، الآن على الأقل، على نوع أدبى محدد، كالشعر، ولكن على مستوى مناخ الكتابة بشكل عام، وتأكيد أشكال كتابية بعينها، وما يؤثر عليها من سياق اجتماعى متماس معها، ومتداخل بشدة مع أى فردانية.

«جيل التسعينيات الشعرى»، مجازا، أنتج أفكارا وسط حاضر سائل شديد التغير والتناقض، وأستعير هنا مصطلح باومان، حاضر مقيم ويعيد نفسه، لذا لم يشغل هذا الجيل زمن «الما بعد»، ولم يشغل هذا الزمن أى جيل فكرى/ نوعى آخر، حتى الآن، بحكم ظهوره داخل هذا الظرف التاريخى العالمى شديد التحول، وغير المؤاتى لأى تأسيس جماعى، أو ثبات لقيمة ما، غير الاستهلاك. 

أصبح هذا الجيل دائما يشغل زمن «الما قبل»، أو أنه جاهز ليتم تجاوزه باستمرار، ليس لفضيلة أو للخصيصات النوعية للأجيال التى ستأتى بعده فقط، ولكن لاضطراب طبيعة اللحظة، وسيولة مكوناتها الفكرية والقيمية. 

كان يمكن أن تكون ثورة يناير بداية لتكون أجيال جديدة متجاوزة، أو أجيال «الما بعد»، ولكن للأسف لم يحدث، ليس لعيب فى هذه الأجيال، ولكن لطبيعة الزمن الذى يصنف ويمنح ويمنع، ولطبيعة الأهداف التى تحدد معيار القيمة داخل هذا الزمن. 

فالأجيال الأدبية، مجازا، التى تلت جيل التسعينيات، أجيال متداخلة فيما بينها بلا سمات نوعية لأى منها - ولكن مع وجود تمايزات فيما بينها، وتجارب فردية لها خصوصيتها – ولا يمكن تقسيمها إلى 3 أجيال، على سبيل المثال، وجاءت كرد فعل على ما حدث قبلها. 

وللأسف لم تخلف ثورة يناير جيلا معبرا عنها لطبيعة تكوينها قصير الأجل، وللزمن المتغير الذى حدثت فيه، بجانب التكوين الطبقى الذى عبرت عنه. فلم تقدر هذه الأجيال على صنع زمن التجاوز أو « الما بعد»، وظلت حبيسة حاضر مقيم، هذا الحاضر الممتد منذ التسعينيات ربما.
 
وأفترض أن لو هذا الزمن«الما بعد»، تحقق فى الواقع، عندها كان يمكن رصد تأثيرات الأجيال السابقة، جيل التسعينيات مثلا، نقديا، بوضوح الآن.

إننا جميعا، أجيال قديمة وحديثة، فى الكتابة، وفى الحياة؛ جزء من هذا الجيل السائل، الممتد من التسعينيات، والذى يغطى حتى الآن أربعة عقود، حتى لو كانت هناك اختلافات نوعية، بين جيل وآخر، فلم تعد هذه الاختلافات تصنع نقلة جذرية. 

ولكن يمكن رصد سمتين داخل هذا الجيل الممتد السائل، من التسعينيات وحتى الآن، متعدد الأعمار، والمزاجية، والطبقات، والنشاطات:
السمة الأولى، والتى توحى بأن الثقافة مهما كانت تعثراتها فداخلها صيرورة ما، تنشط أحيانا وتخبو أحيانا. ألحظ هناك فى العديد من الكتاب الآن، إعادة أو صدى لفردانية/ سيرة نوعية، أو ظهور لقالب السيرة الذاتية الذى يعبر عن هذه الفردانية. 

هذه الذات/ السيرة، ربما بدأت رحلتها فى مصر منذ الأربعينيات. هذه الذات/ الرحلة مرت بمحطات وانقطاعات عدة، فعبرت على محطة الستينيات التى منحتها البعد السياسى والاجتماعى، والوجودى فى آن، ثم خبت، ثم عبرت على محطة السبعينيات التى منحتها الحس الصوفى الكلى، بوصفه تجليا فرديا وليس جماعيا، ثم عبرت على محطة التسعينيات وأخذت منها بعض ملامح تشكلها، بالأخص قالب السيرة الاعترافية، التى تتسم بهذا الجوهر الشعرى فى التعبير عن نفسها، شعرا ونثرا.

وأصبح هذا الجوهر الشعرى حاضرا اليوم فى العديد من الكتابات والقصص الصحفية، والتحقيقات الأدبية، التى تقع بين الأدب والصحافة، والتى تشكل ظاهرة بالنسبة لى.

السمة الثانية، ربما نرى أن صدى هذا الحضور لقالب السيرة كان له الأثر فى كثافة تمثيل المرأة كتابيا الآن، كجسد وكمكانة، خاصة بعد ثورة يناير. ليس فقط كتابة المرأة كفعل تحررى، ولكن إضافة بُعد جديد لهذه الكتابة من زاوية نظر نوعية: هذا الجيشان الحسى الذى لا يخضع لنظرية، أو لعاطفة مؤدلجة، فالحضور الكثيف للمرأة خلال العقود ما بعد التسعينيات، والممتد منذ الأربعينيات، فتح المساحة لتعدد زوايا الرؤية لمفهوم المرأة، ولتحطيم أى نظرية واحدة يمكن أن تُجْمل المرأة داخلها، بالرغم من وجود هذه النظرية، ولكن على ضفافها هناك بدايات جديدة.

لذا أجد من الصعب الآن، خلال العقود الأربعة الأخيرة، رصد تأثير جيل بعينه على الكتابة، ولكن محاولة رؤيته داخل سياق أكبر، وبالتالى محاولة تعقب أثار التحولات الدقيقة التى يتركها كل جيل خلفه، كدليل على حضوره ومروره على هذا المكان/ الفضاء الأدبى الكبير الذى يجمعنا.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة