د.محمد عبد الباسط عيد خلال حواره مع محرر «الأخبار»
د.محمد عبد الباسط عيد خلال حواره مع محرر «الأخبار»


الناقد الأدبي د. محمد عبد الباسط عيد: لكل جائزة «مزاجها».. والأدب لا يعترف بالنموذج

عبدالهادي عباس

الثلاثاء، 18 يونيو 2024 - 06:57 م

جزءٌ كبيرٌ جدًا من معركة بناء الوعي التي يقوم بها الوطن الآن يقع على عاتق المثقفين، فهم الأقدر على توجيه الأجيال الجديدة إلى مناطق النور التي ينبغي التركيز عليها وارتيادها، والابتعاد عن الأتربة الفكرية التي تلوث العقول وتؤدي إلى انهيار القيم المجتمعية، وفى هذا الحوار يكشف الناقد الأدبي، د.محمد عبد الباسط عيد، عن كثيرٍ من العثرات التي تقف غصّة في طريق انطلاقنا الثقافى نحو آفاقٍ أرحب تليق بتاريخنا الريادى في الثقافة العالمية؛ وإذا كانت العرب تقول إن آخر الدواء الكيّ، فإن «عيد» يؤكد أننا نحتاج إلى «قيامة» واحدة لتنهض كل المؤسسات دفعةً واحدة، وأننا نرتكز على الأمل، كما نرتكز على ماضينا فى اهتبال ما نستحقه من فم الزمان.. إلى تفاصيل الحوار:

 العمل الجيد لا يبقى فى الظل طويلًا.. وإبداعنا واقع تحت سطوة النموذج الغربى 

 المدونون و«اليوتيوبرز» حلّوا مكان الكُتّاب والمقال تراجع أمام «البوست» و«الكوميك» 

هل ترى أن الثقافة لم تعد القاطرة التى تقود المجتمع إلى التنوير والوعي؟
- بداية تحتاج كلمتا الثقافة والتنوير إلى ضبط وتعريف، والمؤكد أن الثقافة العربية المعاصرة متنوعة الروافد والاتجاهات، ولا يجب اختزالها فى اتجاهٍ دون غيره، ولا أخفيك أن التنوير العربى مارس لعقود قدرًا من الإقصاء للأصوات المختلفة ومعه، بمعنى أنه لم ينتبه إلى اختلافاتنا الثقافية وانشغل إلى حدٍ بعيد بتطبيق النموذج الغربى على ثقافتنا، وبذلك وقع فى التناقض الذى يفقده شرط وجوده، فشرط التنوير أن يكون إبداعيًّا خلّاقًا، ولم يكن تنويرنا كذلك فى علاقته مع التراث بشكلٍ عام، كان واقعًا تحت سطوة النموذج الغربى، أى أنه كان مقلدًا غير مبدع، وهذا يفقده مبررات وجوده وينزع عنه صفته، وأنت بالتأكيد تدرك غياب تأثيره على الوعى العام.

فراغ كبير!

لعلك تقصد بالثقافة هنا ما تقدمه المؤسسات العلمية ذات الصِبغة الرسمية كالجامعات ومراكز البحوث والصحف؟
- يؤسفنى القول، إن هذه المؤسسات فقدت بعض تأثيرها ربما منذ ثلاثة عقود أو أكثر، والأسباب يعرفها الجميع، إذ لا يمكننا الحديث عن الجامعة دون الحديث عن استقلالها وحرية البحث والنشر، وقل الأمر نفسه عن الصحف، وهذا ترك فراغًا كبيرًا استوعبته الدراما والسينما ووسائل التواصل الحديثة بمختلف أشكالها؛ فحَلَّ المدونون واليوتيوبرز محل الكُتّاب، وحَلَّ البوست والكوميك والفيديو محل المقال، وطغت أغانى الهامش على أغانى المتن (الأغانى الرسمية أو الأصيلة)، وهذا جعل مجتمعنا يعيش حالة سائلة غير مسبوقة على كل المستويات، ورغم ذلك، دعنى أؤكد لك، أنه لا شيء يعوض غياب الجامعة، الجامعة بطبيعتها مؤسسة طليعية، لا تقدم لنا خريجًا أو قارئًا ممتازًا فحسب، ولكنها، أو هذا ما يفترض، تقدم للمجتمع خريجًا واعيًا مثقفًا، وقادرًا على إنتاج الثقافة عبر التفاعل مع محيطه وعالمه؛ وخروج الجامعة أو عزلها جفف المنابع الثرة للثقافة، وترك فراغًا لا حدّ له.

■ يعتقد البعض أن هناك صراعًا بين الأنواع الأدبية على ذائقة المتلقى.. ما رأيك؟
- لا أتفق مع هذا الكلام، فتاريخ الأدب هو تاريخ التنوع، ولم يعرف الأدب فى أى وقت النوع الواحد، أو حتى النوع الصافى، وقد عرف أدبنا القديم الشعر بأغراضه وأشكاله، كما عرف إلى جوار ذلك فنون السرد: السير والمغازى، والأمثال، والأخبار؛ وبالتأكيد لكل نوعٍ طلابه، وقد يُهيمن نوعٌ على غيره فى عصر من العصور، ولكن هذا لا يعنى أننا إزاء صراع بين الأنواع على ذائقة المتلقى، ولكن الأدق أن نقول إن الذائقة الخاصة للمتلقى هى التى تبحث عن هذا النوع أو ذاك.

كسل نقدى!

ما مدى صحة المقولة التى تدعى كسل النقاد عن متابعة الأعمال الجديدة؟
- هذه مقولة منتشرة، ولا أتفق معها أيضًا، بل لعلى أذهب إلى ما هو أبعد فأقول، إن بها قدرًا من ابتزاز النقاد من ذوى المواهب المتوسطة أو الضعيفة! ولكن، دعنا نتفق على أن النقد صناعة ثقيلة، وليس من السهل أن تُعِدّ ناقدًا، فالأمر قد يتطلب سنوات طويلة، وهذا جعل النقاد قلة قليلة، أتحدث عن النقاد ولا أتحدث عن مدرسى النقد بالجامعات والمعاهد، ودعنا نتفق أيضًا على أن سهولة النشر وعدم وجود لجان قراءة لدى معظم دور النشر، قد أغرى هذا الوضع كثيرًا من الناس بالكتابة وفتح الباب واسعًا للادعاء؛ ومن هنا كثر اللغط حول غياب النقد.. النقد بطبيعته ينتخب، بمعنى أنه ينتقى العمل الجيد، ويتغافل عن الأعمال الضعيفة، والأعمال الجيدة، فى مثل هذا السياق، قليلة بلا شك..!

إذن، هل ترى أن الأعمال الجيدة تملك مقومات نجاحها بداخلها؟
- بالطبع، ولديَّ قناعة بأن العمل الجيد، رغم هذا الزحام، لا يمكنه أن يبقى فى الظل كثيرًا، العمل الجيد ينير بذاته، يدل على نفسه ويدعونا لقراءته، ولا يمكن تجاهله، وإلا فقل لى: ما النص الشعرى أو الروائى الفريد الذى تجاهله النقاد.. فى ذاكرتى الآن عدة روايات جيدة فحسب، ظهرت العام الماضى فقط، وكلها نال حظه من الدرس النقدى ربما بأكثر مما يتوقع كُتّابها.

لماذا لم يستطع الشعب المصرى تقديم مبدعين فى مستوى الأجيال السابقة؟
- الأجيال الحالية كانت تعانى ثلاثة أمور: الأول: رداءة التعليم فى كل مراحله، ومعه تراجعت قيم عزيزة، على رأسها تقدير العلم والإيمان به طريقًا وحيدًا للنهوض، بالإضافة إلى محبة الإتقان والتجويد، وهى قيم لا يمكن الإنجاز بدونها. الثانى: غياب الأسئلة الكبرى، والانشغال بجماليات اليومى والعابر، هذا مما نشترك فيه مع غيرنا من كُتّاب العالم (المتقدم)، أو هذا مما تأثرنا به، الثالث: غياب الحريات وتعاظم دور السلطة بأشكالها المختلفة: الاجتماعية والسياسية والدينية، والجميع يعرف أنه لا يمكنك الكتابة بشكلٍ جيد بلا حريات.

مزاج الجوائز!

دائمًا ما تُواجه الجوائز الأدبية اعتراضات واتهامات.. كيف يمكن الارتكان إلى كم الجوائز فى تقييم كيف الأدب؟
- لنتفق أولًا على أهمية الجوائز بشكلٍ عام، بل وعلى أهمية المنافسة فيها بين الكُتّاب والمبدعين، ولنتفق ثانيًا على أن لكل جائزة ميولًا وغايات، أو بتعبيرٍ محايد: لديها تصور ما عن الأدب والثقافة وهى تسعى للترويج لهذا التصور، وهذا يعنى ببساطة أن لديها نموذجها الذى تقيس عليه وتحاول ترسيخه، وفكرة (النموذج) ذاتها فكرة ضد الأدب، فالأدب يكون فى أفضل أحواله حين يعدل عن النموذج السائد ويستعصى على التأطير، وهذا يعنى أن العمل الفائز بهذه الجائزة أو تلك ليس بالضرورة هو الأفضل، ولكنه بالضرورة أكثر الأعمال استجابة لمزاج الجائزة ولكل جائزة مزاجها..!

ما السبيل إلى النهوض باللغة العربية وسط هذا الانفتاح الضخم على اللغات الأخرى؟
- دعنى أسألك أولًا: لماذا يصر أبناؤنا على تعلم اللغة الإنجليزية وإجادتها، ولا يجدون فى أنفسهم رغبة فى تعلم العربية فضلًا عن إتقانها؟ لا يحتاج الأمر إلى اجتهادٍ كبير، فالإنجليزية لغة العصر، والإنسان بطبيعته ابن عصره، وهو يتعلم المهارات التى تمكنه من الحياة فى عصره والتفوق فيه، وهذا ما تمكنه منه الإنجليزية لا العربية.. ما أريد قوله تحديدًا، إن حال العربية من حال أهلها، وإذا كان أهلها لا يشتركون فى صناعة الحضارة الحديثة ولا يسهمون فيها بأى نصيب، فكذلك اللغة..! وبعض العواصم العربية لا يمكنك التحرك فيها ودخول مطاعمها وشراء حاجاتك اليومية إذا لم تكن تعرف من الإنجليزية ما يكفى لمثل هذه الأمور! وأنا لا أتحدث هنا عن قاعات العلم والبحث، أنا أتحدث عن مفردات الحياة اليومية..!!

وكيف ترى المستقبل إن استمر الأمر على هذا النحو؟
- نسأل الله العافية، وأن تتمكن أمتنا من النهوض، فنموذجنا المعرفى الذى تحمله ثقافتنا جدير بالبقاء، ولكن إذا استمر الأمر على هذا النحو، فربما هى عقود قليلة، وتصبح العربية لغة العبادة، يقتصر حضورها فى الحياة على شعائر الدين وقراءة القرآن.

تحليل الخطاب

أعلم أنك مشغول بأفكار تحليل الخطاب الثقافى.. ولكن دعنى أسألك عن قراءة مستقبل الخطابات الدينية الآن؟
- الخطاب الدينى شأنه شأن كل خطاب، يقوم بين مرسلٍ ومتلقٍ، وله سياق؛ والخطاب الدينى خطاب بشري، وإن قام على الدين تأويلًا وتفسيرًا، وهذا يعنى أنه خطاب مشروط بالزمان والمكان، ويستمد قيمته فقط من قدرته على التفاعل الإيجابى مع تغيرات العصر.. وحين يعجز عن ذلك يفقد شرط وجوده، وتغدو آراء كثير من الفقهاء مادة للسخرية، ولا داعى لضرب الأمثال، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى أنت تسألنى عن مستقبل الخطاب الدينى تحديدًا، والحقيقة أن مستقبل هذا الخطاب مرتبط بمستقبل غيره من الخطابات، لا يمكننا دعوة خطاب إلى التغيير والتثوير بمعزلٍ عن غيره من الخطابات المتداخلة معه؛ فالخطاب الدينى جزءٌ من الخطاب الثقافى والسياسى.. والقاعدة تُقرر، أن الخطابات المتعاصرة يغزو بعضها بعضًا، فتتجدد معًا أو تتكلس وتتجمد معًا.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 

مشاركة