صورة موضوعية
صورة موضوعية


هل مضى زمن الشعر؟

عبدالهادي عباس

الأحد، 23 يونيو 2024 - 03:57 م

قضية تبدو جديدة ولكنها إشكالية قديمة سالت فيها أنهار من أقلام كبار الكتاب فى عدة عصور سابقة، ولكنها تبرز إلى السطح كل حين، عندما تتأزم الحالة الشعرية وتكثر الاتهامات بين الشعراء والمتلقين والروائيين؛ خاصة مع مزاحمة أنواع جديدة لهذه الفنون الأدبية؛ وقد كان التحقق الكبير الذى يحظى به الفن الروائى منذ نشأته، سببا من الأسباب التى دفعت نجيب محفوظ فى مساجلته الشهيرة مع الأستاذ العقاد إلى الإعلان صراحة منذ أكثر من خمسين عاماً أن هذا الزمن هو «زمن الرواية»، وهو ما أكده د. جابر عصفور بعدها بنصف قرن حين أصدر كتابه الشهير «زمن الرواية» عام 1999م، ليرد «أدونيس» بكتابه «زمن الشعر»، ليرد د. عصفور بكتابه «زمن القص»، ويكتب غيره: «زمن اللا شعر».. وفى هذا التحقيق نناقش هذه القضية التى لا  تزال مثار خلاف بين النقاد:

يؤكد د. شريف حتيتة، الناقد الأدبي، بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، أن الشعر العربى يواجه تحديات بالغة؛ لكنها ليست المرة الأولى؛ إذ سبق أن واجه تحديات أكثر ضراوة فى عصور سابقة، لكنه سرعان ما عاد بقوة؛ وليست حركة الإحياء منا ببعيد، فما يستند إليه الشعر من حضور متجذر فى المكون الثقافى العربي، وفى الذائقة العربية، يجعل فرص البقاء والعودة قائمة مهما كانت التحديات.

ويضيف د. حتيتة : أن تحديات اليوم قد تبدو شديدة، ولا أحسب الشعر يواجهها وحده، وإنما تواجهها معه شتى الأجناس الأدبية؛ ولا سيما تحدى الآلة بالمعنى الشامل، وإذا افترضنا أن أثر هذه التحديات أوضح فى حق الشعر؛ فإن السبب فى هذا ربما لافتقاد القصيدة شروط وجودها وشروط تلقّيها. فمعطيات السياق الذى يعيش فيه الشاعر اليوم لا يدعم إنتاج قصيدة ابنة هذا العالم، تنتمى إليه وتعبّر عنه، وإن ادّعى المدّعون قدرتهم على تحقيق ذلك، كذلك فإن تلقّى الشعر فى ظل إيقاع حياة لا يجاريه إيقاعُ القصيدة يبدو تحدياً حقيقياً.

ويتابع: إنه على الرغم من محاولات كثيرة تُبذَل لإفاقة القصيدة وإفاقة الشعر العربي؛ فإن الأزمة باقية؛ فقد اجتذب الشعر فريقين؛ الأول وقد تراجع حضوره اليوم، أخذ القصيدة نحو النخبة والخاصَّة فأسهم فى مزيد من عزلة الشعر والشاعر، والفريق الثانى وهو الأقوى اليوم، يحاول إعادة صوت الشاعر القديم، واستعادة الطقوس التقليدية فى تلقى القصيدة، وفى عودة الشفاهية بنية مركزية فى القصيدة، ومع ذلك فإن ما يفعله هذا الفريق، بما يملكه من منصات وأدوات ومحفّزات ودعم كبير للشعراء، لا يعدو أن يكون إفاقات موسمية سرعان ما يعود صوت الشعر بعدها إلى الخفوت. ولا سبيل فى رأيى للخروج من أزمة القصيدة اليوم إلا بالاعتراف بوجودها أولًا، وعدم إلقاء التبعة على المتلقى أو الحركة النقدية كما يزعم زاعمون، فهى أزمة نابعة من داخل القصيدة ذاتها، كذلك فإنه لا ينبغى التوارى خلف محاولات شكلية زاعقة يتزعمها البعض لإثبات الحضور والبقاء، ثم التوجه بصدق وبتجرد نحو التجارب المبتكرة المستجيبة لشروط إنتاج حقيقية، التى يمكن أن تنقذ الموقف الشعرى الراهن بعيدًا عن التقيّد بشكل فني؛ فضلًا عن فرضه قسرًا بإغراءاتٍ كثيرة.

اقرأ أيضًا| مريم ترى العالم عبر النوتة الموسيقية

الشعر بخير
ويقول د. هشام زغلول، مدرس النظرية والنقد الأدبى بآداب القاهرة : إن شعرنا الراهن فى أزهى عطاءاته، ومستقبل شعرائنا الشباب واعد جداً، بيد أن ضلعى المثلث الآخرَين ليسا على ما يرام. الشعر صناعة لم تزل أقلامها سيالة، لكن مقوماتها جفَتْها ورجالاتها هجروها، وكأنى بالشعر يردد مع أحمد حافظ: « أنا بخير ولكن الجميع مضوا»!

ويضيف: إننى عشت تجربة دالة مؤخراً فى ملتقى الأقصر الثانى لنقد الشعر، والذى جاء بعنوان: «تلاقى الأجناس الأدبية فى القصيدة العربية الحديثة»، هذا المكان المبهج، الذى هو كفيل أن يشعرك بمجرد أن تدخله أن الشعر بخير. ولا أبالغ إن قلت: إن الحالة الثقافية الرائعة التى يخلقها الشاعر حسين القباحى ومن معه من فريق العمل المتميز، تجعل مدينة الأقصر بكاملها، بدءاً من سائق التاكسى الذى يصطحبك من محطة القطار إلى الفندق، تحتفى بضيوف بيت الشعر، فالشعراء جميعهم عينة ممثلة لأجيال متعددة ولأشكال شعرية متنوعة. فمن جيل الكبار تجد: فتحى عبد السميع، وحسونة فتحي، وإبراهيم داوود، ومحمود خير الله، والحسين خضيري؛ ومن جيل الوسط: عبيد عباس، ومؤمن سمير، ومحمود حسن، ومحمد السيد؛ ومن جيل الشباب: محمد عرب، وخالد حسان، ونورا عثمان، وإسراء النمر.



زمن الصورة
ويتابع د. زغلول: إن تقوقع كل جنس أدبى على نفسه بات تصورًا محل نظر؛ فهذا الزمن هو زمن الصورة بخطاباتها البراجماتية المؤدلجة، أو هو زمن تحكمه ثقافة «التيك أواي»، وهى ثقافة تتجاوز ما هو مادى لتهيمن بالمنطق ذاته على مختلف النتاجات الثقافية وفى مقدمتها: الفنون والآداب. وبمزيد من المكاشفة أقول إن نظرة عجلى لأسماء هؤلاء الشعراء، مضافًا إليها آخرين تناولتهم تلك الدراسات أيضًا لكفيلة بأن توقفنا على أن الشعر بخير. ولنطمئن على مستقبل الشعر العربى يكفى أن نتذكر أن لدينا فى مصر وحدها شعراء نوابغ لهم أصواتهم وعوالمهم الشعرية وبصماتهم الخاصة؛ مثل: أحمد حافظ ومحمد عرب وحسن عامر ونورا عثمان وسلمى فايد وطه الصياد ومحمد إسماعيل وأحمد إمام ومحمد المتيم ومحمود سباق وعبدالرحمن مقلد وشريف أمين ومحمد ملوك ومحمود شريف وخالد حسان ومحمود حشيش وحاتم الأطير ومحمد هشام ويونس أبو سبع ومحمد العارف وأحمد سلامة الرشيدى.

هموم الواقع
أما الناقد د. محمود عبدالبارى تهامى، الباحث الأكاديمى بمجمع اللغة العربية، فيؤكد أن فن الرواية حقق قدرة على جذب اهتمام المتلقين فى الوطن العربى عامة، وفى مصر خاصة، لقدرته على تجسيد وتشخيص هموم الواقع، وأزماته، بالإضافة إلى قابليته إلى أن يكون فناً درامياً، مما كان سبباً أساسياً فى اتساع القاعدة الجماهيرية التى تتلقى هذا الجنس الأدبي، وازدياد حضوره على مستويى الإبداع، والتحليل النقدي، فضلاً عن التنظير الأدبى لتقنياته، وجمالياته.

ويضيف د. عبد الباري: أن فن الرواية وفنون السرد عامة، لا تتطلب من متلقيها أن يكون محتشداً بالأدوات التى يتطلبها تلقى الشعر، ذلك لأن فنون السرد تقدم أفكارها عبر التشخيص، والتجسيد، والتمثيل الذى يمكن أن تتلقاه على مستويى السطح والعمق، والرواية لا تشترط متلقياً متسلحاً بقدرات التنقل بين المعانى الظاهرة والخفية، فهى قابلة لأن تُقرأ من قارئ عادى الثقافة لا يعبأ بما وراء السطور أو قارئ فطن لديه القدرة على إكمال المسكوت عنه، وإن كانت بعض الروايات تُقدم بلغة يغلب عليها الغموض، والإيحاء، فإن هذا النوع غالبا لا يحظى بتلقٍ واسع من الجمهور، لأنه يتطلب قارئاً نوعياً له مواصفات خاصة.. ويتابع: إن إجابة السؤال ليست بالسهولة التى تجعلنا نقول مطمئنين : (نعم)، أو (لا)، ذلك لأن الأمر نسبي، ولأن كل نوع أدبى يؤدى غاياتٍ ومهام لا يمكن أن يؤديها غيره، وإن كان السؤال مقصوداً به هل ما زال الشعر موجوداً وحاضراً ومؤثراً؟ فالإجابة بكل تأكيد نعم، ولا يمكننا أن نعيش دون الشعر، ذلك لأنه الفن الذى يُحيى ما تبقى لدينا من إنسانية، عبر ما يجسده من معانٍ وقيم، فالشعر كان وما زال رمزاً للوجدان الإنسانى الجمعي.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة