نوال مصطفى
نوال مصطفى


يوميات الأخبار

أصدقاء الخلوة والأنس

نوال مصطفى

الثلاثاء، 24 أغسطس 2021 - 09:17 م

اسمع نصيحتى.. خذ موعدًا مع نفسك واذهب إلى مكتبة، اقرأ هناك، ولو لبعض الوقت، ستحس أنك محاط بجو عجيب يصعب وصفه من الألفة والجمال.


 لاشك أن الإنسان كائن اجتماعى، هذا ليس كلامى بل هو قول معروف للفيلسوف اليونانى أرسطو، وهو ما أكده العلامة ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة. لذلك يسعى الإنسان منذ طفولته المبكرة إلى تكوين صداقات تعطيه الإحساس أنه ليس وحده فى هذا الكون الواسع. بعض الصداقات تستمر ربما إلى نهاية العمر، وبعضها يضمر مع السنين، وتغير مقادير كل طرف من أطراف الصداقة سواء فى الزمان أو المكان.

صديق يسافر أو يهاجر نهائيا فلا يبقى منه إلا ظل فى الذاكرة، وصديق يتغير قلبه تجاه صديقه القديم فيصبحان غريبين، أو عدوين أحياناً.


 أنا شخصيَا محظوظة بأصدقائى سواء أصدقاء الطفولة والمدرسة، أو الأصدقاء الجدد الذين اكتسبتهم خلال رحلة العمر. وأرى أن الصداقة الحقيقية البعيدة عن لغة المصالح، علاقة جميلة، صادقة، تمنح الإنسان شحنة إنسانية وعاطفية تلطف جفاف الحياة أحياناً، وتساعد فى إزاحة أحمال القلب عندما يفضفض الإنسان إلى صديق، يتكلم، يبكى، يتعرى تماما فى بوح حميم، يثق أنه لن يخرج لأحد، ولن يستغل فيما بعد من قبل هذا الصديق المؤتمن.


 أحيانا يمنحنا الله البركة فى أصدقائنا فيصبحون العون والسند النفسى والمعنوى فى كثير من الظروف الصعبة التى تواجه كلًا منا، وأحيانا يخذلنا الصديق، وينقلب عدوًا، مفشيًا للأسرار، مستغلًا لنقاط الضعف، شامتًا فى الخسائر التى تلحق بنا، حاقدًا على الانتصارات والإنجازات التى نحققها. لذلك فالصديق المخلص رزق كبير يهبه الله لنا، أما الصديق الزائف فهو من نقم ربنا على عباده، اللهم باعد بيننا وبين تلك النوعية اللعينة من البشر.


أخلص الأصدقاء


 هؤلاء الذين لا خوف منهم أبدًا. يحرص الواحد منهم على أن يصبح الونيس، متاح فى الوقت الذى تطلبه، لا يتحجج بازدحام جدوله، وكثرة مشاغله ومسئولياته. هو دائما رهن إشارتك، يأتيك بكل حب حسب وقتك أنت ومزاجك، وحاجتك الحقيقية إلى لقائه، والتحاور معه. هو مفيد فى كل الأحوال، ليس له أية طلبات إلا أن تتعامل معه بالاحترام الذى يستحقه. سيكون مستعدا أن يرافقك فى سفرك سواء فى القطار، أو الطائرة. سيكون رفيقك أثناء جلوسك أمام البحر وحدك إذا استدعيته، وسوف يؤنس خلوتك فى حديقة تبحث فيها عن السكون والانفراد بنفسك.


 كثيرون يتكلمون عن الوحدة والخوف منها، أتعجب فعلًا حينما أسمعهم، وأود أن أقول لهم ليس هناك وحدة فى وجود الأصدقاء المخلصين المتاحين دومًا، تستطيع أن تجلس مع أحد هؤلاء الأصدقاء، أن تختاره فهو ليس نوعاً معيناً، أو لوناً محددًا، بل إنه  فضاء واسع من اختيارات لا عدد لها.


 يمكنك أن تحاور «حرافيش» نجيب محفوظ فى روايته العبقرية، وتسألهم هل الفتوة بطل شعبى، يعمل من أجل أبناء الحارة، ويعيد إليهم حقوقهم المنهوبة من أصحاب السطوة والمال أم إنه شرير يستغل قوته ونفوذه للحصول على مكاسب شخصية ووضع مميز وسط منطقته. أو تناقش إبراهيم عبد المجيد وأنت تعيش مع ثلاثيته الروائية الممتعة «الهروب من الذاكرة» وتسأله: هل أنت حزين جدًا إلى هذه الدرجة من تغير الزمن، دوران الدنيا بنا، وتبدل الأقدار؟ هل مزق قلبك رحيل الأصدقاء، وتدافعهم نحو بوابة السماء بسرعة فى الآونة الأخيرة؟ هل لهذا تهرب من الذاكرة؟


 هل جربت أن تأخذ موعدًا مع نفسك داخل مكتبة؟ ليست أية مكتبة، أقصد تلك النوعية الحديثة من المكتبات التى تخصص مكانًا لمرتاديها، يستطيعون الجلوس فيه، والقراءة فى هدوء على خلفية موسيقى خفيفة، هامسة مع فنجان اسبرسو، أو كوب شاى؟ أنا فعلت هذا الأسبوع الماضى، ذهبت وحدى إلى مكتبة الديوان فى الزمالك، اشتريت نسخة جديدة من رواية الحرافيش، رغم وجود نسخة منها فى مكتبتى بالبيت، وجلست أحاور أبطال الرواية الجذابة، الممتعة. وكانت تجربة تستحق أن تروى.


 اسمع نصيحتى.. خذ موعدًا مع نفسك واذهب إلى مكتبة، اقرأ هناك، ولو لبعض الوقت، ستحس أنك محاط بجو عجيب يصعب وصفه من الألفة والجمال. آلاف العناوين تحتضن وجودك المادى بينهم، يطلقون من بين أغلفتهم أنفاس فرحتهم بوجودك، تتسلل إلى روحك كأشعة تبثك طاقة إيجابية غير عادية، تتحرك عيناك على رفوف الكتب فتلتقى بأسماء كتاب تحبهم، وعناوين وأغلفة تحرك الساكن داخلك، تتحول الكتب إلى كائنات جميلة جذابة تكلمك، تبتسم فى وجهك، تؤنس وحدتك، تحدثك عن المخاض الطويل الذى عاشته فى عقل وخيال كاتبها قبل أن تولد، و تصبح بين يديك رهن إشارتك وقتما تحب. شيء أشبه بالحب غير المشروط الذى نحلم جميعا به. مشاعر سرمدية، ساحرة للحظات خاصة جدا.


غرفة المسافرين


 «الغموض سبب من أهم أسباب عشقنا للسفر، وبالمصادفة هو أهم ركائز الأدب العظيم. وقد اجتمعت لـ «الموت فى فينيسيا» كل عوامل الغموض الممكنة التى جعلت الرواية تتخطى قرنا من الزمان بكامل عظمتها».


 هذه السطور من كتاب «غرفة المسافرين» للأديب الرائع عزت القمحاوى، وهو نص أدبى مفتوح على كافة الأنواع الأدبية، كتابة عابرة للأجناس المتعارف عليها، موضوعه، أو المحور الرئيسى الذى يدور حوله هو: السفر.


 قد تتخيل أن الكتاب يحتوى فصولًا عن تجارب الكاتب مع السفر، أو أنه من أدب الرحلات. لكن الكاتب سيفاجئك بغير ذلك، سيأخذك فى رحلة، أو سفر من نوع خاص، فتجد نفسك مندهشًا، متأملًا  فى تفسيره للسفر باعتباره هروبًا من الموت، أو أنه موت مؤقت نعود منه إلى الحياة مرة أخرى لندرك أن غيابنا لم يوقف الحياة، وأن الوهم الذى عشنا فيه طويلًا، معتقدين أن أحباءنا لا يستطيعون الحياة بدوننا غير صحيح.  


 أحببت فى هذا النص البديع عدة أشياء، أولًا: أنها كتابة تلامس الروح بصدقها الشديد، وعمقها الصوفى فى رؤية النفس من الداخل، وكيف تتحرك مع الخارج، المتغير عبر السفر والمطارات، المدن الجديدة ووجوه البشر المختلفة.


 ثانيا: قدرة الكاتب على التقاط العادى، والمألوف لكل من خاض تجربة السفر وإعادة إنتاجه أدبيًا بصورة مدهشة. فى سرد شائق، يمزج بين تفسيره الخاص، وتجربته الشخصية النابضة بالمشاعر الإنسانية من جانب، وبين خلاصة قراءاته لكلاسيكيات مهمة فى الأدب العالمى «الموت فى فينيسيا» و»الأمير الصغي» بالإضافة إلى «ألف ليلة وليلة». 


 خلطة معجونة بحرفية عالية بين مشاهد حية عاشها، وتجارب كتاب آخرين خاضوا غمار السفر عبر المكان، أو الزمان.


 يخوض القمحاوى مغامرته الأدبية فى هذا النص الأدبى المختلف مبحرًا فى أعماق الروح، محاولًا فك ألغاز النفس البشرية، متأملًا تحولاتها مع السفر والترحال. يقدم لنا لوحات أدبية، فلسفية، يغلب عليها النفس الصوفى بعمق وبساطة. 


 يقول فى أحد فصول الكتاب: «ولا تعنى معرفة الذات اكتشاف المسافر لروحه فحسب، بل مقابلة جسده منفردًا والإنصات لأوجاعه والتعرف على التغير الذى اعتراه».


 إنه كتاب جدير بالقراءة. يجعلك تفكر كثيرًا فى تفاصيل كانت تبدو لك عادية، ويساعدك على الارتحال داخل نفسك بحثًا عن إنسانيتك المتوارية فى الزحام.


الفنان محمد فوزى


 أقر واعترف أننى من عشاق الفنان الأسطورة محمد فوزى. فهو فنان متوهج بعدة مواهب، وليس موهبة واحدة، فقد غنى، لحن، مثل، أنتج أفلامًا، أسس شركة «مصرفون» لصناعة الأسطوانات الموسيقية التى كانت أول شركة مصرية تنافس شركات الأسطوانات الأجنبية من حيث ارتفاع مستوى الجودة، وانخفاض السعر. لذلك ذهبت بسعادة وفرح لأستمع إلى باقة من أجمل ألحانه الأسبوع الماضى فى مسرح النافورة بدار الأوبرا المصرية. عشت ليلة مضيئة بأنوار روحه الحاضرة فى المكان، استثنائية بروعة ألحانه العابرة للزمن، تسمعها الآن فتشعر بنضارتها وتجددها، حيوية أنغامها، تدفق الجمل الموسيقية فى عذوبة وتجلٍ.


 كانت المناسبة هى الذكرى الخامسة والخمسون لرحيل كروان الغناء العربى محمد فوزى، وهو دور رائع تقوم به دار الأوبرا المصرية يستحق كل الشكر والاحترام، فهذا المكان رفيع المستوى هو ملتقى محبى الفن الحقيقى من مختلف الأجيال، رأيت المقاعد كاملة العدد، والمشاهدين يمثلون كل المراحل العمرية، بل لاحظت أن الشباب كانوا كثرة.

هذا الجهد يستحق أن نهنئ عليه وزيرة الثقافة الدكتورة إيناس عبد الدايم، و مدير الأوبرا المصرية الدكتور مجدى صابر.


 انقسم الحفل إلى فصلين، الفصل الأول قدم فيه نجوم حقيقيون من شباب فرقة الموسيقى العربية مجموعة من أجمل الأغنيات و الأوبريتات التى لحنها، أو غناها الفنان القدير ومنها: ويلك ويلك، راح توحشينى وغناهما الفنان الرائع أحمد عصام، الذى أتوقع انطلاقه فى سماء النجومية قريبًا جدًا. كذلك غنت أميرة سعيد أغنية  فين اللى شاغل قلبى، وشاركها أحمد عصام الغناء فى دويتو (مثلا مثلا).

غنت أجفان طه كل دقة فى قلبى ويا أعز من عينى. وغنى الفنان وليد حيدر قلبى بينادى عليكى، وليا عشم، ثم انضم إليه الفنان خالد شهدى والفنانة أميرة سعيد ليقدموا أوبريت (أبطال الغرام) وكم كانوا جميعا رائعين!


 بعد استراحة قصيرة، صعد نجم الحفل القدير الفنان محمد الحلو ليغنى منفردا لعدد من أجمل أغنيات فوزى، ماعدا دويتو (شحات الغرام) الذى شاركته الغناء فيه أجفان طه.

غنى الحلو حبيبى وعينيا، تعب الهوى قلبى، تملى فى قلبى يا حبيبى، مال القمر ماله، يا جارحة القلب، أى والله. صوت محمد الحلو الذهبى أطربنى وأسعدنى، لكن ما أزعجنى هو عدم جاهزية المسرح، وعدم ضبط  الإضاءة على خشبته أثناء فقرة نجم الحفل، وأحد أهم الأصوات العربية. أما ما مزق قلبى حقا فهى قصة محمد فوزى نفسه الذى لحن أكثر من أربعمائة لحن له ولغيره من كبار المطربين، ومثل فى اثنين وثلاثين فيلمًا، وأول من لحن فرانكو آراب أغنية «يا مصطفى يا مصطفى» وأول من غنى للأطفال «ماما زمانها جايه» و»ذهب الليل.. طلع الفجر».


 هذا الفنان الذى طور الموسيقى العربية وأهدانا أجمل الألحان التى تفيض بالبهجة والانتصار للحياة، أغنيات مانزال نستمتع بها حتى الآن. قاسى فى نهاية حياته القصيرة (1918-1966) من صدمة تأميم شركته التى كانت رائدة فى صناعة الأسطوانات الموسيقية، كذلك تم العصف به من بعض قادة الثورة عندما أشيع أنه كان مقربًا من الرئيس محمد نجيب. ثمانية وأربعون عامًا حافلة بالعطاء الفنى الأسطورى، جاءت نهايتها ميلودرامية، حيث أصيب «صانع البهجة» بالاكتئاب من جراء ما حدث له، ولم يمض وقت طويل حتى أصابه سرطان العظام، ومات مقهورا حزينا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة