كتاب الفلاح لعبد الرحمن الشرقاوي
رواية الريف.. حكايات معجونة بـ«العرق»
السبت، 18 سبتمبر 2021 - 03:00 م
حسن حافظ
يشكل الفلاح جوهر الحياة فى مصر، ففى الريف وحتى سنوات قليلة كانت تتركز القيم المصرية، وتفاصيل الحياة المنحوتة منذ آلاف السنين، والتقاليد المتوارثة عبر أجيال وأجيال، والعادات التى لا تتغير رغم توالى الأيام، كان الريف فى مواجهة المدينة التى استقبلت المحتلين وتغيرت طباعها مع مجيء الهجرات من الخارج، لذا ظل الريف هو منبع الحكايات والمخزن الذى تخرج منه أكثر القصص عذوبة وإنسانية.. شكلت عوالم الريف المصرى حالة شخصية وخاصة جداً، تكاد تكون كالبصمة التى ميزت أعمال الكثير من المبدعين المصريين، وأعطتهم الفرصة للتعبير عن تفاصيل دقيقة فى المجتمع تعكس الكثير من التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وانعكاسها على الريف الذى تحول فى العديد من الروايات لرمز يعبر عن مصر وكل ما واجهته من أزمات ومواجهة للاحتلال ومتاعب بناء الدولة بعد الاستقلال.
بدأت الرواية فى الاهتمام بالريف منذ بدايتها، فرواية "زينب" (1914)، لمحمد حسين هيكل، ظهرت بعنوان فرعى هو "مناظر وأخلاق ريفية"، ووقعها هيكل باسم "فلاح مصرى"، وتدور فى إطار رومانسى، كما ظهر الريف فيها من خلال منظور ابن المدينة الذى رأى فى الريف فقط المناظر الطبيعية والخضرة الجذابة على حساب تناول قضايا الريف.
وقدم طه حسين مجموعة من الأعمال التى كشفت أوضاع الريف ومشكلاته فى النصف الأول من القرن العشرين، بداية من نصه عن سيرته الذاتية "الأيام" (1927)، الذى تحدث فى الكثير من تفاصيله عن طبيعة العادات والتقاليد فى الريف المصرى، وكانت مصر وقتذاك تحت الاحتلال البريطانى المتحالف مع الإقطاع المصرى على قمع الفلاح صاحب البلد الحقيقى والوحيد.
ثم عاد فى رواية "دعاء الكروان" (1934)، وقدَّم بعض الآراء والأفكار حول تقاليد الريف وعاداته، وينتقد نظرة المجتمع التحقيرية للمرأة الذى يرى فيها عورة تستحق الوأد، ثم عاد وقدَّم مجموعته القصصية "المعذبون فى الأرض" (1949)، بعض النماذج عن واقع الريف الذى يعيش فى ظل فقر مدقع، وكانت هذه المجموعة فى رصدها لأزمة المجتمع تحت الاحتلال البريطانى مؤشراً واضحاً على قُرب انفجار المجتمع فى وجه الاحتلال والنظام الملكى كله، وهو ما حدث بعد نشر المجموعة القصصية بثلاث سنوات فقط فى شكل ثورة يوليو 1952.
وارتقى الحديث عن الفلاح والريف درجة مع صدور رواية "عودة الروح" (1933)، لتوفيق الحكيم، ثم إصداره رواية "يوميات نائب فى الأرياف" (1937)، إذ يقدِّم فيهما عرضاً وافياً لواقع الريف وحياة الفلاحين فى مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهو لا يجمِّل الحقيقة، بل يكشف إهمال السلطة الملكية المدعومة من قبل الاحتلال البريطانى للريف، لذا دعا الحكيم فى "عودة الروح" للثورة لإعادة الروح للفلاح الذى تحوَّل إلى رمز لوطن تحت الاحتلال، بينما يشن نقداً قاسياً فى قالب من الكوميديا السوداء لفساد المنظومة الإدارية والقانونية من خلال عمله الفذ "يوميات نائب فى الأرياف".
كانت ثورة يوليو 1952 منعطفاً مهماً فى مسيرة رواية الفلاح، فقد أصبح النظام السياسى مصرياً للمرة الأولى بعد التخلص من النظام الملكى والاحتلال البريطانى معاً، وبدأت الروح الجديدة تعمل عملها فى مخيلة أجيال جديدة من الأدباء الشباب الذين بدأوا ينظرون لمشكلات الريف بشكل أعمق، وبقدرة أعلى على الغوص فى تفاصيل الحياة اليومية للفلاحين، والتعبير عنها بكل دقة، فكانت البداية مع رائعة "الأرض" (1954)، لعبدالرحمن الشرقاوى، إذ تعد واحدة من أهم الروايات المصرية، فضلاً عن أنها واحدة من أهم وأعمق الأعمال الروائية فى عكس واقع الريف المصرى، فيما قبل ثورة يوليو، فقد قدم القرية على واقعها وحالها بعيداً عن أى تصورات رومانسية للريف متأثرة بالأدب الفرنسى أو الغربى عموماً، بل عمد لنحت ملحمة مصرية خالصة أبطالها من لحم الريف المصرى ودمه.
وعاد الشرقاوى لتيمته المفضلة فى رواية "الفلاح" (1967)، التى عادت للحديث عن مشكلات الريف، خصوصاً من قبل مجموعة من الفاسدين الذين يحاولون سرقة مجهود الفلاحين، إذ يستعرض البطل القاهرى ابن المدينة الذى يأتى إلى القرية ويرصد أزمتها التى تحول بين تحولها إلى الاشتراكية التى يرى فيها البطل الوسيلة الناجعة لحل مشكلات مصر، عبر سيادة قيم العدل والمساواة.
فيما قدم يوسف إدريس تجربة عن الريف، عبر روايته "الحرام" (1959)، سلط من خلالها الضوء على عمال التراحيل وهم أشد الطبقات تهميشا فى الريف على الإطلاق، كما قدم فى مجموعته القصصية "النداهة" (1969)، مجموعة من القصص التى تتعرض للكثير من الأفكار فى الريف، خصوصاً النداهة تلك الأسطورة الريفية الشهيرة، التى تتحول فى العمل الروائى إلى المدينة التى تغتال براءة ابن الريف. ولم تقف تجربة إدريس عند هذا الحد بل استلهم روح الريف فى بناء تجربة مسرحية مصرية خالصة، حين أعاد إنتاج فن الحكواتى فى رائعته المسرحية "الفرافير".
وقدمت الأجيال التالية تجارب شديدة النضج مثل عبدالحكيم قاسم وروايته "أيام الإنسان السبعة" (1969)، التى تغوص فى الأبعاد الصوفية المتغلغلة فى نسيج الريف، لتقدم إجابات عن أسئلة وجودية عميقة، بينما تألق خيرى شلبى، فى "الوتد" (1986)، التى تقدم الريف المصرى على حقيقته كما يعرفه كل من عاش تفاصيله بلا أى تخيلات أو تصورات رومانسية.
ونرى الريف حاضراً بقوة فى أعمال يوسف القعيد، خصوصاً روايته "الحرب فى بر مصر"، كما قدم خليل حسن خليل سيرة روائية فى عمله "الوسية"، التى يقدم فيها قراءة شديدة الواقعية للريف فى الحقبة الملكية، حيث تحالف رجال الملك مع الإقطاعيين وعملاء الاحتلال على استعباد الفلاحين المعدمين.
وعاد الاهتمام بالريف فى الرواية خلال السنوات الأخيرة، إذ كتب إبراهيم القاضى رواية "عزبة الباشا" (2014)، التى ترصد التحولات التى مر بها الريف خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وقدم كمال رحيم "أيام لا تنسى" (2018)، التى تدور فى عالم بيت العمدة ذاته، أما أشرف العشماوى فقدم تجربة عن الريف فى رواية "بيت القبطية" (2019)، حيث عالج موضوع الفتنة الطائفية، كما أصدر ممدوح عبدالستار روايته "جواز سفر" (2019)، أما محمد المنسى قنديل فقدم أحدث أعماله "طبيب أرياف" (2020)، التى تدور فى أجواء الريف المصرى فى لحظة تحولات مهمة وقاسية فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى، أما أحدث رواية عن الريف فهى "خالتى بهية" (2021)، لخليل الجيزاوى، التى يرصد فيها الأحقاب الزمنية المختلفة التى مرت على الريف المصرى.
من جهته، حلل الدكتور مصطفى الضبع، أستاذ النقد بجامعة الفيوم، ظاهرة رواية القرية، قائلا لـ"آخرساعة": "استلهم الروائى المصرى الريف بوصفه شريحة اجتماعية معبرة عن الحياة المصرية، ونظرا لخصوصية تجربة الريف فلم تتسع دائرة الكتابة عنه ولم تخرج عن الذين خبروه وكانوا على وعى بالحياة فيه، وهو ما يفسر أن نجيب محفوظ مثلا لم يكتب عن القرية المصرية أو عن الفلاح المصرى، لذا وظف الروائى الفلاح وفق ثلاث مراحل مؤثرة فى تشكيل الصورة ووظيفة الرمز، الأولى خاصة بالفلاح الديكورى فى المرحلة الرومانسية (زينب لمحمد حسين هيكل نموذجاً)، ثم الفلاح بوصفه شخصية فاعلة لها استقلالها ولها رمزيتها بداية من (الأرض) للشرقاوى حتى عام 1973، ليأتى بعدها فلاح الانفتاح أو الرامز للقرية المصرية بعد حرب أكتوبر وبداية من الانفتاح".
وأوضح الضبع صاحب الدراسة المهمة "رواية الفلاح.. فلاح الرواية"، أن الكتابة الروائية عن القرية تخضع لثلاث زوايا حسب السارد، فهناك الروائى المقيم، الذى يكتب عن خبرة بالمكان والبيئة التى يعايشها ولم يغادرها، كما نجد فى عمال مصطفى البلكى وأحمد أبوخنيجر ومنى الشيمى، وهيام عبدالهادى، وعصام راسم، وأحمد قرنى، وغيرهم ممن لم يغادروا بيئاتهم الأصلية، ويكتبون مستلهمين خبرتهم بها، ثم الروائى الزائر، والذى يكتب عن مكان يعايشه زمنا، مثل فتحى غانم فى رواية "الجبل"، كما كتب صبرى موسى عن جبل الدرهيب فى رائعته "فساد الأمكنة"، ثم نجد الروائى العائد، أى ابن المكان الذى عايشه زمناً، وانفصل عنه زمنا، وعاد للكتابة عنه، وتكاد تكون السمة الغالبة على الرواية المكتوبة عن القرية، كما نجد فى أعمال عبدالوهاب الأسوانى وبهاء طاهر والشرقاوى ومحمد مستجاب وعبدالحكيم قاسم وإدريس على وحجاج أدول، وشوقى عبدالحكيم، ويوسف أبورية، وعبدالفتاح الجمل، وغيرهم ممن قاربوا عالم القرية.
من جهته، يرى الدكتور شريف الجيار، أستاذ النقد الأدبى والأدب المقارن بجامعة بنى سويف، أن الفلاح المصرى شكل ركيزة أساسية فى بنية الخطاب السردى عموماً، والخطاب الروائى بشكل خاص، إذ انخرط فى لعبة الاستقلال الوطنى، وتجلى هذا بوضوح فى رواية توفيق الحكيم "عودة الروح"، التى جذرت لعلاقة الفلاح المصرى بالأرض وربطت بينه وبينها بتاريخ الفراعنة، واستطاع الحكيم أن يجعل من الفلاح فى الرواية جزءاً أصيلاً من الخطاب السياسى المصرى بل والخطاب القومى الذى يدعو لحرية الوطن واستقلاله فى مواجهة الاحتلال البريطانى من جهة، والقصر العثمانى من جهة أخرى، لذا أثرت هذه الرواية فى جمال عبد الناصر.
وتابع: "مع رواية (الأرض) للشرقاوى انتقلنا إلى مستوى أعلى فى رواية الريف، إذ قدم الشرقاوى رؤية لهيمنة الطبقة الإقطاعية على خيرات مصر، فى مواجهة تمسك الفلاح الأصيل بالأرض فى مواجهة خصومه، حيث نجحت هذه الرواية فى تجذير علاقة الفلاح بالأرض والانتماء للأرض المصرية".