محمود الوردانى
محمود الوردانى


كتابة

فى مديح محمد صالح (1- 2) صائد الفراشات

أخبار الأدب

السبت، 12 ديسمبر 2020 - 05:39 م

محمود الوردانى

 خلال السنوات الأخيرة من حياته، كان الشاعر محمد صالح ما إن يلتقيك حتى يفتش فى جيوبه، ثم يخرج بضع أوراق من الدشت الغامق( ورق الصحف)، ويناولها لك فى صمت، على الأغلب أوراق بها شطب وتعديل. ومهما علّقت على ماتقرؤه، أو حتى لو لم تعلق، فإن محمد صالح يستمع لك باهتمام مشوب بالخجل، لكنه لايعلّق مطلقا على ماتقوله.
 مرّت الذكرى الحادية عشرة على رحيله أخيرا 27 نوفمبر 2009 عن عمر ناهز السابعة والستين، وست مجموعات شعرية هى على التوالي: الوطن الجمر 1984، خط الزوال 1992، صيد الفراشات1996، حياة عادية 2000، مثل غربان سود 2005، ومجموعة أخيرة من القصائد، نشرها فى بستان أخبار الأدب وكان ينوى استكمالها إلا أنه رحل قبل ذلك، وصدرت ضمن الأعمال الكاملة له غداة الرحيل.
 على المستوى الشخصى كان محمد صالح صديق عمرى، أمضينا معا نحو أربعة عقود متوالية، وتزاملنا فى جانب منها فى الصحافة (بالمناسبة محمد صالح واحد من كبار أسطوات الصحافة الذين اعتادوا الشقاء فى بلاط صاحبة الجلالة، وكان آخر منصب تولاه هو مدير تحرير مجلة كل الناس)
 كان صراعه مع السرطان قصيرا لُحسن الحظ، رغم أنه كان من أكثر من عرفتهم من الأصدقاء صلابة وعنادا، وبعد ثلاثة أو أربعة شهور فقط ترجل وغادرنا، ففقدتُ سندا شخصيا وصديقا لم أتصور أن تمضى الحياة بدونه.
 كان الشعر بالنسبة له مسألة شخصية. كان ينازل الشعر من أجل الشعر فقط، وعندما طلبت منه صديقة صحفية أرشيفه لتقرأه قبل أن تجرى معه حوارا، كانت المفاجأة أن ليس لديه أرشيف أصلا، فلم يكتب عنه أحد، ربما باستثناء الراحل عبد الحكيم قاسم فى دراسة طويلة كان قد نشرها فى مجلة إبداع فى ثمانينيات القرن الماضى، وبعد ذلك بعقود كتب عنهد. جابر عصفور فى جريدة الحياة على الأغلب دراسة طويلة.
 ربما باستثناء هذا وذاك، لم يتناوله النقاد إلا بعد رحيله، وحتى بعد رحيله غفل عنه الأخيرون. وعل الرغم من اشتغاله بالصحافة، إلا أنه كان الأقل ظهورا. أعرف جيدا أن هذا الأمر لم يشغله، وأنه كان دائم السخرية من هؤلاء الكتاب الذين تلتقط لهم الصور وهم «يضعون أصابعهم فى مزاجهم» - تعبيره الأثير- ويطلقون التصريحات.
 كان ديوانه الأول «الوطن الجمر» 1984 ينتمى لقصيدة التفعيلة فى أرقى صورها وأصفاها، وربما كان صوت الهمّ السياسى آنذاك عاليا قليلا ومتماهيا مع أيديولوجيا الرفض للسائد، إلا أنه كان صادقا مع اختياراته آنذاك وانحيازه السياسى. أما ديوانه الثانى فقد تضمن عددا من قصائد التفعيلة، وعددا آخر من قصائد النثر.
 كانت درايته بالعروض وتمكنه من أسرار اللغة والنحو والصرف تتيح له أن يعبر عن همومه من خلال قصيدة التفعيلة، وعندما عجزت الأخيرة عن استيعابه، حطّم قيودها وكتب قصيدة النثر فى كافة دواوينه التالية. قصيدة النثر بالنسبة له كانت اختيارا واعيا. اختيارا جماليا. اختار صالح التقشف والتخلى عن الصورة الشعرية الموشاة الغنائية، اختار التخلى تماما عن منطق القصيدة الغنائية وصيرورتها، واختار أن يكتب قصيدة قائمة على الاستبعاد ثم المزيد من الاستبعاد بصرامة من أجل جوهر يجرى اكتشافه عبر الكتابة ذاتها..
 فى الأسبوع القادم إذا امتد الأجل أواصل الكتابة عن صاحب صيد الفراشات..

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة