سفيتلانا ألكسفيتش
سفيتلانا ألكسفيتش


الحياة استحالت إلى مسرحية مجنونة وخيالية

صاحبة جائزة نوبل «سفيتلانا ألكسفيتش»: الأحمق هو من يتنبأ بالمستقبل

أخبار الأدب

الأحد، 27 ديسمبر 2020 - 03:04 م

حوار: لايوش بالفلفى
ترجمة: رفيدة جمال ثابت

أثارت أعمالها جدلًا واسعًا واستنكارات رسمية، واعتقلتها السلطات الأمنية فى بيلاروسيا فى أغسطس الماضى. الكاتبة والصحفية سفيتلانا ألكسيفيتش، صاحبة نوبل للأدب 2015، تنبش بكتاباتها فى تجارب من عاشوا فى فترة الاتحاد السوفيتى وعقبها، مستخدمةً أسلوب الحوارات والمقابلات لخلق مزيج فريد ورحب من الأصوات التى تنطق بشهادتها على ذلك العصر. تتحرك أعمال سفيتلانا التوثيقية فى الحد الفاصل بين العمل الصحفى والأدبي، إذ أنها ابتكرت نوعًا أدبيًا مهجنًا تقارب فيه الواقع وتفرد فيه مساحة كبيرة للصوت البشرى الذى تعتبره أصدق الشهود. لذلك جاءت كتاباتها تاريخًا حيًا للثقافة السوفيتية وما بعدها. من أهم أعمالها «ليس للحرب وجه أنثوي»، «فتيان الزنك»، «صلاة تشرنوبل»، «آخر الشهود». يتطرق الحوار التالي، الذى أجراه معها الباحث فى الأدب السلافى لايوش بالفالفي، إلى أعمالها وموقف طبقة المثقفين فى القرن الحالي، وكذلك المعضلات الراهنة التى تواجهها البشرية.

• هل تضعين قواعد لمصداقية العمل أو الكلمة؟ وهل اضطررتِ إلى محاربة أصواتك أو عاداتك الزائفة؟
ــ استغرقت عشر سنوات على الأقل فى كتابة كل عمل، فكنت أسجل موادًا من مئات الأشخاص ومعالجة عشرات الآلاف من الصفحات، وفى النهاية يصير كل هذا كتابًا. كل شخص يعيش فى عصر معين يمتلك جزءًا صغيرًا من الحقيقة التى تمثل ذلك العصر، قد تدوّن هذه الحقيقة بالنسبة للبعض فى خمس صفحات، وبالنسبة لآخرين تُختصر فى جملة واحدة. هذا ما أنتقيه وأصغى إليه. وحينما تتجمع المواد الضخمة تطفو الأكاذيب على السطح، وأقوى الشهادات تطرد الأضعف والزائف، والحدس هنا يلعب دورًا فى غاية الأهمية، وبهذه الطريقة تتكون صورة عن تلك الفترة.
• قبل الشروع فى تدوين كتبك، هل شغلك موضوع اختيار النوع الأدبي، أو ربما استهلاك التقليد الملحمى فى نهاية القرن الـ 20؟ هل فكرت فى معالجة المواد فى إطار أدبى تقليدى؟
ــ كلا، جل ما أردته هو نقل الحقيقة، لا تساورنى أدنى رغبة فى الإبداع. الوقت يمر بغاية السرعة فى هذه الأيام، والأشياء تسير بوتيرة متسارعة، ما دفعنى إلى عدم الكتابة بطريقة تقليدية. ولهذا قررت الاستمرار فى هذا النوع الأدبى فى جميع كتبي، وأحاول مزج كل شيء يحدث فى زمننا. لا أرغب فى الكتابة بالأشكال التقليدية لأنى حينها سأفقد الوضوح والمصداقية. رُغم كثرة الكتاب الموهوبين، ما زال شاهد العيان هو البطل، وهو الشخص الذى أصدقه دومًا.
• هل وجهت لكِ انتقادات؟ وهل انتقدتِ نفسك؟
ــ ظل كتابى الأول «ليس للحرب وجه أنثوي» حبيس الأدراج لثلاث سنوات، واتُهِم بالنزوع للواقعية واللا عنف. قالوا إن كتبى مخيفة، وإن النصر فيها ليس عظيمًا، بل مفزعً. يريدون تمجيد النصر لأننا دفعنا ثمنًا باهظًا لإحرازه. وهذا ما يجعل قُرّاء كتبى لا يرغبون فى القتال والحرب. ثم كتبت عن الحرب السوفيتية فى أفغانستان فى كتاب «فتيان الزنك». ووجهت لى انتقادات أيضًا، واتهمونى بالافتراء على الجيش السوفيتى برغم أنه حرر أفغانستان وزرع الأشجار وساعد الحوامل ووزع الأراضى على الفلاحين. بينما قمت أنا بإظهار كيف أبادوا مئات الآلاف من المواطنين.
• فى ضوء الثلاثين عامًا الأخيرة، هل يمكن اعتبار العصر الجديد الذى نعيشه الآن هو نقطة تحول؟ وما خصائصه المميزة؟
ــ هناك شىء واحد يمكننى قوله بكل يقين: لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل. فيما مضى كنا نستطيع، حينما كان يطلب من الكُتّاب والفلاسفة قول ما يعتقدونه حول المستقبل، كانوا يجيبون، أو على الأقل يحاولون. لكن اليوم الأحمق فحسب هو من يتكهن بالمستقبل، إذ لا يمكن التنبؤ به مهما بلغت معرفتنا. على سبيل المثال يداخلنى شعور بأننا لم نطأ بعد عتبات القرن الـ 21، فالحروب ما زالت ناشبة والكراهية مستعرة مثلما كان يحدث من قبل. من الصعب أن أطلق عليه القرن الـ 21، لأنه لا يذكرنى بتاتًا بالمستقبل المشرق الذى تنبأ به أبطال تشخوف. لقد أضحت الأجيال منفصلة تمامًا؛ فهناك من عاشوا فى الفترة السوفيتية وآخرون لم يولدوا فيها. حينما كنت أعيد قراءة كتاب «زمن مستعمل» أدركت كيف يمكن لأفراد عائلة واحدة من آباء وأبناء وأجداد التعايش معًا رغم اختلافهم تمام الاختلاف، فلا يربط بينهم سوى لغة الحب. صار الناس الآن يستخدمون تقنيات مختلفة، فأضحت أفكارهم مختلفة، بل وأحلامهم كذلك. وهذا ما كشفته الابتلاءات الأخيرة التى أصابتنا، مثل فيروس كورونا. لقد كانت الانفلونزا الإسبانية من أفظع الأحداث على مر التاريخ، حيث راح ضحيتها ما يربو على 50 مليون نفس. لكننا بطريقة ما نسينا. الناس تنسى تقريبًا كل شيء خلال مئة عام. باغتنا فيروس كورونا ونحن عُزَّل تمامًا، فلم يتنبأ به أحد. الشىء ذاته ينطبق على الإرهاب. أتذكر حينما كنت أتحدث عن تشرنوبل مع فيلسوف فرنسى انتهينا إلى أن المستقبل قد انحرف عن مساره، وصار لا يمكن التكهن به بالمرة. وهذا هو أهم درس علينا تعلمه فى العصر الجديد.
• كيف تغير دور المفكر والمثقف فى ظل الظروف الراهنة؟ هل ثمة حاجة لاستراتيجيات جديدة فى الخارج والداخل؟
ــ لقد أدركت طبقة المثقفين الروسية تفتت كل شيء، لذا جرت محاولة لتوفير قاعدة وطيدة للناس متمثلة فى العودة إلى الدين. ومن الوهلة الأولى، بدا أن الناس قد وجدوا نوعًا من القوى السماوية. بإمكانى رؤية ذلك حتى فى البلاد المرعوبة من نهضة الكنيسة مثلما رأينا فى روسيا، لأن ما يقوله رجال الدين، والكنيسة برمتها، يذكرنا بالعصور الوسطى. لكن الدين لم يعد بوصلتنا الداخلية، لأننا لسنا مرتبطين به بشكل قوى فى الوقت الراهن. صار الناس لا يصدقون رجال الدين لأن هناك قلة من الحكماء فى الكنيسة يمكنهم التحدث بلغة اليوم. أتذكر يلسن وهو يكرر مرارًا: «اعطونى تفكيرًا روسيًا»، كأن أحدهم سيأتى ويخترع طريقة تفكير قومية، وعبارة «اعطوني» تبدو كأمر من حزب، وعلينا طاعته. لذلك، من ناحية هناك فيروس كورونا، ومن ناحية أخرى هناك قذائف القنابل والدبابات التى تحداها جيل بوتين، وأضحت ألعابًا، لأن الفيروس قام بما لم تقدر عليه الجيوش، قذف الرعب فى قلوب البشرية. لا يمكن للجيوش تغيير البشر أو حثهم على تأمل قيمهم ومعاييرهم مثلما فعلت تلك الميكروبات. صار الجميع تقريبًا محبوسًا فى منزله، شاءوا أم أبوا، مجبرين على التفكير فى حيواتهم، يبحثون عن قادة ومرشدين جدد يفسرون ما يحدث لهم بلغة اليوم.
• ما الذى يمكن لمثقفى القرن الحادى والعشرين الاعتماد عليه أو الثقة فيه أو التطلع إليه؟
ــ أرى أنه ما من جديد، فجميع الأشياء، السيئة والجيدة، مكررة. فى كتبى أحاول أن أقول إن حياتنا تتأرجح بين السيئ والجيد، والفرد عليه الاختيار بينهما. قبلًا، كان يمكن لطبقة المثقفين المساعدة أو أن تحل محل الكنيسة، على الأقل فى محيطنا الأدبي، وتعوض النقص. ولهذا سُميت بضمير الأمة. لكن اليوم ليس هناك وجود لهذه الطبقة. هناك مثقفون، لكن من الصعب فهم من هم بالضبط، وهل يدخل الكُتّاب والفنانون ضمنهم. من الصعب كذلك معرفتهم لأننا اعتقدنا أن جيلًا حرًا مستقلًا سيأتى. لكن من جاؤوا خدموا السلطة، ولم يحدث تغيير كبير. وهذا ما تقوله الشخصيات فى كتبي؛ إن الحياة الآن أصعب مما كانت عليه إبان الحكم السوفيتي، ويكمن السبب فى أن الأفراد فى عصر المال يمكنهم الاختفاء دون أن يتركوا أثرًا خلفهم. لن يعثر عليهم أحد، بل لن يبحث عنهم أحد. لكن فى الفترة السوفيتية لم يشعروا بتلك الحصانة مثلما يشعر الناس الآن. كانت تلك أوقاتاً نباتية (أى مرت دون سفك دماء، حينما كان السجن بديلًا عن الإعدام). انتهى زمن ستالين واليوم تولى اللصوص زمام الحكم. فى الوقت نفسه، نحن عُزّل تمامًا. من المشجع تكوين طبقة من المثقفين المستقلين لأن عليهم أن يكونوا مستقلين وغير متحيزين. لكن حينما يكون هناك الكثير من الخوف والكراهية حولنا يشعر الجيل الجديد بصعوبة فى اكتساب تلك الصفات. إننى أسافر كثيرًا هذه الأيام، وأتحدث إلى حشد كبير من الناس. أرى أن المصلحة المادية هى ما يهم الناس فى بلادنا، يريدون أن يروا لمحة من الحياة: امتلاك سيارة أجنبية، السفر إلى أى مكان، بناء منزل خاص بهم، إلحاق أبنائهم بمدارس بالخارج. فى الوقت ذاته، يريدون الديمقراطية لكنهم يبيعونها بمنتهى السهولة من أجل ممتلكات مادية. أعتقد أن طبقة المثقفين والمفكرين يشعرون بالارتباك أيضًا. وربما لهذا السبب لا نقوم بواجبنا تجاه الناس. إننا لا نتحدث إلى شعبنا، ولا نعرض عليهم أفكارًا ومقترحات جديدة، بل ينحصر الجدل فى «لوكاشينكو يجب أن يخسر» و«بوتين يجب أن يخسر». لكن الناس ما عادوا ينتظرون دعوة المتظاهرين، إنهم يخشون الثورة، ويعرفون جيدًا معنى أن يتمرد الروس. هذا التمرد وحشى يفتقد للمعنى. لذا ينشدون تغيير الحياة دون سفك دماء وبأقل ضرر ممكن. غير أنه من الصعب تحقيق هذا الهدف اليوم؛ من العسير هدم تلك الأنظمة الديكتاتورية أو الفاشستية. على الجميع المشاركة، لكنهم لا يستطيعون الفرار من هذه الدائرة فى الوقت نفسه، لأنها مخاطرة كبيرة. قل شيئًا وستخسر وظيفتك. قله بصوت أعلى وسينتهى بك المطاف فى السجن. وهكذا ندور فى حلقة مفرغة.
• قدرتنا  المشكوك فيها على السيطرة على الواقع أضحت أكثر وضوحًا وتهديدًا: أزمة اللاجئين مازالت تثير ردود فعل غاضبة ومتشككة ومطالبة بالعزل السياسي، والتغير المناخى يهدد الحياة على سطح الأرض. فى ظل هذه الظروف الاستثنائية هل يمكن للفنانين إدراك نطاق هذه الأزمة والتعبير عنها؟
ــ  لم يعد العمل الثقافى المعتاد فى المجتمع يتم عبر الفن وحده؛ إذ صارت الثقافة السياسية مهمة بجانب الفن اليوم، كما أضحت الأفكار التكنولوجية فى غاية الأهمية. كل هذه الأمور تتضافر معاً بانسجام. غدا نظام حياتنا أكثر تعقيدًا، إذ نستخدم تقنيات جديدة لا طاقة للبشر بها. ما زلنا فى البداية ولا يمكننا إيقاف مسيرة التقدم. إننا نعتمد بشدة على السياسيين أو معاييرهم، وللأسف لم يعد بإمكاننا التفاخر بشخصيات بارزة مثل تشرشل وغيره من الشخصيات العظيمة المعروفة. ما من سمات مميزة للرموز السياسية الآن، أضحت هناك ديمقراطية، والشعوب تصنع القرار، وتختار آخرين يشبهونهم، وهم الميديوكر من متوسطى الموهبة والقدرة. ورُغم أنهم ليسوا سيئين، إلا أن موهبتهم متوسطة. حينما أرى ميركل أشعر بالسعادة لأنها الشخصية القوية الوحيدة التى صمدت بين السياسيين. ربما يتنبأ وجودها بعصر النساء، ربما ستزداد قوة النساء. ولعل ذلك هو الطريق الوحيد لإنقاذ المستقبل، وإنقاذ العالم منا. بالطبع الفن مهم، غير أن ثمة أشياء أخرى كثيرة نتطلع إليها.
• هل هناك اتجاهات أدبية ملحوظة مماثلة لنهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الجديدة؟
ــ اعتقد أن الناس فى الوقت الراهن يثقون فى الشهادة الموثقة. لا أعنى الشكل التوثيقي، بل خليط من أشكال شتى. الواقع نفسه صار فى غاية الغموض، مبدع وغير قابل للتنبؤ ومراوغ، ولا يمكننا مجاراته ومسايرته. كنت اقرأ منذ فترة مذكرات تولستوى وجذبتنى عبارة تقول: «سيأتى يوم يكون فيه من العار اختراع شيء، لن يحتاج الكُتّاب إلى ذلك، بل وستكون أعجوبة لو استطعنا تدوين ما يحدث». وقد أثارت هذه العبارة دهشتى، تلك كلمات مؤلف عظيم ترك لنا أعمالًا فذة. لذا إن أعرنا انتباهنا لما يحدث اليوم، سنرى أن الحياة استحالت إلى مسرحية مجنونة وخيالية. انظر كيف تنفذ داعش عمليات الإعدام، فيتحرك الضحايا بأوجه مقنعة فى موكب بطيء نحو حتفهم. إنه ببساطة مشهد سوريالى. حينما سألت أحد مخرجينا، وكان مضطهدًا من الدولة ورهن الإقامة الجبرية: «اخبرنى، كيف هو شكل مكتب المحقق؟»، ضحك وقال: «لو نقلته إلى المسرح لن يصدقنى أحد. فهناك صورة لستالين يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار، وأيقونتان أو ثلاث، ومجموعة من مجلات الجودو». بالطبع لابد أن توجد هذه المجلات فى مكتب جميع المديرين والمسئولين، لأنها -كما نعرف- رياضة بوتين المفضلة. هل يمكنك تخيل هذه الصورة، هذا الواقع؟ لم أتخيل وجود هذا الخليط الغريب المتنافر فى مكتب شخص يقرر مصائر الآخرين، فيزج بأحدهم خلف القضبان وينفى آخرين ويجبرهم على العيش خارج البلاد. مثل هذا الشخص يقرر مصير دولة بالكامل، لأن الأمور جميعها مترابطة ومتصلة. ربما بصفتى كاتبة أعمال توثيقية وقعت فى حب الانعكاس التوثيقى للحياة. فى كل مرة أخرج وأتحدث مع الناس يخامرنى شعور بأن الحياة صادمة للغاية، ومن الصعب وصفها بكلمات؛ فمعرفتنا منقوصة ومخيلتنا قاصرة. ومع ذلك الحياة متدفقة، كأننا ندخل باستمرار إلى عصرٍ جديدٍ.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة