صفحات من الفسائل
صفحات من الفسائل


إلى فسائل أنور كامل

أخبار الأدب

الخميس، 31 ديسمبر 2020 - 03:33 م

علاء خالد

أحد المشاهد الملهمة، التى حفرت مكانا خاصا فى ذاكرتى، رؤيتى لأنور كامل، للمرة الأولى عام 91 فى أحد الثلاثاءات، كان وقتها فى الثامنة والسبعين؛ وهو يسير بين ترابيزات مقهى زهرة البستان فى الساحة الخارجية، ببذلته الكاملة ذات اللون الغامق، ويقوم بتوزيع «فسائله» مجانا على رواد المقهى من المثقفين.
طبعا كلمة «فسيلة» تردنا مباشرة لإحساس بالأمل فى مقابل النهاية، أى نهاية، سواء نهاية صاحبها أو نهاية الحياة. نتذكر الحديث الشريف «إذا قامت الساعةُ وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها». كنا بالنسبة له مجتمع الساعة الأخيرة الذى يغرس فيه «فسائله»، هذه الأوراق الصغيرة بحجم A4 والمكتوبة على الآلة الكاتبة، ثم يقوم بتصويرها وطيها إلى صفحتين A5.
كانت » الفسيلة» شبيهة بمنشور سياسى، فى حجمه وطريقة توزيعه يدا بيد. لاحظت التقدير الذى يحوطه ويصاحبه فى حركته بين الترابيزات، ولكنى شعرت بأنه تقدير موجه لأثر، هناك تبجيل واضح، ولكن بدون اتصال. كان واحدا من رائحة «زمن الأربعينيات الجميل»، بالنسبة للمجتمع السياسى والثقافى، بشكل عام، فى ذلك الوقت. بالمناسبة تم إطلاق مصطلح «الإنتلجنسيا» على هذه الجماعات الثقافية فى الاربعينيات. والمصطلح ذو أصل لاتينى راج فى القرن التاسع عشر فى روسيا القيصرية، ويطلق على النخبة المثقفة التى لها القدرة على التفكير. ظل المصطلح قائما ثم قل استخدامه فى الألفية الجديدة، وخرج من المصطلحات اليسارية المستخدمة، وربما حل مكانه مصطلح له طابع الإدانة للنخبة «جيتو المثقفين».
> > >
كانت تسبق أنور كامل «حكاية كبيرة» تتضمن انتماءه لجماعة «الفن والحرية»، التى تحول اسمها إلى «الخبز والحرية»، ربما لإضافة البعد الاجتماعى للفن، وأيضا علاقته بالسورياليين المصريين جورج حنين وكامل التلمسانى وفؤاد كامل أخيه، ثم إصداره لمجلة «التطور» بالإضافة لدوره السياسى ضد «الصهيونية». تشابكات فى العلاقات كلها تصب فى جانب استكمال ملامح هذه «الحكاية الكبيرة» التى تكونت حول حياته. جزء من حياته كان يرتبط بالكتابة، والجزء المكمل لها مطاردة الأمل الذى بدأ كبيرا فى الاربعينيات ثم انتهى بالفسائل فى التسعينيات.
 ربما لم يكن له لمعان ونجومية و«أنا» و باقى الفنانين والكتاب السورياليين، وربما كان أنور كامل يعيش بينهم بقوة هذا الوجود المؤسس وهذا الحلم الاجتماعى الذى يحمله بكثافة أكثر من الآخرين، أو ربما كان يمثل الجزء الواعى فى لاوعى خطاباتهم التحررية وغرائبيتها وألعابها السوريالية سواء فى أسلوبها أو صورها.
> > >
بالطبع كانت بذلته التقليدية لافتة لى، فقد كانت فكرة التحرر، وقتها، بالنسبة لى، ترتبط بالملابس، التى تعتبر الجلد الخارجى لصاحبها. ولكن تحرر الأربعينيات، عالميا ومصريا، كان أنيق الملبس، ويتركز فى مطاردة مساحات السلطة داخل المخيلة والخيال، بعيدا عن سلطة الملابس، ربما كونهم أتوا من طبقات برجوازية، فكان التحرر ومعاداة السلطة يدور حول شحن الخطاب الأدبى والفنى بوصفهما معتقدا.
سورياليو فرنسا كانوا أيضا يلبسون البذلات، وربما ما يضيف عليهم اللمسة السوريالية هى الأوضاع الغريبة الدعائية والصادمة التى كانوا يتخذونها أثناء التصوير بالإضافة بالطبع لنصوصهم ولوحاتهم، وهما الأهم فى تأكيد هذه الصورة.
> > >
قبل هذا اللقاء الذى جمعنى بالأستاذ أنور كامل كنت أقرأ عن هذه الشطحات السوريالية لأب السوريالية أندريه بريتون فى كتاب كميل قيصر داغر عنه، والبناء الأخلاقى الجديد الذى أسسته الحركة السوريالية، وصرامتها أيضا عندما طرد أبوها الروحى جان كوكتو ، وهو أحد الكتاب والمخرجين والمسرحيين المهمين، خارجها، بدعوى ممارساته الفنية الطفولية، وهو الرأى الذى تألم منه كثيرا جان كوكتو، وآخرون واخرون لأسباب أخرى، فقد كان سجل السوريالية مليئاً بالمواقف والانقسامات والجذرية الأخلاقية، كى ينقى هذه الجماعة «الإنتلجنسيا» من الفساد السلطوى أيا كان مصدره.
غرقت قبلها فى محاورات، أو مفاوضات، بريتون مع تروتسكى فى المكسيك، كـأنهما زعيمان سياسيان يقرران مصير العالم وطرق خلاصه. على جانب هذه المفاوضات تقف الفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، وتنشأ قصة حب بينها وبين تروتسكى ضيفها هى وزوجها الفنان دييجو ريفييرا الغارق فى علاقات مع أخريات. بالتأكيد كان هناك عالم أخلاقى جديد يتشكل، وكانت هذه العلاقات الاستثنائية والحوارات، ترسم حدود هذا العالم السوريالى «الحر». ثم صدر البيان أخيرا، وعليه توقيع تروتسكى «نحو فن ثورى حر»، الذى كان يمثل «النبى الأعزل»، كما وصفه إسحاق دويتشر راوى سيرته؛ لهامش عالمى إنسانى يجمع انتلجنسيا عالمية من المثقفين والسياسيين والفنانين،.
كان الاستاذ أنور كامل، والمثقف والمؤرخ والمترجم والشاعر بشير السباعى ( 1944- 2019) هما، بالنسبة لى، ممثلا هذه الحركة العالمية، بقوة القصور الذاتى، بروحيهما التبشيرية، حتى وفاة كل منهما. كان لبشير السباعى أيضا هذا الدأب فى العمل، والموسوعية، والالتزام السياسى، بجانب هندامه المحافظ ونظارته السميكة، والذى صدمتنى هيئته، عند رؤيته للمرة الأولى فى بداية التسعينيات، وعكس تماما ما صنعته مخيلتى عن هيئة «التروتسكيين»، قبل أن أرى أيا منهم.
> > >
عرضت على الأستاذ أنور كامل نشر قصائد لشعراء سكندريين، فى عدد من أعداد الفسائل. كان هذا النشر يمثل مدخلا شرعيا وله مصداقية بالنسبة للأوساط الأدبية، ووافق على الفور. ثم عاودت بعدها بعدة شهور وقدمت له عدة قصائد كانت سلوى، زوجتى فيما بعد، قد قامت بترجمتها من الإنجليزية لشاعرة هندية اسمها جنينتجالى ماتت فى عمر السادسة عشرة، وكان الديوان عبارة عن قصائدها التى كتبتها فى المستشفى قبل موتها الوشيك، تودع فيها أباها وأمها والحياة بشكل عام، برضا تام، وقدمتُ لها بنص قصير، وقام أيضا الأستاذ أنور كامل بنشرها فى عدد من فسائله، وأتذكر أن الشاعر والصديق ياسر الزيات قد أعاد نشرها بعد قراءتها فى مجلة الشعر التى كان يرأس تحريرها الروائى خيرى شلبى.
> > >
بعد وفاة الأستاذ أنور كامل مباشرة، أصدرت ديوانى الثانى «وتهب طقس الجسد إلى الرمز» شتاء عام 92 ، قبل معرض الكتاب مباشرة. كتبت على الصفحة الداخلية، بعد الغلاف الداخلى، إهداء له كان يتكون من اسمه على اليمين، وبجواره على الناحية الأخرى من الصفحة من أسفل زهرة سوداء، كأنى أهديها لروحه أو لاسمه. كان لأنور كامل تقاطعات سياسية وثقافية واجتماعية يتحرك فيها وتنتمى له ويتقاطع معها ومع ما تبقى منها. بينما كنت وافدا جديدا على مجتمع القاهرة الثقافى المتمثل فى زهرة البستان، وملاحقه، والذى كان شديد التداخل بين الفنى والسياسى، وأجياله السائلة داخل هذا المجتمع السرمدى، والمكان السرمدى، فأى فعل ثقافى يمكن أن يفسر سياسيا، وتلقى عليه عباءة الجماعة السياسية، وهو ماحدث. «وما علاقة علاء بأنور كامل؟». هذا هو الاعتراض الذى وصلنى بصورته المحسنة بالطبع، فقد دخلتُ هذه الجماعة الثقافية من باب خلفى ولم أدفع نصيبى السياسى سواء بالكلام أو بالفعل.
> > >
بالفعل لم تكن هناك علاقة خاصة تجمعنى بأنور كامل سوى هذه العلاقة البسيطة العابرة، وهذا التقدير للإرث الإنسانى والثقافى الذى يمثله، والفسيلتان المنشورتان، بجانب التاريخ العام الذى يخص الكثيرين. أخيرا اقتنعت بعد مناقشات حادة مع أصدقائى، بمجانية هذا الإهداء الذى كتبته، فعموميته تخص فقط من له علاقة مباشرة معه. طلب منى الأصدقاء أن يتحدد أكثر، أى جانب من أنور كامل له خصوصية عندى، فلم أجد سوى الفسائل، كفعل أمل أمام حائط النهاية. يومها شاركنى أكثر من صديق فى كتابة الإهداء الجديد بالقلم الجاف «إلى فسائل أنور كامل»، على نسخ الديوان المعدة للتوزيع باليد فى معرض الكتاب، وطبعا كان الإهداء بخطوط مختلفة. هناك بعض النسخ نزعت منها هذه الصفحة تماما ورقمها، ومن يدقق يكتشف غياب أحد الأرقام، أو يرى بقاياها الممزقة من الجانب. ولازالت عندى بعض النسخ عليها الإهداء القديم، آثرت أن أحتفظ بها كما هى.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة