زيارة أخيرة لأم كلثوم
زيارة أخيرة لأم كلثوم.. الحلم طريق استجلاء الذاكرة
الثلاثاء، 09 مارس 2021 - 01:28 م
بقلم/ نشوة أحمد
امتدادا لنصه الروائي الأول احافة الكوثرب انطلق الكاتب على عطا مصطحبًا شخوصه المحورية وعلى رأسها بطله المأزوم حسين عبد الحميد فى رحلة سردية جديدة إلى حيث مسقط رأسه بمدينة المنصورة فى ازيارة أخيرة لأم كلثوم، روايته الصادرة مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية ليستمر البطل النازح من الرواية الأولى بعد خروجه من المصح النفسى االكوثرب فى البوح واستجلاء الذاكرة والكشف عن المخبوء عبر منهج سردى مغاير لا تتواتر فيه الأحداث وإنما يقفز الراوى بانسيابية لافتة بين أزمنة وأمكنة متباينة تتصل - رغم انفصالها - فى بناء محكم وفي وحدة واحدة.
استخدم الكاتب منذ اللحظة الأولى حيلة سردية مراوغة ومحفزة على اكتشاف النص، والدخول إلي عوالمه عبر عنوان يحفز التساؤلات ازيارة أخيرة لأم كلثومب فمن تكون أم كلثوم وهل المقصودة هنا هي كوكب الشرق؟
ثم ما لبث أن كشف عن صاحبة الاسم وهى الخالة شقيقة الأم التى أسهمت فى اكتشاف وتشكيل وجدان الراوى وشاركته لحظاته المفصلية التى ظلت - دون غيرها- تتصدر الذاكرة فلم تتوارى ولم تخفت بل ألحت على البقاء إلحاحًا كان طريقًا لتحولها إلى عمل روائي يوثقها ويبقيها بعيدًا عن سطوة النسيان.
هكذا قرر الراوى عبر أسلوب من السرد الذاتي؛ أن يفضى بما عثر عليه في أروقة ذاكراته مخاطبًا القارئ أحيانًا، نفسه أحيانًا، بعض شخوصه أحيانًا أخرى، وصديقه الطاهر يعقوب فى أغلب الأحيان، يحمل بوحه صبغة من الحنين إلى الماضى رغم قسوته، وإن تعمد أبراز ما نضح به ذاك الماضى من عطب كما لو كان يقاوم أثرالحنين وما يفعله حين يُجمل قديمًا لم يكن له سوى وجه عابث وإن تفلتت منه ابتسامات خاطفة.
ورغم اتساع الفضاء الزمنى الذى جمع بين الحاضر والماضى فإن كلًا من عامى 1981، 2018 كان لهما النصيب الأكبر من الأحداث التى رسخت فى ذاكرة الراوى والتى توزع بعضها بين التماثل والتقابل فهو فى عام 1981 يحتفل للمرة الأولى بعيد ميلاده الـ 18على أنغام جيتار عمر خورشيد، يغادر الطفولة ويضع قدمه على أول الطريق آملا فى الحرية والحياة بينما فى العام 2018 يحتفل ابنه بعيد ميلاده الـ 18 أيضًا ولكن على أغانى المهرجانات مع رفاقه الشباب دون أن يسمح لأختيه بالمشاركة كنتيجة تتسق مع ما بات يعترى المجتمع من نزعات ذكورية وتدين شكلى.
فى العام 1981 يرحل يحى الطاهر عبد الله، المبدع الذى أحيا الدهشة لدى الراوى وكان نقطة انطلاقه، تشارك إسرائيل للمرة الأولى فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته الثالثة عشر، تبرز الجماعات السلفية والأصولية وجماعات الإسلام السياسى التى قامت باغتيال الرئيس السادات بعد فشل محاولة اغتياله أثناء زيارته للمنصورة فى العام نفسه، وأحداث أخرى خارج الحدود المصرية شهدها نفس العام، وفى العام 2018 يصدر بيان مراسلون بلا حدود الذى رصد ما تعانيه صاحبة الجلالة من تضييق على الصحفيين وفات التقرير التركيز على دخولهم الزهيدة ومعاناتهم من أجل عيش كريم بينما يُدعى الراوى للتوجه لإدارة الكسب غير المشروع لتقديم إقرار ذمة مالية! وفى ورشة تصليح السيارات يطلب منه إبراهيم السمكرى أن يجد له اواسطةب تساعده على شراء كارنيه نقابة الصحفيين!
ورغم استحواذ هذين العامين على النصيب الأكبر من الأحداث التى تناولها السرد؛ اتسع الفضاء الزمنى ليشتمل على ما بينهما وما قبل عام 1981 فاستعاد الكاتب مشاهد من حياته الأولى فى عزبة عقل بالمنصـــورة؛ جســـد عبرها - بحرفية بالغة- نضال طبقة عريضة يمثلها؛ من أجل العيش، فالراوى يعمل منذ نعومة أظافره فى مهنة التحبيش اربط أقفاص الخضر والفاكهةب، وفى حمل الحقائب بمحطة أتوبيس شرق الدلتا بينما كان أبوه بائعا متجولًا وواحدًا من أولئك الذين يجتازون معارك يومية من أجل الحصول على لقمة العيش، ولم يستحوذ الهم الشخصى كليةً على الكاتب بل تجاوزه إلى الهم العام، فتناول اشكاليات وقضايا اجتماعية وسياسية خطيرة أرقت الواقع المصرى على مدى عقود عديدة كان أهمها تغلغل الإسلام السياسى فكرًا وتطبيقًا، واعتماده رسميًا على أعلى مستوى وعبر السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وما نتج عن ذلك من آثار، وتطرق إلى قضايا أخرى كالتفاوت الطبقى، التضخم وتدهور قيمة العملة والأزمات الاقتصادية الطاحنة التى تضرر منها قطاع كبير فى المجتمع لا سيما من المثقفين والصحفيين، تراجع التعليم، العنف، الشذوذ والتنمر الذى لطالما أنّت منه طبقات وفئات عمرية مختلفة ما دفع طفل قصير النظر للتخلى عن نظارته الطبية تجنبًا لتسميته اأبو أربع عيونب ودفع ببالغ ذى حيثية اجتماعية لمعايرة مريض بمرضه النفسى غير أن ذلك لم يجده الراوى مدعاة للخجل بل قدم ضمنًا ما يدحض مفاهيم مغلوطة شائعة تخلط بين صحة النفس وصحة العقل فمازال حسين عبد الحميد يفكر، يحلل، يستنتج ويضع الاحتمالات حتى وهو فى ذروة انهياره النفسى.
لم يتوقف الكاتب عند همه الخاص أو العام وحسب وإنما تخطى حدود المحلية إلى قضايا إقليمية وعالمية شائكة فتطرق إلى العبث الأمريكى والتدخل فى شئون دول المنطقة وقيام الإدارة الأمريكية بنقل سفارتها إلى القدس باعتبارها عاصمة أبدية لإسرائيل وتناول ذمشككًا- ما تداوله البعض بشأن سيطرة أسرتين أمريكيتين روتشيلد وروكفلر على مقدرات العالم.
خصوصية الشخوص
لم تكن شخوص الرواية شخوصًا مألوفة وحسب بل كانت على الأرجح شخوصًا حقيقية، بدا ذلك فى التشابه الكبير بين حسين عبد الحميد والكاتب وبدا أيضًا عبر استدعاء أسماء حقيقية من الوسط الصحفى وكذلك عبر استدعاء أحداث حقيقية وأسماء أعلام من الوسط السياسى والثقافى المصرى والعالمى، لكن من جهة أخرى لم يحرم الكاتب شخوصه نصيبها من الخيال باعتباره بصدد عمل روائى وليس سيرة ذاتية أو مذكرات لذا استخدم الرمز فى الإشارة إلى بعض الشخوص مثل شخصية فخرى ماتوسيان، وجاءت شخوص أخرى نتاج خيال محض؛ منها شخصية عقل التى - رغم صبغتها الغرائبية- تزامن حضورها مع بروز خلل ما، فى إشارة دالة على ما يسفر عنه الشطط وغياب العقل من تمزق المجتمع وتجلى العطب والعكس بالعكس أيضًا.
أفرد الكاتب مساحة كبيرة من السرد لشخوصه النسائية فهن كن بعض أسباب انهياره النفسى وإن كان لاكتئابه جذور عميقة قابعة فى زمن بعيد يسبق دخولهن إلى عالمه، فسهام احبه الأولب تنحت فى بداية الطريق، ودعاء الزوجة لم تكن سوى عبء على كاهلة وماكينة لتوليد االنكدب بينما كانت سلمى سببًا فى انهياره الأخير ودخوله الكوثر، ورغم إيمان الراوى أو الكاتب أو حسين عبد الحميد بأن المرأة يمكن أن تكون منقذًا ودواءً كما فعلت ميلندا التى ساعدت براين ويلسون المريض النفسى ونجم فرقة ابيتش بويزب على النجاة، فلا امرأة من نسائه الثلاث فعلت!
إسقاطات ورؤى
عمد الكاتب إلى استخدام الرمز لتمرير بعض من الرؤى والإسقاطات السياسية بين ثنايا النسيج فالتقطت عدسته لافتة يذيلها توقيع مصطفى السمين، بينما تتسول عجوز بائسة بقايا الطعام فى إشارة إلى طبيعة المؤيدين لأى شىء وكل شيء مادامت بطونهم ممتلئة ولا يعنيهم أمر أصحاب البطون الفارغة، كذلك جاء استدعاؤه لقصة عاشور المرأة التى انتهكها أبوها، وربطه ذيوع حكايتها بمقولة الرئيس السادات ااعلموا أن للديمقراطية أنيابًاب كنوع من استنكار فكرة أن تفترس الديمقراطية أبناء الوطن، بدا الرمز أيضًا فى حديث الراوى عن محمد ابن خالته الذى حمل اسم خاله الشهيد فى حرب 1973 والتى قال عنها السادات أننا سنخرج بعدها من عنق الزجاجة، لكن محمد مات رضيعًا ما يحيل إلى يأس الكاتب من إمكانية تحسن الأوضاع!
الحلم والمونولوج
اتسق استخدام الكاتب لتقنيات السرد الذاتى، المونولوج الداخلى والحلم بكثافة داخل النسيج؛ مع غايته فى سبر أغوار النفس واستجلاء الذاكرة والكشف عن المخبوء والمجهول والكامن فى عوالم اللاوعى، تلك العوالم التى كانت تجافى وعى الراوى تارة وتارة أخرى تتسق معه وفى هذا وذاك يبقى العقل الباطن واللاوعى - الذى يجد متنفسًا فى الحلم- الأصدق والأقدر على نقل حقيقة النفس ففى حلم الراوى بزوجته وقد أخفاها عنه أحدهم وبكاءه لغيابها إشارة لصمودها فى جزء من نفسه رغم تمنيه مرارًا ألا يجدها فى منزلهما حين عودته، بينما فى حلمه بنساء أنيقات يحطن به ويطلب منهن ما يثبت حصوله على الثانوية العامة دون أن يلبين طلبه وهدوئهن رغم صراخه، إشارة من لا وعيه بعجزه ربما- عن إيجاد منقذته التي بمقدورها مداواة جراح خلفتها الذاكرة حين استدعت وحين أسقطت.